عصام خوري :جريدة الجمهورية
تُرجّح تقارير مختلفة، أنّ تنظيمي «الدولة الإسلامية في العراق والشام»(داعش) و«جبهة النصرة» هما أقوى التنظيمات المقاتلة للمعارضة إنضباطاً وقوة تنفيذية على الأرض، ولكن عندما نتمعّن بأعدادهم، نُصاب بالذهول، إذ أنّ عدد مقاتلي تنظيم «داعش» يُقدّر بنحو 11 ألف مقاتل، في حين أنّ عدد مقاتلي «النصرة» لا يتجاوز 5 آلاف.
تنظيمان لا يتجاوز عدد عناصرهما 16 ألف مقاتل، وهذا الرقم ليس متمركزاً في رقعة جغرافية واحدة، بل هو موزّع على كل أرجاء المناطق السورية، ما يعني إمكان إضعافه في بقعة معينة، اذا قرر النظام السوري ذلك، سيما وأنّه يمتلك من الترسانة العسكرية ما يخوّله إصابة عناصرهما من مسافات بعيدة.
فضلاً عن أنّ عدد مقاتلي النظام اليوم يتجاوز 200 ألف مقاتل بعد الإنشقاقات والفرار لعدد من المقاتلين، ويضاف إلى مقاتلي النظام عدد كبير من عناصر “حزب الله” وقسم كبير من المقاتلين العراقيين، حيث يُرجح عددهم بما يُقارب عدد التنظيمين الجهاديين التكفيريين “النصرة وداعش”.
من هنا ندرك أنّ قوة النظام العسكرية اليوم، قادرة على سحق هذين التنظيمين، الّا أنّها لم تفعل ذلك، وأكبر تأكيد على هذا الأمر كان خلال مجازر ريف اللاذقية، التي تزعّم الهجوم فيها تنظيم “داعش” بمشاركة كتائب أخرى تابعة للجيش الحرّ، ولكن النظام إستطاع كبح الهجوم وانسحب من هذه المعارك لتصبح المعركة واضحة بين النظام و”القاعدة”، وكانت النتيجة كثافة نيرانية كبيرة من النظام، أجبرت التنظيمين على التراجع وخسارة عدد كبير من مقاتليهما.
فكما يبدو، أنّ اللاذقية خط أحمر وفق رؤية “النظام”، بينما مدن أخرى هي مدن مباحة، فمثلاً في مدينة حلب يلاحظ المراقبون أنّ حواجز”داعش” معروفة ومستقرة منذ فترة طويلة، لكنّ النظام لا يقصفها أو حتى يشتبك معها، في حين يوجه كثافته النارية نحو الحواجز التابعة للجيش الحرّ مثل “لواء التوحيد”.
وبالتالي إنّ هذه السياسة العسكرية للنظام لا نستطيع تبريرها إلّا بكونها سياسة ماكرة، هدفها إشعار المجتمعات التي خرجت عن سيطرتها أنّها مجتمعات فاشلة، والبديل عن النظام فيها ليس الفوضى وحسب، بل التطرف أيضاً.
فلسفة النزاع
ظهور جسم سياسي معارض معترف به دولياً مثل الإئتلاف كان أمراً تقنياً، وكاد يسبب في زوال النظام سياسياً، إلّا أنّ قوة النظام الحقيقية لم تكن ببراعة دبلوماسييه، بل كانت برفض التنظيمات الراديكالية الجهادية التي سيطرت على قسم كبير من الأرض لمشروع الإئتلاف، فهذه التنظيمات ليست مؤمنة بمعايير الديمقراطية التي نادى بها الثوار بداية الحراك المتمثلة بشعاري “الحرية والعدالة”.
وكانت مهمة النظام السابقة “خلال عامين ونصف العام” أن يحاول تفشيل الإئتلاف، وقبله المجلس الوطني سياسياً، عن طريق تدمير ما يمكن من الجيش الحرّ، ودفع بعض مقاتليه للإنضمام إلى الكتائب المتطرفة القادرة على دفع رواتب للمقاتلين، كي تبرز تلك الأخيرة كقوة ضاربة في المعارضة المسلحة. من هنا يتوضح أمام المجتمع الدولي أنّ الإئتلاف جسم سياسي منفصل عن الواقع الميداني، هذا الواقع الذي يرفض الإئتلاف، وينادي بالدولة الإسلامية الشرعية.
لقد سيطر الجهاديون على مساحة جغرافية كبيرة، وباتوا يغيّرون أسماء المحافظات، فمثلاً محافظة الرقة بات إسمها محافظة “البركة”، وكما كان للنظام السوري سجون في الرقة، بات لتنظيم “داعش” سجون في البركة، وكما كان النظام يعتقل تعسفياً ويعذّب بدموية بحجة الدفاع عن العروبة ووهن نفسية الأمة العربية، كذلك تفعل “داعش” بحجة الدفاع عن كلام مفسّري القرآن والسنّة النبوية وفق مدرستهم الجهادية.
نعم النظام الذي احتل الكثير من الكنائس، جاعلاً إياها مقرات عسكرية يقصف منها مقرات الجيش الحرّ، ككنيسة القديسة “أنّا” في قرية اليعقوبية، و”كنيسة مار يوحنا المعمدان” في قرية جديدة، هو مشابه لتنظيم “داعش” الذي استولى على كنيسة البشارة، محولاً إياها إلى مقرّ أمني خاص به.
كل من النظام وتنظيم “داعش” دفعا المجتمع المدني السوري للتطرف، وهذا التطرف ليس إلّا سياسة موجهة من قبل إيران والسعودية، هاتان الدولتان الدينيتان اللتان تنظران للدول الفقيرة كسوريا كمزرعة، بالإمكان تصفية النزاعات فيها. بينما ينعم الخليج “العربي أو الفارسي” بالكثير من الأمان.
قوة “داعش” والنظام هي وَهم يتعزز بوجود الداعمين ويرحل مع رحيل المموّلين. من هنا كان واجباً على “جنيف2 ” أن يقنع الأطراف الممولة باستراتيجية تحفظ ماء وجههم، وتُخلّص الشعب السوري من كابوس التطرف المؤسس من النظام، والمجسّد جديداً عبر “القاعدة”.
إيران والسعودية
فقد أثبتت التجربة المصرية بعد ثورتها الثانية، أنّ المجتمع الدولي لا يرغب في دول دينية في المنطقة، وهذا أمر تتخوف منه إيران تحديداً، لأنّه قد يقلّص مستقبلاً من صلاحيات نظامها الملالي. فإيران لم تحارب “القاعدة” على حدودها الأفغانية، لا بل استقبلت عدداً من قادتها على أرضها لفترة، أمثال أولاد أسامة بن لادن. كما كان تنامي “القاعدة” في العراق سبباً لتكتل الشيعة وراء الأحزاب الشيعية المدعومة من إيران، واليوم أيضا يأتي تنامي”القاعدة” في سوريا سبباً إضافياً لتكتل الشيعة في المنطقة مع نظام الأسد.
بينما السعودية الداعمة للإسلاميين الجهاديين تدعمهم وفق أجندة تبعد الإخوان عن السلطة السياسية في دول الربيع العربي، فالسعودية ترغب أن تكون الدولة الإسلامية السنّية الوحيدة في المنطقة، وهي تخاف من الفلسفات الدينية القوية التي تحيّد الفلسفة الوهابية، وتجعلها رقم 2 في العالم الإسلامي.
«الجبهة الإسلامية»
من هنا نفهم أنّ مبادرة الأميركيين في محاولة كسب ود تنظيم “الجبهة الاسلامية”، والذي يمثّل اليوم الجناح الإسلامي السوري الأقوى في سوريا، كونّه يضم تنظيمات “كلواء الحق وجيش الإسلام ولواء التوحيد وأحرار الشام…” والتي تعهدت في بيانها التأسيسي بناء مشروع دولة إسلامية سورية، وليس دولة خلافة كما يسعى لها تنظيما القاعدة الفاعلان في الأرض السورية، كما تعهد بحفظ أمان الأقليات الدينية والإثنية في العمل والحياة على الأرض السورية. هي مبادرة مد اليد الأميركية للنظام السعودي، المنزعج من التقارب الدولي مع إيران بعد التوقيع على الملف النووي.
والجدير بالذكر، أنّ تنظيم “الجبهة الاسلامية” اليوم، يقارب في عدده المئة ألف مقاتل، مما جعله تنظيماً قادراً على إقصاء هيئة الأركان السورية التي يقودها سليم إدريس، المصنف من قبل الجهاديين الإسلاميين كعميل للأميركيين والغرب.
هذا التنظيم الجديد كما يبدو، يمسك العصا من المنتصف، فهو لا يعادي “القاعدة” جهاراً، لابل يحاول التمييز بين الجولاني والبغدادي، كون الأول أقلّ تطرفاً، وهو حتى اليوم يعلن جهاراً أنّه لن يتفاوض مع السفير الأميركي روبرت فورد، ويطالب أن يكون بيان جنيف2 النهائي متضمناً رحيل الأسد عن السلطة.
طبعاً هذه الجبهة اشتبكت في الفترة الأخيرة مع داعش في أكثر من واقعه، وهي التي استطاعت إعطاء لواء التوحيد القوة الكبيرة كي يمنع زحف داعش على حلب وريفها، مما أعطى نوعاً من التوازن العسكري بين التنظيمات الإسلامية المقاتلة. وهذا الأمر بحقيقته العامة يريح الأميركيين والغرب، لكنّه في حاجة أكثر إلى نوع من الترتيب السياسي والعسكري، وربما يكون هذا الأمر تحت الطاولة أو عبر وسطاء.
فتخوفات الغرب والروسيين كبيرة من الواقع السوري، وإذا تنامى نفوذ الجهاديين بشكل أكبر، ربما قد نرى الطائرات من دون طيار التي تضرب معاقل القاعدة في اليمن هي أيضا فوق السماء السورية، وهي مؤكّداً ستكون أكثر رحمة من طائرات النظام التي ترمي عشوائياً براميلها على الأحياء المدنية ضمن سياسة ممنهجة، هدفها العقاب الجماعي لأي بيئة حاضنة تقول لا لبشار الأسد.