كلما وجدت أننى أتوق إلى لحظة انتعاش روحى لأحافظ على توازنى النفسى، من غدر الأيام وقسوتها، أطلب على الفور حق اللجوء إلى دُنيا الكاتب والشاعر الكبير كامل الشناوى، فأستعيد قراءة كتاب أعتبره أيقونة فى عالم الإبداع الأدبى «ساعات»، أرتشف منه ما تيسر مما أبدعه كاتبنا الكبير، وحتى لا أطيل عليكم، فى انتظار واحدة من رشفاته إليكم تلك الومضة «أهدى إليها وردا فى إحدى المناسبات، وبعد ساعات دق جرس التليفون وسمع صوتا يقول: أشكرك.. لقد أسعدتنى ليس هذا صوتها إنه صوت الورد».
هذه الأيام نحتفل بيوبيله الذهبى- مرور 50 عاما على رحيله- عندما بدأت مشوارى الصحفى وأنا لا أزال طالباً فى كلية الإعلام قال لى الكاتب الروائى الكبير الراحل «إبراهيم الوردانى» أنت تحمل فى جيبك جواز سفر اسمه عمك «كامل الشناوى» سوف تقتحم به بلاط صاحبة الجلالة!
مر أكثر من 30 عاماً على هذه الكلمة وحتى الآن لا يزال جواز السفر فى جيبى.. كنت حريصاً على أن أتقدم بأوراقى الصحفية بعيداً عن اسمى الشناوى الشقيقين «كامل» و«مأمون»، ولكنى دائماً أشعر بنشوة كلما قرأت أو استمتعت ولا أقول استمعت إلى إحدى قصائد «كامل الشناوى» أو أغنيات «مأمون الشناوى» أو إلى صوتيهما فى الإذاعة فيما تبقى من التسجيلات النادرة التى لا تزال الإذاعة المصرية تحتفظ بها حتى الآن، غادر كامل الشناوى حياتنا فى 30 نوفمبر 1965 ولكنه لم يغادر أبدا وجداننا.
ولد شاعرنا الكبير فى7 ديسمبر 1908 أطلق عليه والده رئيس المحكمة الشرعية- أعلى سلطة قانونية فى ذلك الزمن- الشيخ سيد الشناوى اسم «مصطفى كامل» تيمناً بالزعيم الوطنى الكبير الذى رحل قبل بضعة أشهر من ميلاده، وهكذا مع مرور الأيام أصبح يحمل اسم الشهرة «كامل».. كان الشيخ سيد أيضا يقرض الشعر وهكذا انتقلت الجينات إلى ابنيه كامل ومأمون، وكان يقول لهما عندما كانت القبيلة فى الماضى يبزغ من بينها شاعر، كانت تُقيم الزينات، وتُعلى الرايات وتتباهى بنفسها عن القبيلة الأخرى، أما أنا فماذا أفعل وقد أصبح لدى فى عائلتى شاعران مرة واحدة.
الزمن يحمل الجديد عن «كامل الشناوى» هناك دائماً إعادة اكتشاف، حيث يزداد «كامل الشناوى» حضوراً عند الجمهور خاصة الشباب، قصائده صارت أكثر تداولاً لأنها عاشت من خلال ألحان عمالقة مثل «عبدالوهاب» و«فريد الأطرش» و«الموجى» وأيضاً بأصوات «أم كلثوم» و«عبدالوهاب» و«عبدالحليم» و«نجاة» و«فريد».. ما أتمنى أن أنجح فى رصده عن «كامل الشناوى» هو كتاب موثق يتناول حياته يتجاوز تلك الحكايات المثيرة التى حاول البعض أن يحيلها إلى عنوان لكامل الشناوى ويلصقوها به عنوة، مثل تلك الحكايات المختلقة التى تناثرت عن قصيدة «لا تكذبى» الكل أدلى بدلوه، ومنح لخياله حق براءة الاختراع، والجنوح والجموح كما يحلو له، وهى مع الأسف صارت آفة فى عالمنا العربى، أتذكر أننى قبل 25 عاماً قررت أن أجرى تحقيقاً صحفياً عن لغز هذه القصيدة وهل هى بالفعل عن واقعة حقيقية أم مجرد خيال شاعر، البعض أراد أن يحيل الشطرة الشعرية «إنى رأيتكما معاً»! إلى الخيانة وتلبس ومع سبق الإصرار وقرأوها «إنى ضبطتكما معاً»!
سألت الكاتب الكبير «مصطفى أمين» والفنانة الكبيرة «تحية كاريوكا» والكاتب اللامع «كمال الملاخ» والموسيقار الكبير «كمال الطويل» والعملاق «يوسف إدريس» كل منهم روى لى القصة من خلال رؤيته وتحليله.. مثلاً «مصطفى أمين» أكد أن القصيدة كتبت فى شقته وأنه استمع إلى «كامل الشناوى» وهو يتصل بنجاة يسمعها القصيدة، وكان هو أقصد مصطفى أمين يتلصص على المكالمة من سماعة أخرى واستمع إلى نجاة تقول له «الكلمات حلوة قوى يا ريت تأذن لى أن أغنيها»، لمصطفى أمين مقولة يصف فيها كامل الشناوى قائلا: «إن قلب كامل الشناوى مثل شاشة السينما تعرض كل أسبوع فيلما مختلفا»
«تحية كاريوكا» عندما زرتها لأعرف منها الحقيقة أشارت إلى شرفة ضخمة فى بيتها الذى كان وقتها يطل على نهر النيل بالجيزة، وقالت لى «كامل» بيه كتب القصيدة فى هذه الشرفة.. «كمال الملاخ» قال لى كنت ألتقى كامل بيه دائماً فى الصباح الباكر فأنا أذهب إلى «سميراميس» فى الساعة السابعة صباحاً متجهاً إلى الكافتيريا فشاهدته فى اللحظة التى كان يهم فيها لمغادرة المكان والعودة لمنزله فهو يسهر للصباح وأنا أبدأ يومى فى الصباح، وأضاف «الملاخ» أنه كان ينهى أمامه قصيدة « لا تكذبى» التى كان يكتبها طوال تلك الليلة، وكل ممن استمعت إليهم قدم الحكاية من خلال زاوية رؤيته وإطلالته، وأضاف بعضهم قدرا من البهارات والتحابيش لزوم زيادة نهم التشويق، باستثناء كمال الطويل الذى كان يميل إلى أن كامل الشناوى بلغ ذروة الصدق الفنى، ورغم ذلك كان أغلبهم يُجمع على أن هناك خائنة، وهكذا كان السبب فى خلق واقع موازٍ للصورة الشاعرية فرط الصدق الذى تنضح به الكلمات، انتهيت من خلال مضاهاة أقوال كل المعاصرين لكامل الشناوى فاتضح لى أن الخيال هو الحقيقة والحقيقة هى الخيال، «كامل الشناوى» منح القصيدة إحساسا مرهفا وصادقا فبدأ الناس يبحثون لها عن ظل من واقع وعندما لم يجدوه اخترعوا هم الواقع الذى يليق بالقصيدة، نعم الفن يعبر عن الواقع، هذا هو بالطبع ما يمكن أن نعثر عليه فى أغلب ما نشاهده أو نقرؤه فى الأعمال الفنية، وهناك استثناء أى أن الخيال نبحث له عن حقيقة وهذا هو حال قصيدة «لا تكذبى»، إلا أن أسوأ ما فى هذه القصيدة هو أنها تختصر «كامل الشناوى» فى قصيدة واحدة، مثلما حاول البعض فى عدد من أحاديثهم ومقالاتهم تحديد قيمته الإبداعية فى مقلب قام بتدبيره على سبيل المداعبة وغفلوا عن قيمة «كامل الشناوى» المترامية الأطراف والضاربة فى العمق، كل ذلك من أجل أن تحقق مداعبة له قسطاً وافراً من الشهرة، فتتحول تلك القفشات الهامشية إلى عنوان عريض لكامل الشناوى.
كيف مثلاً لا يتذكر أحد قصيدته وعنوانها «نشيد الحرية» والتى يقول فيها «أنت فى صمتك مرغم/ أنت فى حبك مكره/ فتألم وتكلم وتعلم كيف تكره».. كتبها «كامل الشناوى» قبل قيام الثورة منادياً الشعب بأن يثور ولحنها وغناها «محمد عبدالوهاب» ومنعت من التداول فى الإذاعة المصرية، ولكن بعد قيام الثورة تم الإفراج عن هذا النشيد، وكان ينبغى تغيير «أنت فى صمتك مرغم» إلى «كنت فى صمتك مرغم كنت فى حبك مكره».. دائماً ما أتذكر له قصيدة لم تغن وإن كنت قد اقترحت على الموسيقار الكبير «محمد عبد الوهاب» أن يغنيها وأسمعتها له بالتليفون وتحمس لتلحين كلماتها التى تقول «أحببتها وظننت أن لقلبها نبضا كقلبى لا تقيده الضلوع/ أحببتها فإذا بها قلب بلا نبض سراب خادع ظمأ وجوع/ فتركتها لكن قلبى لم يزل طفلاً يعاوده الحنين إلى الرجوع/ وإذا مررت وكم مررت ببيتها تبكى الخطى منى وترتعد الدموع!! هل بالفعل لحنها الموسيقار الكبير؟ لا أدرى على وجه الدقة ولكنى أعلم أن عبدالوهاب ترك عددا من تسجيلات موسيقية غير مكتملة، ربما كانت تلك القصيدة واحدة منها، وبالمناسبة كان عبدالوهاب ليس فقط شديد الإعجاب بكامل الشناوى كشاعر وصحفى ولكنه كثيرا ما كان يشيد بصوته وبقدرته على إلقاء الشعر، فكان يصفه قائلا: كامل الشناوى صوت ضل طريقه للغناء.
كامل الشناوى منح المقال إحساسا شاعريا، عندما مات أستاذ الجيل أحمد لطفى السيد كتب مقالاً كان عنوانه عقلى يجهش بالبكاء، وعندما سألوه عن تلك المعضلة هل هو شاعر أم صحفى فقال عندما أكتب قصيدة فأنا شاعر وعندما أكتب مقالا صحفيا أضف إليه لمسة شاعرية!!
عمل كامل الشناوى فى العديد من الجرائد والمجلات بداية من روزاليوسف والأخبار والجمهورية ووصل إلى موقع رئيس التحرير، وكان يكتب على صفحات الأهرام بابا أطلق عليه اسم خواطر حرة ولكن مع بداية الحرب العالمية الثانية فى نهاية الثلاثينيات مورست الرقابة على الصحف ولهذا غير اسم الباب إلى خواطر مقيدة، وصارح القراء قائلاً لهم إن الخواطر لم تعد حرة، أما قبل ساعات قليلة من الثورة فلقد كتب مقالا أكد فيه أن مصر تبحث عن رجل يحيل ظلامها إلى نور، وأعلن فى الصباح الباكر الساعة السابعة والنصف، عبر الإذاعة المصرية قيام الثورة بصوت البكباشى محمد أنور السادات.
لم يصدر فى حياته سوى ديوان واحد فقط لا تكذبى رسم الغلاف والرسوم الداخلية الفنان الرقيق الراحل يوسف فرنسيس أحد اكتشافات كامل الشناوى الذى لم يتوقف عن التقاط الموهوبين وتدعيمهم فى حياتنا الصحفية والأدبية والفنية مثل موسى صبرى، أحمد رجب، أنيس منصور، محمود السعدنى، سعيد سنبل، كمال الملاخ، فتحى غانم، صلاح حافظ، بليغ حمدى، كمال الطويل وغيرهم.. نعم لم يصدر سوى كتاب واحد فى حياته لكن شقيقه الشاعر الغنائى والكاتب الصحفى الكبير مأمون الشناوى تولى تجميع العديد من كتابات شقيقه الكبير كامل الشناوى وأصدرها فى عدة كتب جمعت أسماء زعماء وفنانين وأدباء، بين الحياة والموت، عرفت عبدالوهاب، رسائل حب، حبيبتى، وغيرها.. المؤكد أن إبداع كامل الشناوى لن ينساه أحد لا فى يوبيله الذهبى ولا المئوى، فمثل كامل الشناوى عصى على النسيان، وكما بدأنا الكلام بومضة من كتابه الساحر ساعات، أنهيه بومضة أخرى: هناك كاتب يتحداك بأسلوبه أن تقرأه وكاتب يتحداك بأسلوبه ألا تقرأه، ومن المؤكد أن كامل الشناوى يتحداك بأسلوبه ألا تقرأه وألا تشبع بين الحين والآخر من معاودة القراءة، فتكتشف وكأنك تقرؤه لأول مرة!!
نقلاً عن المصري اليوم
كامل الشناوى فى اليوبيل الذهبى أكاذيب تفضحها قصيدة «لا تكذبى»
الثلاثاء 18 صفر 1437هـ – 1 ديسمبر 2015م
طارق الشناوي
كلما وجدت أننى أتوق إلى لحظة انتعاش روحى لأحافظ على توازنى النفسى، من غدر الأيام وقسوتها، أطلب على الفور حق اللجوء إلى دُنيا الكاتب والشاعر الكبير كامل الشناوى، فأستعيد قراءة كتاب أعتبره أيقونة فى عالم الإبداع الأدبى «ساعات»، أرتشف منه ما تيسر مما أبدعه كاتبنا الكبير، وحتى لا أطيل عليكم، فى انتظار واحدة من رشفاته إليكم تلك الومضة «أهدى إليها وردا فى إحدى المناسبات، وبعد ساعات دق جرس التليفون وسمع صوتا يقول: أشكرك.. لقد أسعدتنى ليس هذا صوتها إنه صوت الورد».
هذه الأيام نحتفل بيوبيله الذهبى- مرور 50 عاما على رحيله- عندما بدأت مشوارى الصحفى وأنا لا أزال طالباً فى كلية الإعلام قال لى الكاتب الروائى الكبير الراحل «إبراهيم الوردانى» أنت تحمل فى جيبك جواز سفر اسمه عمك «كامل الشناوى» سوف تقتحم به بلاط صاحبة الجلالة!
مر أكثر من 30 عاماً على هذه الكلمة وحتى الآن لا يزال جواز السفر فى جيبى.. كنت حريصاً على أن أتقدم بأوراقى الصحفية بعيداً عن اسمى الشناوى الشقيقين «كامل» و«مأمون»، ولكنى دائماً أشعر بنشوة كلما قرأت أو استمتعت ولا أقول استمعت إلى إحدى قصائد «كامل الشناوى» أو أغنيات «مأمون الشناوى» أو إلى صوتيهما فى الإذاعة فيما تبقى من التسجيلات النادرة التى لا تزال الإذاعة المصرية تحتفظ بها حتى الآن، غادر كامل الشناوى حياتنا فى 30 نوفمبر 1965 ولكنه لم يغادر أبدا وجداننا.
ولد شاعرنا الكبير فى7 ديسمبر 1908 أطلق عليه والده رئيس المحكمة الشرعية- أعلى سلطة قانونية فى ذلك الزمن- الشيخ سيد الشناوى اسم «مصطفى كامل» تيمناً بالزعيم الوطنى الكبير الذى رحل قبل بضعة أشهر من ميلاده، وهكذا مع مرور الأيام أصبح يحمل اسم الشهرة «كامل».. كان الشيخ سيد أيضا يقرض الشعر وهكذا انتقلت الجينات إلى ابنيه كامل ومأمون، وكان يقول لهما عندما كانت القبيلة فى الماضى يبزغ من بينها شاعر، كانت تُقيم الزينات، وتُعلى الرايات وتتباهى بنفسها عن القبيلة الأخرى، أما أنا فماذا أفعل وقد أصبح لدى فى عائلتى شاعران مرة واحدة.
الزمن يحمل الجديد عن «كامل الشناوى» هناك دائماً إعادة اكتشاف، حيث يزداد «كامل الشناوى» حضوراً عند الجمهور خاصة الشباب، قصائده صارت أكثر تداولاً لأنها عاشت من خلال ألحان عمالقة مثل «عبدالوهاب» و«فريد الأطرش» و«الموجى» وأيضاً بأصوات «أم كلثوم» و«عبدالوهاب» و«عبدالحليم» و«نجاة» و«فريد».. ما أتمنى أن أنجح فى رصده عن «كامل الشناوى» هو كتاب موثق يتناول حياته يتجاوز تلك الحكايات المثيرة التى حاول البعض أن يحيلها إلى عنوان لكامل الشناوى ويلصقوها به عنوة، مثل تلك الحكايات المختلقة التى تناثرت عن قصيدة «لا تكذبى» الكل أدلى بدلوه، ومنح لخياله حق براءة الاختراع، والجنوح والجموح كما يحلو له، وهى مع الأسف صارت آفة فى عالمنا العربى، أتذكر أننى قبل 25 عاماً قررت أن أجرى تحقيقاً صحفياً عن لغز هذه القصيدة وهل هى بالفعل عن واقعة حقيقية أم مجرد خيال شاعر، البعض أراد أن يحيل الشطرة الشعرية «إنى رأيتكما معاً»! إلى الخيانة وتلبس ومع سبق الإصرار وقرأوها «إنى ضبطتكما معاً»!
سألت الكاتب الكبير «مصطفى أمين» والفنانة الكبيرة «تحية كاريوكا» والكاتب اللامع «كمال الملاخ» والموسيقار الكبير «كمال الطويل» والعملاق «يوسف إدريس» كل منهم روى لى القصة من خلال رؤيته وتحليله.. مثلاً «مصطفى أمين» أكد أن القصيدة كتبت فى شقته وأنه استمع إلى «كامل الشناوى» وهو يتصل بنجاة يسمعها القصيدة، وكان هو أقصد مصطفى أمين يتلصص على المكالمة من سماعة أخرى واستمع إلى نجاة تقول له «الكلمات حلوة قوى يا ريت تأذن لى أن أغنيها»، لمصطفى أمين مقولة يصف فيها كامل الشناوى قائلا: «إن قلب كامل الشناوى مثل شاشة السينما تعرض كل أسبوع فيلما مختلفا»
«تحية كاريوكا» عندما زرتها لأعرف منها الحقيقة أشارت إلى شرفة ضخمة فى بيتها الذى كان وقتها يطل على نهر النيل بالجيزة، وقالت لى «كامل» بيه كتب القصيدة فى هذه الشرفة.. «كمال الملاخ» قال لى كنت ألتقى كامل بيه دائماً فى الصباح الباكر فأنا أذهب إلى «سميراميس» فى الساعة السابعة صباحاً متجهاً إلى الكافتيريا فشاهدته فى اللحظة التى كان يهم فيها لمغادرة المكان والعودة لمنزله فهو يسهر للصباح وأنا أبدأ يومى فى الصباح، وأضاف «الملاخ» أنه كان ينهى أمامه قصيدة « لا تكذبى» التى كان يكتبها طوال تلك الليلة، وكل ممن استمعت إليهم قدم الحكاية من خلال زاوية رؤيته وإطلالته، وأضاف بعضهم قدرا من البهارات والتحابيش لزوم زيادة نهم التشويق، باستثناء كمال الطويل الذى كان يميل إلى أن كامل الشناوى بلغ ذروة الصدق الفنى، ورغم ذلك كان أغلبهم يُجمع على أن هناك خائنة، وهكذا كان السبب فى خلق واقع موازٍ للصورة الشاعرية فرط الصدق الذى تنضح به الكلمات، انتهيت من خلال مضاهاة أقوال كل المعاصرين لكامل الشناوى فاتضح لى أن الخيال هو الحقيقة والحقيقة هى الخيال، «كامل الشناوى» منح القصيدة إحساسا مرهفا وصادقا فبدأ الناس يبحثون لها عن ظل من واقع وعندما لم يجدوه اخترعوا هم الواقع الذى يليق بالقصيدة، نعم الفن يعبر عن الواقع، هذا هو بالطبع ما يمكن أن نعثر عليه فى أغلب ما نشاهده أو نقرؤه فى الأعمال الفنية، وهناك استثناء أى أن الخيال نبحث له عن حقيقة وهذا هو حال قصيدة «لا تكذبى»، إلا أن أسوأ ما فى هذه القصيدة هو أنها تختصر «كامل الشناوى» فى قصيدة واحدة، مثلما حاول البعض فى عدد من أحاديثهم ومقالاتهم تحديد قيمته الإبداعية فى مقلب قام بتدبيره على سبيل المداعبة وغفلوا عن قيمة «كامل الشناوى» المترامية الأطراف والضاربة فى العمق، كل ذلك من أجل أن تحقق مداعبة له قسطاً وافراً من الشهرة، فتتحول تلك القفشات الهامشية إلى عنوان عريض لكامل الشناوى.
كيف مثلاً لا يتذكر أحد قصيدته وعنوانها «نشيد الحرية» والتى يقول فيها «أنت فى صمتك مرغم/ أنت فى حبك مكره/ فتألم وتكلم وتعلم كيف تكره».. كتبها «كامل الشناوى» قبل قيام الثورة منادياً الشعب بأن يثور ولحنها وغناها «محمد عبدالوهاب» ومنعت من التداول فى الإذاعة المصرية، ولكن بعد قيام الثورة تم الإفراج عن هذا النشيد، وكان ينبغى تغيير «أنت فى صمتك مرغم» إلى «كنت فى صمتك مرغم كنت فى حبك مكره».. دائماً ما أتذكر له قصيدة لم تغن وإن كنت قد اقترحت على الموسيقار الكبير «محمد عبد الوهاب» أن يغنيها وأسمعتها له بالتليفون وتحمس لتلحين كلماتها التى تقول «أحببتها وظننت أن لقلبها نبضا كقلبى لا تقيده الضلوع/ أحببتها فإذا بها قلب بلا نبض سراب خادع ظمأ وجوع/ فتركتها لكن قلبى لم يزل طفلاً يعاوده الحنين إلى الرجوع/ وإذا مررت وكم مررت ببيتها تبكى الخطى منى وترتعد الدموع!! هل بالفعل لحنها الموسيقار الكبير؟ لا أدرى على وجه الدقة ولكنى أعلم أن عبدالوهاب ترك عددا من تسجيلات موسيقية غير مكتملة، ربما كانت تلك القصيدة واحدة منها، وبالمناسبة كان عبدالوهاب ليس فقط شديد الإعجاب بكامل الشناوى كشاعر وصحفى ولكنه كثيرا ما كان يشيد بصوته وبقدرته على إلقاء الشعر، فكان يصفه قائلا: كامل الشناوى صوت ضل طريقه للغناء.
كامل الشناوى منح المقال إحساسا شاعريا، عندما مات أستاذ الجيل أحمد لطفى السيد كتب مقالاً كان عنوانه عقلى يجهش بالبكاء، وعندما سألوه عن تلك المعضلة هل هو شاعر أم صحفى فقال عندما أكتب قصيدة فأنا شاعر وعندما أكتب مقالا صحفيا أضف إليه لمسة شاعرية!!
عمل كامل الشناوى فى العديد من الجرائد والمجلات بداية من روزاليوسف والأخبار والجمهورية ووصل إلى موقع رئيس التحرير، وكان يكتب على صفحات الأهرام بابا أطلق عليه اسم خواطر حرة ولكن مع بداية الحرب العالمية الثانية فى نهاية الثلاثينيات مورست الرقابة على الصحف ولهذا غير اسم الباب إلى خواطر مقيدة، وصارح القراء قائلاً لهم إن الخواطر لم تعد حرة، أما قبل ساعات قليلة من الثورة فلقد كتب مقالا أكد فيه أن مصر تبحث عن رجل يحيل ظلامها إلى نور، وأعلن فى الصباح الباكر الساعة السابعة والنصف، عبر الإذاعة المصرية قيام الثورة بصوت البكباشى محمد أنور السادات.
لم يصدر فى حياته سوى ديوان واحد فقط لا تكذبى رسم الغلاف والرسوم الداخلية الفنان الرقيق الراحل يوسف فرنسيس أحد اكتشافات كامل الشناوى الذى لم يتوقف عن التقاط الموهوبين وتدعيمهم فى حياتنا الصحفية والأدبية والفنية مثل موسى صبرى، أحمد رجب، أنيس منصور، محمود السعدنى، سعيد سنبل، كمال الملاخ، فتحى غانم، صلاح حافظ، بليغ حمدى، كمال الطويل وغيرهم.. نعم لم يصدر سوى كتاب واحد فى حياته لكن شقيقه الشاعر الغنائى والكاتب الصحفى الكبير مأمون الشناوى تولى تجميع العديد من كتابات شقيقه الكبير كامل الشناوى وأصدرها فى عدة كتب جمعت أسماء زعماء وفنانين وأدباء، بين الحياة والموت، عرفت عبدالوهاب، رسائل حب، حبيبتى، وغيرها.. المؤكد أن إبداع كامل الشناوى لن ينساه أحد لا فى يوبيله الذهبى ولا المئوى، فمثل كامل الشناوى عصى على النسيان، وكما بدأنا الكلام بومضة من كتابه الساحر ساعات، أنهيه بومضة أخرى: هناك كاتب يتحداك بأسلوبه أن تقرأه وكاتب يتحداك بأسلوبه ألا تقرأه، ومن المؤكد أن كامل الشناوى يتحداك بأسلوبه ألا تقرأه وألا تشبع بين الحين والآخر من معاودة القراءة، فتكتشف وكأنك تقرؤه لأول مرة!!
نقلاً عن المصري اليوم