محمد النسر
شكّلت عملية اغتيال سمير القنطار داخل سورية حدثاً مهماً استحوذ على مساحة كبيرة من وسائل الإعلام، على رغم الفاجعة الكبيرة التي تعاني منها المنطقة ككل وحجم الحروب والدم من العراق إلى سورية وفي اليمن وشبح الإرهاب الضارب في كل المنطقة. على رغم ذلك كله استطاع هذا الخبر احتلال هذا الاهتمام الإعلامي، ليس لأهمية الشخص في خريطة الصراع بين محور المقاومة والاحتلال الإسرائيلي فحسب، إنما لأسباب أخرى من ضمنها التشكيك بالروايات الرسمية عبر محاولة ربط الغارة الإسرائيلية بمعلومات استخبارية روسية، ضمن خطة التعاون الأمني بين روسيا وإسرائيل «غير المعلنة» حتى الآن داخل سورية.
نظرية المعلومات المسرّبة عن القنطار ومجموعته ليست فرضية ضعيفة إنما مرجحة جداً، في حال مقارنة هذا الحدث بأحداث أخرى سبقته ترسم ملامح صراع خفي يدور في كواليس النظام الأسدي، يظهر في العلن كصراع نفوذ بين روسيا وإيران، ويخفي في كواليسه صراعاً عميقاً بين جناحين رئيسيين في النظام.
ونذكر عجز النظام عن إخفاء حقيقة مقتل رستم غزالة والذي بات شبه مؤكد أنه تعرض لاعتداء جسدي من عناصر الأمن العسكري في الوقت الذي كان غزالة يدير فرع الأمن السياسي قبل وفاته. رستم غزالة كان يعتبر توجُّه الأسد نحو حضن إيران والاستعانة بالميليشيات الطائفية المتطرفة خطة جبانة وتهدم أسطورة الأمن والجيش السوري التي بنتها الاستخبارات، ويشكل خطراً على هذه المنظومة المعقّدة. وتصاعدت الحدّة بينه وبين الضباط المنسّقين مع إيران و «حزب الله» وبلغت أوجها عندما وصلت المعارك إلى مشارف قريته (قرفا بالقرب من درعا) ومحاولة فرض إدارة المعارك هناك من قادة حزب الله، فكان ذلك بمثابة الإهانة لرستم غزالة الذي كان يعتبر أن قادة حزب الله كانوا يطلبون ودّه عندما كان حاكماً في لبنان ويقفون بالطوابير أمام مكتبه حتى يتنازل لمقابلتهم. بُعيد مقتله مباشرة بات الانقسام أوضح في صفوف النظام بين بشار الأسد كراعٍ للوجود الإيراني وبين رافض له، حيث مثلت حادثة غزالة رسالة واضحة بأن هذا مصير من يحاول الاعتراض.
حسم بشار الأسد قراره بشأن تعاونه مع إيران والميليشيات الطائفية العراقية و «حزب الله» اللبناني، وبدأ عملية تضييق أكبر على الضباط والقادة المعارضين له، بالإضافة إلى تسريبات حول مساعي «حزب الله» برعاية إيرانية تشكيل فرقة اغتيال خاصة تستهدف أي محاولة انقلاب داخلي قد يُخطط لها، لتكون بداية فرز لقادة النظام بين جناحين رئيسيين.
وعانى الرافضون للوجود الإيراني من قلة التنسيق وصعوبته، خصوصاً وهم منشغلون بمتابعة العمليات الأمنية والعسكرية في قمع الثورة السورية وتعقيدات الوضع الميداني، بينما تمتعت إيران وحلفاؤها بأريحية أكثر بالتغلغل ضمن أروقة النظام وكسب أكبر قدر ممكن من الحلفاء داخله. لذلك ولدت حاجة حقيقية لتشكيل الجناح المعادي لإيران، بعدما شاهدوا مصير رستم غزالة، فهم الآن أمام خيارين إما الاستسلام لواقع التدخُّل الإيراني أو التكتل في جناح واحد يضمن مصالحهم لأنهم يجدون أنفسهم الأجدر بقيادة سورية، فهم أعمدة النظام الحقيقي ولا يقبلون لجهات خارجية مشاركتهم في قيادة سورية التي بنوها وأسسوا نظامها القائم حالياً.
لم يكن ذلك الأمر غائباً عن بشار الأسد وتياره الذي حاول بشتى الوسائل الحيلولة دون تكتُّلهم لمعرفته جيداً بأن هذا التيار يملك ملفات مهمة، من ضمنها ملفا «القاعدة» و «داعش» وغيرهما من الملفات الأمنية الحساسة، بالإضافة إلى علاقاتهم القوية والقديمة مع روسيا المصدر الرئيس للسلاح والدعم اللوجستي الذي يعتبر النظام بأمس الحاجة له في معاركه. فأغلب المنتمين للجناح الجديد هم من أعمدة نظام الأسد الأب وحماته.
لا يمكن التأكد من القادة والضباط المنتمين للجناح الجديد، إلا أن آثاره واضحة في خريطة الصراع في سورية عبر بعض العمليات التي تضرب مصالح جناح إيران بقيادة بشار الأسد من دون أن تؤثر على القضية المحورية في قمع الشعب السوري. ولعل أبرز محطات ضرب مصالح الأسد وجناحه كانت في الاتفاق السري مع «داعش» لتسليمه مدينة تدمر وفتح بوابة له نحو لبنان وتسهيل وصوله إلى مشارف السويداء، وشكّل هذا كله ضربة قوية لمصلحة تنظيم «داعش» وتهديداً مباشراً لمصالح «حزب الله» وضرباً لمحاولات بشار الأسد استمالة أهالي السويداء لإظهارهم كحلفاء له. ولعل هذا يفسر رد فعل أهالي السويداء وطردهم كتيبة الصواريخ والاستيلاء على أسلحتها، وتصريح الشيخ وحيد البلعوس بأنهم هم من سيدافع عن أرضهم أمام أي خطر محتمل من ضمنه تمدد «داعش» باتجاههم.
ولا يمكن استبعاد اغتيال البلعوس بعدها عن الحدث السوري كأحد ملامح هذا الصراع، فكل الترجيحات تشير إلى تورط النظام بهذه العملية مع صـعوبة تحديد الهدف منها، فهي تضر بمصالحه عبر احتواء الدروز وإظهارهم كحليف له، ليكون اغتيال البلعوس ضربة قوية لجناح بشار الأسد من دون أن يؤثر ذلك على خريطة الصراع في سورية. هذه المؤشــرات توحي بنجاح هذا التيار لتحويل نفسه إلى جناح منظم وقوي ضمن النظام السوري، ما استدعى تدخلاً فورياً لروسيا من أجل تقليل خطورة الجناح الإيراني ليتفرّغ للقضية الأهم وهي الحفاظ على النظام في سورية ليكون الوجود الروسي الضامن والحامي ويفرض توازناً ميدانياً مع إيران يمكن أن يتحوّل إلى أفضلية نظراً لما تتمتع به روســيا من قوة عالمية سياسية وعسكرية تفتقدها إيران.
تجاوز موقت للخلافات
عقب تنصيب بشار الأسد خلفاً لوالده لم يخفِ رؤساء الفروع والضباط الكبار في النظام عدم احترامهم لهذا القائد الجديد، وأنهم هم من وضعوه. لهذا السبب لم يتمكن بشار الأسد من امتلاك مفاتيح النظام الأمنية كاملة، واقتصر على نفوذ محدود من الضباط القريبين من عمره، وحاول الاستعاضة عن ذلك بفرض سيطرته الاقتصادية على البلاد وبناء نظام اقتصادي معقّد يتحكّم به شخصياً، وصولاً إلى حرب تموز 2006 حيث شكّلت الحالة الشعبية المؤيدة لـ «حزب الله» وسط السوريين فرصة لبشار أن يتغلغل داخل الأجهزة الأمنية، واستطاع تحقيق الكثير من الإنجازات بمساعدة «حزب الله» الذي يعرف دهاليز النظام الأمنية ويتابعها بقوة ويمتلك رغبة شديدة في اختراقها، كما إيران أيضاً التي تبحث عن تعزيز نفوذها في سورية وهذا كان مرفوضاً لدى القادة الأمنيين القدامى الذين يعتبرون أنفسهم المالكين الحقيقيين لسورية.
ولعل أبرز محطات الصراع القديم كان الاغتيال الغامض للعميد محمد سليمان في مقر إقامته في طرطوس قبل سبع سنوات والذي شاءت الأقدار أن تتذكره قناة «المنار» في 2015 لتبث تقريراً من داخل دارته في ذكرى اغتياله، بالإضافة إلى بعض التقارير الصحافية التي رافقت الذكرى من وسائل إعلام موالية لـ «حزب الله»، وكان واضحاً أنها رسالة تحاول قمع ولادة الجناح الجديد المعادي لإيران.
اغتيال العميد محمد سليمان حدث في اليوم الذي كان بشار الأسد في زيارة رسمية في إيران، ويعتبر سليمان مسؤولاً مباشراً عن تسليح الجيش السوري والمشرف على البرنامج النووي. بعد كشف ملابسات اغتياله سُرِّبت معلومات عن تورُّطه في تقديم معلومات لإسرائيل عن موقع الكبر (المفاعل النووي السري) والذي قصفته لاحقاً، بالإضافة إلى تقديم معلومات عن تحركات عماد مغنية. وهنا تماماً تأتي المفارقة في هذه التسريبات، فهل كان اغتيال سليمان لتتخلص إسرائيل من أحد عملائها أم أنه كان في الحقيقة رداً على اغتيال عماد مغنية؟
لا شك في أن عماد مغنية لم يكن في إجازة أثناء وجوده في سورية إنما كان يشرف على عملية أمنية معقدة لمصلحة «حزب الله» وإيران لاختراق النظام السوري وتعزيز نفوذهم فيه، والأهم تقوية بشار الأسد وتعزيز نفوذه كحاكم أمني وعسكري وليس اقتصادي فقط. واغتيال مغنية، بغض النظر عن الجهة المنفّذة، خدم مباشرة رافضي التغلغل الجديد، ليكون الرد سريعاً عبر اغتيال العميد محمد سليمان بعد أشهر من اغتيال مغنية.
إلا أن هذه المشاكل تم تجاوزها سريعاً مع بداية الثورة السورية بسبب التهديد المباشر للنظام بأكمله، فتلاقت المصالح على حماية النظام بشكل موقت، إلا أن إيران وحلفاءها وجدوا فيها فرصة لزيادة الهيمنة الإيرانية وسط انشغال التيار المعارض لهم واستنفاره وحاجته لكل العناصر في الصراع ضد الشعب السوري.
ولعل أكثر ما يخشاه الأسد اليوم هو قادة النظام الذي ورثه عن أبيه، وهم في نظره يشكّلون الخطر الأكبر على سلطته، ويمكن أن يقدّموه كبش فداء فعقدة الأب التي ترافقه تجعله في توتر دائم، حتى بتنا اليوم نشاهد جمهوره من الناس العاديين لا يفوّتون فرصة إلا ويترحمون على أبيه ويتمنون لو كان حياً لأنه- بحسب زعمهم- كان لن يسمح للأمور أن تصل إلى هذا الحد. وحتى بين أنصاره نجد من ينتقد في الأروقة الخاصة سياسة الحضن الإيراني ليقارنوا سياسة الندّية التي اعتمدها الأب مع سياسة الارتماء لدى الابن. هذه المخاوف تجعل بشار الأسد متشبثاً أكثر بخياره وبقائه في أحضان إيران، والذي زاد أكثر بعد التدخل الروسي وزيارته المفاجئة إلى موسكو والتي شابها الكثير من التجاوزات البروتوكولية، ليظهر الأسد هناك وحيداً أمام بوتين، واعتبر كثيرون ذلك رسالة بأن موسكو تمتلك كل مفاتيح الحل في سورية.
لقد فرض التدخُّل الروسي في سورية واقعاً سياسياً وعسكرياً جديداً لا يمكن إنكاره وهيمنة مباشرة على الحل السياسي المحتمل. ولا تخلو تصريحات روسيا الرسمية منذ بداية الثورة السورية بأنها غير متمسكة بشخص بشار الأسد، وأن السوريين هم من يحددون مصيره، وأن تمسكها هو بالدولة السورية والمؤسسات ومن ضمنها مؤسسة الجيش والمؤسسات الأمنية، مما يوحي بتمسكها بالنظام السوري نفسه وعدم اكتراثها بمصير الأسد، ولكن، في الفترة الأخيرة بات مصير الأسد العقدة الرئيسية في رقعة الحل السوري، فبين محور غربي يعارض أي مستقبل لبشار الأسد في سورية وبين إيران التي تتمسك حصراً بشخص بشار الذي يحقق مصالحها المباشرة في المنطقة، وبين المصلحة الروسية التي تعتبر بشار الأسد ورقة قابلة للتفاوض، على أن يبقى في هذه المرحلة ويتنحى بعدها بقرار من الشعب السوري، أو ضمان عدم ترشُّحه مرة أخرى، وهذا ما تسعى دول غربية لتحصيله من روسيا كتعهّد وضمانة لرعاية الحل السياسي. في حال حصول ذلك فإن روسيا تكون قد ضمنت نجاة حلفائها في النظام السوري وتنحية الجناح الآخر وعلى رأسه بشار الأسد، لتدخل البلاد في مرحلة سياسية جديدة وتأسيس نظام حكم جديد يقع على عاتق السوريين تحديد شكله والسعي بجدية للحيلولة دون ولادة نظام استبدادي جديد.
* ناشط مدني، قاد عدداً من وسائل الإعلام البديلة في الثورة السورية.
المصدر صحيفة الحياة