قبل خمس سنوات، كتبتُ قائلةً إن حادثة كنيسة “العذراء” المروّعةَ بحي إمبابة التي أعادتنا لهمجية العصور الوسطى، لم تدهشني. بل أخجل أن أقول إنني كنت أتوقعها وأنتظرها، كما مازلتُ أتوقّع حوادثَ أخرى مشابهة، خيّبَ اللهُ حدسي. إن كان القارئ الكريم قد نسيَ، فليتذكر أن مئات من المتطرفين السلفيين في مايو 2011 هاجموا إحدى الكنائس في إمبابة وألقوا قنابل المولوتوف لتشتعل الكنيسةُ وما حولها من منازل، ويستشهد عشرةُ أبرياء، ويُجرح المئات.
لم تدهشني الكارثةُ التي روّعت مصرَ وقتها وجعلتها تنام ليلتها باكيةً على أبنائها الذين صرعهم أجلافٌ، في صدورهم غلاظةٌ، وفي أدمغتهم دمويةٌ، وفي وجوههم لُحىً مشعثةٌ يوهمون بها الناسَ أنهم نُسّاكٌ متدينون، وهم أقصى كائنات الأرض عن معرفة الله. لم أندهش. بل قلتُ، والحَزَنُ يغمرني، إنني أترقب، مع كل نهار جديد، كارثةً كتلك، وقلبي يلهجُ بالدعاء أن يكذِّب اللهُ ظنّي الذي ظل يُنبئني بأن كارثةً طائفية قادمةٌ، تتلوها كارثةٌ فكوارثُ. وهو للأسف ما حدث. فلم تتوقف تفجيراتُ الكنائس وقتل المسيحيين رغم ثورة التصحيح، 30 يونيو 2013، التي طردت الإخوان وأشباههم ليس فقط من حكم مصر، بل من قلوب البسطاء الطيبين الذين صدّقوهم وانتخبوهم وهم يظنّون فيهم الخير! أنبأني حدسي بهذا منذ تقاعستِ الدولة المصرية عن القبض على هادمي كنيسة “صول”، كنيسة الشهيدين بمحافظة حلوان في مارس 2011، التي ظلّ الإرهابيون اثنين وعشرين ساعة متواصلة يهدمونها على مرأى من العالم ومسمع، دون أن تتدخل الدولة لتوقيفهم ومعاقبتهم. وبعد تمام عملية الهدم، اكتفت الدولة “بتطييب خاطر” الأقباط، على مبدأ “العوض”، بأن أعاد جيشُنا العظيم بناء الكنيسة في وقت قياسيّ وعلى أجمل ما يكون. دائمًا يكون الرهانُ على طبيعة المسيحيّ المتسامحة وميله لغفران الإساءة، كما يأمره كتابُه وأخلاقُ السيد المسيح المتسامحة، التي علّمتهم أن غفرانَ الإساءة هو الطريق إلى الله وملكوته. وهو رهانٌ طيبٌ لا يخيب. ولكن من العيب، كل العيب، أن يكون هذا رهاننا، لأن الإرهابيَّ يستغلّه على نحو قبيح.
ليلة افتتاح كنيسة صول، بعد إعادة بنائها في أسابيع قليلة، كنتُ على الهواء، في أحد البرامج، وأجرى البرنامج مداخلةً تليفونية مع الأنبا ثيودوسيوس أسقف الجيزة الذي كان سيفتتح الكنيسة بصلاة القيامة في اليوم التالي. قدّم الأسقف جزيل الشكر للقوات المسلحة على جهدها الفائق في إعادة بناء الكنيسة في اثنين وعشرين يومًا. فسألتُه: “وماذا عن القبض على الجناة يا أبونا؟” فأعاد الأسقفُ شكرَ الله والثناء على الجيش لأن أبناء الحيّ سيتمكنون من إقامة الصلاة غدًا في كنيستهم قائلا “إن حزنهم الآن قد تبدد!”
الحكايةُ ببساطة أن الحكومة تدرك طبيعةَ الأقباط المتسامحة، مثلما تدرك طبيعة المتطرفين الدمويةَ المتعطشةَ للخراب! فنستغلّ، بكل أسف، تسامح الضحية، ونخشى جبروت المجرم، الذي بات أكبر تهديد على أمن مصر! تفجيرُ كنيسة وقتل المُصلين قد يستغرق دقائق قليلة، يمكن معها أن يفرّ الجاني، كما حدث بكنيستيْ الإسكندرية، ونجع حمادي 2010، والكنيسة المرقسية بالأمس وعشرات الكنائس غيرها على مدى الأربعين عامًا الماضية، لكن هدم كنيسة استغرق 22 ساعة! فأين الجُناةُ، ولدينا جميعًا فيديوهات توضح ملامحهم، بل وأسماءهم إذْ كانوا ينادون على بعضهم البعض وهم يكبّرون “الله أكبر” فيما يقوضون بالمعاول بيت من بيوت الله؟! كيف لم يتم القبض عليهم ومعاقبتهم، حتى اليوم 2016؟! لصالح مَن؟ لصالح مَن سارعت الحكومةُ ورجالُ الدين الإسلامي بإقناع “أيمن ديمتري”، الذي بتر المتطرفون أُذنه بحجة تطبيق شرع الله فيه، بالتنازل عن حقّه، وحق المجتمع، وحق مصر، في القصاص من مجرمين؟ الإجابةُ: لصالح خراب مصر، والمزيد من الكوارث وتقتيل الأقباط مع كل نهار! لا ألوم الذئبَ لأنه دمويّ، فتلك طبيعته، لكنْ كيف لا ألوم مَن يتركه يسفك الدماء؟!
في مظاهرات ماسبيرو كان الأقباط يهتفون: “بالطول، بالعرض، عاوزينها في نفس الأرض!” يقصدون أنهم لن يقبلوا إلا إعادة بناء الكنيسة المهدمة في نفس مكانها الأصلي! لا حول ولا قوة إلا بالله! قلتُ لنفسي. ما أقلّ شعورهم بحقوقهم، وما أسهلَ إرضاءهم، وما أيسرَ الجَوْر عليهم! لذلك صعدتُ على منصة ماسبيرو وخطبتُ فيهم قائلة “إن إعادة بناء الكنيسة لن تمحو أسباب الهدم التي ستظل موجودة مادام ذوو النفوس المريضة طُلقاء يعيثون في مصرَ خرابًا! لابد أن تطالبوا بسرعة توقيف الجُناة، وإقالة المحافظ المتراخي، وتطبيق قانون موحّد لدور العبادة.”
ما أشبه جلسات الصلح العُرفية بقبلة يهوذا الإسخريوطي الذي سلّم السيدَ المسيح عليه السلام للرومان ليُرفع على الصليب. ثم يُرفع إلى السماء ناجيًا حسب شريعتنا الإسلامية، أو يُصلب وينزف حتى الموت وفق شريعة المسيحية. بعد عهد طويل من جلسات الصلح العرفية، ومئات من “قُبلات يهذوا”، استقرّ في وعي الإرهابيين أن “دِيّة” المسيحيّ يسيرة، وأن دمه مقدورٌ عليه. لأن القانون تميلُ كفّتُه في الجرائم الطائفية، بسبب قبول المسيحيين بقبلة يهوذا، وارتكاننا إلى قبولهم الترضية غير المبنية على عدالة القانون. “الصلح خير، قوم نتصالح” دون شكّ قولة جميلة وطيبة، ولكن فقط حين ترتكز على أسس العدالة والمواطنة وحفظ الحقوق وسيادة القانون واحترام حق الحياة وحق حرية العقيدة. فمن أمِن العقاب، أساء الأدب.
-
بحث موقع مفكر حر
أحدث المقالات
فيلم ايطالي عام 1959 عن تدمر والملكة العربية زنوبيا … علامة المصارع
Published by:مفكر حر** أمة الكُورد بين ألإسلام … والتخلف والتعصب والاوهام **
Published by:سرسبيندار السنديالنظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/10
Published by:علي الكاشأفكار شاردة من هنا وهناك/51
Published by:مفكر حرقراءة متأنية في ديوان (قصائد منزوعة السلاح) للشاعر نينوس نيراري
Published by:آدم دانيال هومه** كيف رتبت أل سي اي ايه … لقاء الصحفي تايكر ببوتين ولماذا ألان **
Published by:سرسبيندار السندي** هل سينجو ملالي إيران بفروة رؤوس … بعد مجزرة طوفان الاقصى وغزة والمنطقة**
Published by:سرسبيندار السنديالنظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/8
Published by:علي الكاشأفاعي السوء وباعة الكذب في مهب الريح( 18-19 )
Published by:حسن محموديأفكار شاردة من هنا وهناك/49
Published by:مفكر حرالانتخاب
Published by:مفكر حر" الاشياء البائسة" Poor Things
Published by:طلال عبدالله الخوريالأدب النسوي ما بين الإبداع والاستغلال
Published by:اسعد عبد الله عبد عليأفكار شاردة من هنا وهناك/48
Published by:مفكر حرالرب يفضح الأنبياء الكذبة
Published by:صباح ابراهيمأخطار تهدد الحياة على الأرض
Published by:صباح ابراهيمكأس عسل
Published by:عصمت شاهين دو سكيسليلة الآلهة
Published by:آدم دانيال هومهأفاعي السوء وباعة الكذب في مهب الريح ( 16, 17)
Published by:حسن محمودي** محنة العقل في الاديان ومعضلة كتبها … بالدليل والبرهان **
Published by:سرسبيندار السندي** لماذا قصف نظام الملالي الارعن … مدينة أربيل ألان **
Published by:سرسبيندار السندياوبنهايمر
Published by:طلال عبدالله الخوري** مَن سيُحاسب قادة حماس … على جرائمهم بحق غزة وأهلها **
Published by:سرسبيندار السندياسرار #الموساد عن #العراق - ج 1
Published by:صباح ابراهيمالمرأة بين الماضي والحاضر مسيرة كفاح وتنمية ونماذج معاصرة
Published by:مفكر حرالنظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/4
Published by:علي الكاشالقاسم الأيمانيّ المشترك :
Published by:مفكر حرعام جديد..
Published by:مفكر حر** قصة مِيلادِ السيّد المَسِيحْ … العجيبة والفريدة **
Published by:سرسبيندار السندي#محمد_الماغوط من الغباء ان ادافع عن وطن لا املك فية بيتنا
Published by:محمد الماغوطأفكار شاردة من هنا وهناك/43
Published by:مفكر حرمن هو يسوع المسيح ؟ - يسوع المسيح يكشف لنا حقيقة الله-
Published by:مفكر حرالنظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/3
Published by:علي الكاشفاطمة الزهراء و غموض تاريخها
Published by:صباح ابراهيم#نزار_قباني: أيها المسيح العظيم هل تقبل دعوتي إلى العشاء .
Published by:نزار قباني** أيا عُبَّاد الهلال … لنا لكم سؤال **
Published by:سرسبيندار السنديهل روح الله هو الله ام جبريل ؟
Published by:صباح ابراهيمأُمة فيها العجب
Published by:عصمت شاهين دو سكيتجاعيد وايجار واتهام
Published by:اسعد عبد الله عبد عليتقاسيم على أوتار الريح
Published by:آدم دانيال هومهالنظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/1
Published by:علي الكاشالدعاء على المسيحيّين
Published by:مفكر حرمباحث في الأدب واللغة/63 الطعام والمطبخ العربي
Published by:مفكر حرأفكار شاردة من هنا وهناك/41
Published by:مفكر حر#مسيحيو_المشرق و(الخيارات المرة )!!!:
Published by:مفكر حرهادي العامري واوهام المدمنين
Published by:علي الكاشالكفاءة
Published by:عصمت شاهين دو سكيأفكار شاردة من هنا وهناك/40
Published by:مفكر حرالعهد الجديد و سفر التكوين والخليقة
Published by:صباح ابراهيمحرب #اسرائيل مع #حماس دينية ام سياسية ؟
Published by:صباح ابراهيمعن الفنان السوري #فؤاد_غازي: أخدوه ع الشام و"خيسوه"، الله "يخيّس" آخرتهم.
Published by:مفكر حرمن تلفيقات الفقهاء وأكاذيب المفسرين
Published by:صباح ابراهيمنبوءة_اشعياء وحرب #اسرائيل وحماس
Published by:صباح ابراهيمشيعة #العراق وأزمة المواطنة
Published by:علي الكاش** لماذا ورطت إيران قادة حماس … بطوفان الاقصى ألان **
Published by:سرسبيندار السندي** هلوسات د. سمير غطاس حول أرض الموعد وهيكل سليمان … بالدليل والبرهان **
Published by:سرسبيندار السنديالطفل اليانع
Published by:آدم دانيال هومهالعراق ما بين الماضي الزاهي والحاضر العاثر
Published by:مفكر حرأحدث التعليقات
- Ali on قرارات سياسية تاريخية خاطئة اتخذها #المسلمون اثرت على ما يجري اليوم في #سوريا و #العالم_العربي
- ابو ازهر الشامي on الرد على مقال شامل عبد العزيز هل هناك دين مسالم ؟
- س . السندي on ** هل سينجو ملالي إيران بفروة رؤوس … بعد مجزرة طوفان الاقصى وغزة والمنطقة**
- مسلم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- الحكيم العليم الفهيم on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- المهدي القادم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- Joseph Sopholaus (Bou Charaa) on تقاسيم على أوتار الريح
- س . السندي on النظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/3
- س . السندي on اوبنهايمر
- محمد on مطالعة الرجل لمؤخرة النساء الجميلات
- ألعارف الحكيم : عزيز الخزرجي on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- س . السندي on علماء النصارى كانوا يتسمون اسماء اسلامية
- س . السندي on فاطمة الزهراء و غموض تاريخها
- س . السندي on ** أيا عُبَّاد الهلال … لنا لكم سؤال **
- س . السندي on سورة مريم اقتبست من شعر امية بن ابي الصلت
- لينا on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- لينا on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- س . السندي on #محمد_الماغوط من الغباء ان ادافع عن وطن لا املك فية بيتنا
- Mohammad Al Kassab on ضحايا صدام حسين 7
- ابن الرافدين on ** أيا عُبَّاد الهلال … لنا لكم سؤال **
- قثيم بن سنحريب الفيروزي on ** أيا عُبَّاد الهلال … لنا لكم سؤال **
- مسلم on القرآن زور التوراة والإنجيل
- ألعارف الحكيم : عزيز الخزرجي on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- قثم بن عبد الات القرشي on هدف حماس من (طوفان الأقصى) وهدف إسرائيل من اعلان حالة الحرب
- طوفان البدروسي on ** لماذا ورطت إيران قادة حماس … بطوفان الاقصى ألان **
- مفكر حر on القول ما قاله سماحة #الكاردينالساكو بشأن فاجعة #عرسالحمدانية
- مفكر حر on القول ما قاله سماحة #الكاردينالساكو بشأن فاجعة #عرسالحمدانية
- س . السندي on سيناريوهات الحرب بين #حماس و #إسرائيل.
- س . السندي on القول ما قاله سماحة #الكاردينالساكو بشأن فاجعة #عرسالحمدانية
- الأب بولس فلوح on رواية الغريب وضياع الهويه
نعم هذا هو الواقع المزري الذي يدعي ان الإسلام هو دين الرحمة ? في في كل قنوات التلفزة الداخل والخارج وحتى شيوخ الفتنة والتقية عند قيامهم بزيارات للدول الأوروبية يتبجحون بأن الإسلام دين الرحمة والمغفرة والمحبة وأنهم يحترمون الأديان الأخرى ولكن عند عودتهم لبلادهم تبدئ الحفلة بالشتم وبلاد الكفر الصليبيون بلاد العهر وكل ما يخطر على بالك من التوصيفات. المخزية، ? وبعد ماجرى ويجري الآن من تكفير وتهجير وذلك بسبب اختلاف المذاهب الإسلامية الأربعة وكل منهم يكفر الآخر تعيش البلاد تحت رحمة التخلف وقانون الغاب الذي لا نرى مخرجاً في المنظور القريب ويبقى الحال عليه، ? وعلى الآخر أن يحذر من هكذا توحش لأنه قد تمكن في هكذا نفوس مريضة ولا تدري في أي وقت تنفجر مثل القنبلة الموقوتة لأنه أصبح مغروسا في نفوسهم كما يقال، ? العلم في الصغر كالنقش على الحجر وهذه هي الطامة الكبرى…. الخ