ميتشيل بيلفر
بالنسبة للذين تناسوا الفروق الدقيقة للحياة السياسية الدولية، أود أن ألفت انتباهكم في هذا الصدد إلى أن: الدول العنيدة تتفاوض انطلاقا من مبدأ الضعف وليس القوة. ولا تعكس هذه المفاوضات غالبا الاندفاع المفاجئ نحو الرؤية الأخلاقية، بقدر ما تعكس الاعتراف بتوازن القوى السلبي غير المرغوب. لكن إذا كان التوازن ملائما وإيجابيا وخارت عزيمة خصمك الرئيس، فعليك أن تهاجمه. بالتأكيد إن هذا الهجوم يقدم حلا سريعا وبسيطا للمواقف المعقدة عادة. بيد أن ما يجري التفاوض بشأنه ليس سلاما عالميا، بل إرجاء مؤقت. وفي عالم لا تزال تحدده القوة، ينطوي الإخفاق في قهر وإخضاع الخصم كما ينبغي، بشكل نموذجي، على خوض غمار منافسة وتكبد كل تكاليفها وقابلية التعرض للإصابة وعدم القدرة على التنبؤ التي تستلزمها تلك المنافسة.
تعد إيران واحدة من هذه الدول العنيدة. ونادرا ما ترتبط الكثير من المصالح الإقليمية والدولية بقوة واحدة وبمساعيها للهيمنة الإقليمية. يعد الخليج بمثابة برميل بارود قابل للانفجار في أي وقت: فيواجه مضيق هرمز تهديدا بالإغلاق، وتواجه البحرين المضايقات الإيرانية المباشرة، ويتم استنزاف ثروات سوريا على يد حزب الله والحرس الثوري الإيراني والجيش النظامي السوري الذي تمده طهران بالسلاح. بيد أن وجود إيران في المحادثات النووية بجنيف يعكس الضعف الإيراني: فهي تفتقد القدرة العسكرية، ويسير اقتصادها الوطني متثاقلا وسط حالة كارثية، بالإضافة إلى تحطم وتفتت تحالفاتها. لقد أخذت إيران على عاتقها القيام بمهمة لا تستطيع إكمالها وتفوق قدراتها العسكرية التي يشوبها الهرم. وقد تهدد إيران بوقف التجارة الدولية للمحروقات عبر مضيق هرمز، لكنها لا تنفذ ذلك التهديد بسبب عدم قدرتها على ذلك.
ربما حصلت القوات البحرية للحرس الثوري الإيراني على القوارب الدورية السريعة وقد يكون لديها القدرة على نشر ألغام بحرية وصواريخ لإعاقة تدفق حركة التجارة عبر المضيق، بيد أن هذا الإجراء يفيد في تحقيق مكاسب على المدى القصير فقط، ولا يعد استراتيجية طويلة المدى. وإذا حاولت إيران تنفيذ أي إغلاق من هذا القبيل، فستتراجع حظوظها العسكرية بشكل سريع وتراجع قدراتها على نحو أسرع. قد تكون القوات العسكرية الإيرانية قادرة على قمع الانشقاق الداخلي والمحتجين الصامتين العزل، لكنها لن تتمكن من مجاراة القدرات العسكرية الهائلة المعاصرة في القرن الـ21 لدول مجلس التعاون الخليجي، ناهيك بالولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا. وبهذه الطريقة، فإن تكوين القدرات العسكرية في منطقة الخليج، كرد فعل على التهديدات الإيرانية، قد أنجز مهمته وأوفى بغرضه، وتبقى إيران مكسورة شوكتها في ضوء وعودها التي لا أساس لها.
وفي البحرين وسوريا، تمكنت إيران من تحقيق بعض المكاسب، المحدودة على الرغم من عدم تماثل طبيعة تلك الانتصارات. قد يكون حزب الله قد استحوذ على القصير وعمل مقاتلوه على استمرار التوترات في البحرين لدرجة تقترب من نقطة الغليان، لكن من حيث القوة العسكرية الحقيقية، فقد فشلت الجمهورية الإسلامية في أول إشارة بالتدخل الدولي. عندما أطلقت القوات السورية الأسلحة الكيماوية في 21 أغسطس (آب) 2013، ودفعت فرنسا والولايات المتحدة بأسطوليهما في منطقة البحر المتوسط إلى المياه السورية، كانت إيران هي السبب وراء دفع سوريا للإقدام على السماح للمفتشين بالدخول إلى سوريا للتخلص من أسلحة الدمار الشامل التي تمتلكها. تعكس هذه السياسة عدم استعداد القوات النظامية الإيرانية التي تعهدت بدعم نظام الأسد حتى النهاية. وبدلا من مواجهة هزيمة قاسية، فقد آثرت اللجوء إلى المفاوضات. وفي البحرين، باءت بالفشل محاولات تأجيج الصراع وصفدت دول مجلس التعاون الخليجي أغلال نشر القوات النظامية بصورة فاعلة في الجزيرة. قد لا تشهد سوريا توقفا للأعمال العدائية المنتظمة لبعض الوقت، وقد تظل القوات غير النظامية لإيران متمركزة بجنودها وتنفذ عمليات في البلاد في المستقبل المنظور، وعلى الرغم من ذلك، فإن الجمهورية الإسلامية عاجزة بوضوح عن توسيع تعهداتها للأسد بنشر القوات النظامية، حيث لا يوجد لديها العدد الكافي أو النوعية أو القدرات الكافية من هذه القوات. قدرات إيران المعطلة، هي في الحقيقة، أعظم نقاط ضعفها وإدراكها لذلك هي التي تدفعها إلى الجلوس في مفاوضات الأسلحة النووية.
لماذا؟ لأن إيران تعاني ضائقة مالية وتحتاج إلى مهلة من العقوبات الاقتصادية التي فرضت ضدها لتتمكن من إعادة تسليح جيشها، وتخفيف الضغوط الداخلية ومواصلة مساعيها لفرض الهيمنة الإقليمية. لكن رغباتها هذه متوقفة نتيجة الوضع الاقتصادي الصعب.
قد تكون هذه هي المرة الأولى في التاريخ الحديث، التي يؤدي فيها فرض عقوبات اقتصادية شاملة على إعادة توجيه السياسة الخارجية لبلد ما. فإيران لم تتراجع فجأة عن تنفيذ مصالحها الإقليمية بنشر ثورتها في جميع أنحاء الشرق الأوسط، إلا لعدم قدرتها على تنفيذ هذه الغايات لأنها مفلسة. عندما وافق مجلس الشيوخ الأميركي على فرض عقوبات أكثر صرامة ضد إيران الأسبوع الماضي، نفدت خيارات الجمهورية الإسلامية وقررت الجلوس للتوصل إلى تسوية عن طريق التفاوض. هذه، بطبيعة الحال، حيلة. فإيران تحاول فقط تخفيف التوترات الاقتصادية. ولكن النتيجة هي ذاتها، وهي أن إيران أقرت بالهزيمة.
يأتي كل هذا في وقت يبدي فيه حلفاء إيران الرغبة أو القدرة في الدفاع عن الجمهورية الإسلامية بالقدر الذي تريده. المؤكد أن إيران تحظى بدعم دبلوماسي واقتصادي من روسيا والصين، ولا تزال الهند تخرق نظام العقوبات الدولية وتشتري النفط الإيراني. لكن أيا من تلك الدول لا ترغب في قطع علاقاتها مع دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى، أو الولايات المتحدة وحلفائها من أجل إيران، لأنها تشكل المورد الرئيس للطاقة للصين التي لن تبدو سعيدة بوقف تلك الإمدادات. وكان على روسيا إحداث حالة من التوازن بين مصالحها الإقليمية بدقة. فقد لا تكون مستعدة (حتى الآن) لإضفاء الشرعية على أي تحرك للأمم المتحدة أو منظمة حلف شمال الأطلسي في سوريا، لكنها في الوقت ذاته لا تريد المخاطرة بمزيد من العزلة مع إيران.
ولذا كان الحلفاء الذين لا يمكن التعويل عليهم، وتزايد السخط الداخلي والخدمات المسلحة المتداعية، أبرز العوامل التي دفعت إيران للسعي للسلام، على الأقل من الناحية النظرية. واقع الأمر أن إيران تعاني من مشكلة صورتها لأنها دولة عدوانية ذات أجندة عدوانية. فهي تسعى إلى إظهار النضج، والكثيرون في واشنطن وبروكسل، لسبب ما، يصدقون هذا الضجيج. ويبدون استعدادا لتخفيف العقوبات أملا في أن تكون إيران قد تعلمت الدرس، وتعيد تأهيل نفسها. لكن تخفيف العقوبات الاقتصادية بعدما بدأت تؤثر بشكل كبير على إيران ليس سوى سياسة قصيرة النظر إلى حد بعيد. عوضا عن ذلك، قد يكون الوقت الراهن هو الوقت الأنسب لمضاعفة نظام العقوبات، وإجبار إيران على دفع ثمن باهظ – اقتصاديا – لنشرها حزب الله في سوريا والبحرين، وما تطلقه من تهديدات والمضايقات والقمع الداخلي واستخدام القوة.
ويجب أن نجعل الإيرانيين يعرفون كيفية إنفاق مواردهم المالية الشحيحة على زيادة القوة المسلحة الإيرانية في الوقت الذي يعاني فيه الأفراد من أزمات اقتصادية طاحنة.
* رئيس نشرة وسط أوروبا للدراسات الأمنية والدولية في جامعة متروبوليتان في براغ
خاص بـ «الشرق الأوسط»