دارا عبدالله : الحياة
في التقليد السياسي والدستوري العربي، لا تُقاس وسطيَّة التيّارات السياسيَّة بمدى وسطيَّة العدّة النظريَّة لهذه التيارات فعلياً إزاءَ الواقع، بل بموقعها مكانيَّاً بين التيَّارات السياسيَّة الأخرى في تلك اللحظة التاريخيَّة.
من هنا نـقبضُ على جـذر الإشكال، لأنّ من الممكن لتيَّــار سيـــاسي وسطي في الخليج أن يكون راديكاليّاً في سورية، وفي المقابل من الممكن لتيَّار سياسي راديكالي في ســورية أن يــكون وسطيّاً في الخليج.
الإخوان المسلمون المصريون أدركوا هذه اللعبة جيّداً، فلكي لا يقوموا بإخضاع الذهنيَّة الأيديولوجية الإسلاميَّة لعمليَّة تفكيك نقديَّة، أمعنوا بالنفخ في «الظاهرة السلفيَّة» وتضخيمها. هنا حدث «انزياحٌ للوسط» لا مرئيٌّ وغير محسوس في المشهد السياسي المصري، فتحوَّل الإخوان المسلمون إلى تيَّار سياسي وسطي بسبب ظهور تيَّار سياسي أكثر يمينيَّةً وتشدُّداً، وبالتالي تم إنقاذ معظم الموروث الفكري الإسلامي من حفر معرفي دقيق، وذلك بتحريكٍ نفعي في بنية الواقع للحفاظ على الثبات الإيديولوجي. هذا ما يعتبر من أكثر الالتفافات براغماتيَّةً لتيَّارات الإسلام السياسي، حيث يسبق التكيُّف الواقعي الإنتاج النظري دوماً (الموقف من الديموقراطية قبل «الربيع العربي» وبعده).
منذ تفجُّر الانتفاضة السياسيَّة-الاجتماعيَّة في سورية، ظهر في الخطاب السياسي السوري مُصطلح «تيَّار ثالث» أو «وسطي» أو «حيادي»… في الحقيقة تستخدم هذه العبارات باستسهالٍ شديد، وأحياناً توجَّه كتهمٍ تضمرُ إدانة أخلاقيَّة. فلنقم بصياغة السؤال على الشكل الآتي: ألا تنكر «جبهة النصرة» كل القوى السياسية الأخرى في المشهد السوري؟ ألا يعتبر «المجلس الوطني السوري» وسطيَّاً (وربَّما تيَّاراً ثالثاً) إذا حدَّدنا موقعه «مكانيَّاً» بالتّضاد مع «جبهة النّصرة»؟ (من الجدير ذكره أن المجلس الوطني يعتبر «هيئة التنسيق» تياراً سياسيّاً وسطياً)، وإذا ما ظهرت قوى أكثرُ راديكاليَّةً وتطرّفاً من «جبهة النصرة»، فهل تصبح «جبهة النصرة» وسطيَّة؟
لا تحدد وسطيَّة أم عدم وسطيَّة الجهاز المفاهيمي لأي تيَّار سياسي بالتضاد مكانيَّاً مع التيارات السياسيَّة الأخرى، بل تحدد جذريَّة هذا التيار من خلال الموقف المباشر والمفصّل من المركب السلطوي الحاكم.
* كاتب سوري