رشيد الخيُّون
لفت نظري، خلال البحث عن عقوبة القتل لسبب ديني، ما تضمنته الدائرة القانونية لجامعة الدول العربية، من تلك العقوبة، غير «القصاص». فالجامعة، التي مرت قبل أسابيع الذِّكرى 73 على تأسيسها، أثبتت عقوبة القتل على «الرِّدة»، و«الزِّنى»، و«السب»، والأخيرة تقصد الإساءة للمقدسات، الذات الإلهية والذات النبوية، وزاد عليها فقهاء الإمامية ذوات الأئمة، وقد ثبت ذلك في قانون العقوبات الإيراني، أي قتل الساب كمرتد.
مع أن تلك العقوبات، ذات التشريع الفقهي، لا وجود لها في القرآن الكريم، وقد فصلها الشيخ طه جابر العلواني (ت 2016) في «لا إكراه في الدين إشكالية الردة والمرتدين». كذلك عقوبة الرجم بالحجارة، لا وجود لها في الكتاب، إنما بررت بآية «الرجم» المرفوعة تلاوةً والمثبتة حكماً، أو بنسخ الحكم القرآني بالسُّنة (ابن قُدامة، المغني). أيضاً لا تجد في القرآن نصاً صريحاً يُحكم به السَّاب بالموت، واعتباره مرتداً.
ولأن تلك العقوبات، شأنها شأن عقوبة السرقة، التي أوقفها عمر بن الخطاب (اغتيل 23ه)، خلال عام «الرَّمادة» (18ه)، لم تعد تناسب الزمن، بل غدا تطبيقها عاملاً منفراً من الدِّين، لكن ما يُثير الاستغراب أن معظم الدول المنضوية في جامعة العربية، نجد لوائح الجنايات لديها خالية من تلك العقوبات، ومعظمها حصرت ما يخص الجانب الديني بالسجن والغرامة، كذلك الحال بالنسبة لجناية الزنى من قبل المحصنين، وهذا ما يتلاءم مع نصوص القرآن، الخالي من القتل لشأن ديني، بما ليس له علاقة بالحرب.
فقد جاء في معظم قوانين الدول العربية عن الجنايات التي تمس الشعور الديني: «يُعاقب بالحبس مدة لا تُزيد على ثلاث سنوات، أو بغرامة لا تُزيد على ثلثمائة دينار: 1- مَن اعتدى بإحدى طرق العلانية على معتقد لإحدى الطوائف الدينية أو حَقر شعائرها. 2- مَن تعمد التَّشويش على إقامة شعائر طائفة دينية أو على حفل أو اجتماع ديني أو تعمد منع أو تعطيل إقامة شيء من ذلك. 3- مَن خرب أو أتلف أو شوه أو دنس بناءً معداً لإقامة شعائر طائفة دينية أو رمزاً أو شيئاً آخر له حُرمة دينية. 4- مَن طبع أو نشر كتاباً مقدساً عند طائفة دينية إذا حرف نصه عمداً تحريفاً يُغير معناه، أو إذا استخف بحكم مِن أحكامه، أو شيء مِن تعاليمه» 5- مَن أهان علناً رمزاً أو شخصاً هو موضع تقديس أو تمجيد أو احترام لدى طائفة دينية. 6- مَن قلد علناً نسكاً أو حفلاً دينياً بقصد السُّخرية منه» (قانون العقوبات العراقي 1969). أتينا بالقانون العراقي كمثال، وبعد المقابلة وجدنا أغلب الدول تتشابه عقوباتها معه، خالية من القتل والرجم، ما عدا أربعة دول، ودولتان لم تشرعا قانون عقوبات، إنما جعلتاه بأحكام القرآن والسُّنة، لكن لم يعرف عنها أنها رجمت أو قتلت بتهمة الرِّدَّة.
إلا أن جامعة الدُّول العربية أعطت شرعية استثنائية لتلك العقوبات، فوفقاً للمادة (163) من القانون الجزائي الموحد «يُعاقب المرتد بالإعدام إذا ثبت تعمده، وأَصر بعد استتابته، وإمهاله ثلاثة أيام» (الموقع الرسمي). باعتبار أن هذا الحكم من القرآن الكريم: «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ» (آل عمران: 85). السؤال: أين «القتل» في الآية؟ فهل عدم القبول تعني «القتل»؟! وماذا عن «وهو في الآخرة مِن الخاسرين»؟! وماذا عن الآية «أفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» (يونس: 99)! بهذا، تبنت الجامعة كلّ ما يتعلق بأحكام الشَّريعة.
نجدها غريبة، أن تكون الدُّول المكونة للجامعة العربية غلبت اللين على الشِّدة، في عقوباتها، ولم تذكر «المرتد» بالاسم، ولا عقوبة «الرجم» بالحجارة، انظر: القانون العُماني والإماراتي والمصري والتونسي والجزائري والكويتي والسوري والأردني والليبي مثلاً. بينما الجامعة نفسها تنفرد بقوانين يغلب فيها التشدد، مع أن مِن دوائرها «اللجنة العربية الدائمة لحقوق الإنسان»، ويأتي حق الاعتقاد في المقدمة، وهي بشكل من الأشكال قد وافقت على لائحة حقوق الإنسان العالمية، مثلما وقعها العديد من أعضاء الجامعة.
عموماً، الشِّدة لا تحمي الدين ولا القتل يبقيه، بقدر ما تحميه مثله العليا في الرأفة والرحمة، وهي الآيات التي عمد فقهاء «الناسخ والمنسوخ» لرفعها حكماً من الكتاب. فقوانين الشريعة نفسها نُفذت برجال دين، والأبرز في العصر الراهن الفقيه محمود محمد طه (أعدم 1985)، لاعتراضه على تطبيق قوانين الشريعة، وبعده حسين مروة (1987)، وفرج فودة (1992).
أقول: نجد عند أبي العلاء المعري (ت 449ه)، نموذج الفقيه الذي يناسب العصر، المخفف من الشدة والخلاف، كي لا تسفر عن تطرف وغلو: «فالعراقيُ، بعده للحجاز/يِّ قليل الخلاف سَهل القيادِ/ وخطيباً لو قام بين وُحوشٍ/ عَلمَ الضَّارياتِ برَّ النِّقاد» (سَقط الزنِد)، وإلا فالضاريات تجتاح المنطقة بالبنادق والرايات، كلٌّ يدعي تطبيق شريعة الله.
* نقلاً عن “الاتحاد”