كانت في اللاذقية ضجة قبل أكثر من ألف عام، ما بين أحمد والمسيح. لم يكن القائل يدري ما الصحيح ومات وهو لا يدري. الذي عاش وكبر وتضخم هو الضجة، حتى أصبحت تصم الآذان وتهدم الديار وتستحل الدماء والأعراض. آنذاك كانت الضجة بين أتباع أحمد وأتباع المسيح، ثم صارت بين أتباع أحمد وأحمد، بين علي ومعاوية، فالحسين ويزيد، فالعجم والعرب، حتى أصبحت بين العرب الروافض والعرب النواصب حسب تسمية بعضهم البعض. لا يقول أحدهم عن الآخر الرافضي المسلم أو الناصبي المسلم، لأن المقصود بالتجريد هو الإخراج من الملة الأحمدية بالكامل، والنفي والعياذ بالله من الجنة إلى الجحيم.
تصاعدت الضجة بين أتباع أحمد، بحيث صار التابع الرافضي (مجازا) يحتمي بالأعاجم، والناصبي (مجازا) يحتمي بالروم. لكأن الزمن استدار دورة كاملة فعاد كما كان، عرب وعجم وروم، وكذلك موازين القوى أكملت نفس الاستدارة.
في الأيام القليلة الماضية أضيف إيقاع محلي (سعودي) إلى الضجيج القديم، له نغمة خاصة، نغمة في ظاهرها ثقافة عالية وفي باطنها تعصب قافز فوق شروط التعايش داخل إطار الحريات التعبدية المذهبية، بحيث لم تستطع المفردات المهذبة إخفاءه.
الإضافة المحلية ذات النغمة الثقافية كانت بين دكتورين من أساطين الرأي المحلي، أحدهما أحمد المحسوب على مذهب، والآخر توفيق المحسوب على مذهب آخر. لست متأكدا من تجيير الحماس الذي أظهره كل واحد منهما، هل هو لحساب الدين الأصلي الجامع الواحد، أم للمذهب الخاص بما يحمله من نتائج اجتماعية، أم أنه (بما قد يكون استقر في الذهن من ضرورة التماشي مع التيار الانتمائي) لإثبات الولاء باستعراض العمق المعرفي لنواقص المذهب المضاد، ثم ينام كل منهما ملء جفونه وتسهر الناس جراها وتختصم.
ما أنا متأكد منه هو أن المناظرات العقدية والمذهبية في محصلتها التاريخية النوعية، لم تكن يوما ذات جدوى إيجابية، حتى وإن أحدثت «نادرا» تحول أفراد من صف لآخر. عبر التاريخ كانت الناس في الأغلب الأشمل على أديان حكامها، إما إكراها أو تقية، ونادرا عن اقتناع. اقرأوا جيداً التاريخ المذهبي ومساراته منذ ألف عام حتى اليوم، في مصر والعراق والجزيرة وفارس وشمال أفريقيا واليمن، وسوف تدركون ما أعنيه. فقط في تلك المراحل التاريخية التي ازدهرت واستقرت فيها الأوضاع الاقتصادية والأمنية في دولة ما وارتاح الناس (وهي قليلة) تركت الحكومات والمذاهب الانشغال بالسياسة فتعايش الناس وتزاوجوا وتصافوا وفرحوا ورقصوا معا وسكت الضجيج.
أمر آخر أجد نفسي متأكدا منه، هو أن ذلك المسيحي الذي كان ينافس بناقوسه في اللاذقية صوت المؤذن، اقتنع بعدم جدوى الضجيج المرتفع وركز على التفكير في الحياة والإنسان والطبيعة والتجديد، وترك الحرية في علاقة الفرد مع الله للضمير، فأصبح يتحكم بالآخرين ويتلاعب بهم. استدار الزمان دورة كاملة وعاد الروم إلى الغلبة. الأعاجم وعرب الأعاجم والعرب وعرب الروم مازالوا يتبارون في إحداث الضجيج الأقوى لدرجة أصبحت تنذر بكارثة نهائية للطرفين.
محزن جدا، على ضوء حقائق القوة والسيطرة والتوجيه، أن يشارك مثقفان محليان ذوا جودة نوعية عالية، في جوقات الضجيج المستمر منذ الأزمنة الموغلة في القدم. إن كان كل واحد منهما يعتقد أنه أقرب إلى المفاتيح الصالحة لأبواب الجنة لأنه يحتكر حقيقة وجوهر الدين، فعليه أولا أن يتذكر الواقع الدنيوي البائس لأتباع المذهب داخل مذهبه ويفكر قي أسبابه، فلا يكون جزءا من استمرار هذا الواقع.
تكملة البيت القديم الذي بدأنا به كانت يا ليت شعري ما الصحيح؟
الأمر في ذلك متروك لحكم الله في خلقه حين جعلهم مختلفين، ليتعارفوا، لا ليتقاتلوا. الحرب أولها الكلام ومن الكلام ما قتل، فليت حوار مثقفينا المحليين أحمد وتوفيق بقي بينهما ولم يفض على عامة الناس فيفتنهم.
* نقلا عن “الجزيرة” السعودية