في الجلجثة

في عيد الشكر وفي عيد رأس السنة وفي كل عيد وخصوصاً يوم مولدنا ويوم مولدك أبكي عليك وأنا أستحضر صورتك أمامي: ماشيا ..معجباً بنفسك وأنت تموت أو وأنت تفتدينا ..خارجا إلى الجلجلة تجرُ بخطواتك جرا من شدة الخيلاء بنفسك ..وهم يضحكون خلفك كما يضحك عليّ اليوم كل من بيده قرار جلدي… في (الجلجثة) خارج القدس القديمة قادوك وسحبوك مثل حملٍ وديع وهم لا يدرون بأنهم يسحبون قدس الأقداس وسر الأسرار والديان يرمقهم ويشاهدهم وهم يصلبون أبناءه ودماءه تنزف على الأرض وصراخه يعلو في السماء والكل يتناقل الأخبار بشرا وملائكة من خلال برقيات مستعجلة وإيميلات حقيقية على صلب الابن والروح وعلى صلب كل ابن, في الجلجلة قصتنا جميعنا وذريتك جميعها تتشاطرُ هنالك أنغام الحزن على صوت إيقاع خطواتك الجريئة التي سيتردد أو تردد صداها في معظم بقاع الأرض …على الأرض الطيبة التي يخرج منها الطيبون الأوفياء للصليب, وفي قصة الصلب في الجلجلة أو (الجُمجمة) نلاحظ هنالك ونقرأ قصتنا جميعنا ونشاهد هنالك صلبنا جميعنا ونلاحظ هنالك حرق مشاعرنا على الإنسانية والرحمة التي غادرت آخر معاقلنا ومنازلنا الكئيبة, ونشهدُ هنالك آخر شمعة مضاءة وآخر الابتسامات ….في الجلجلة لا ترتفع أصوات الحمير ولا أصوات الصراصير بل أصوات الحملان الوديعة الزاهية التي تلبس أحلى ما لديها من حلة لتطهر بدمائها وجه هذا العالم الذي ينجسه الدجالون بسحرهم وكذبهم ودجلهم ….في كل دقيقة وفي كل ساعة, في الجلجلة أشهدُ بأن منظرك هو منظري وأقسمُ بأن أباك هو نفسه أبي …وبأن أمك هي أمي وأم كل من قادوه إلى الجلجثات في كل العواصم التي تحتقرُ الحرية والمساواة بين الجنسين وبين العلمين وبين ألوان البشر ..وأشهدُ بأن أمك هي أمي بنفس الملابس وبنفس الدموع ..وبأن صوت حزنك هو صوتُ حزني..وبأن الخشبة نفسها الخشبة التي رأيتها في شوارع اربد وعمان …منظرك هو منظري..وقصتك هي قصتي مع الزمن ومع الصيارفة وأصحاب المعالي والقيافة والفخامة والنيافة …. وفي الجلجثة أستمع لصوت بكائي وفي الجلجثة أشهد منظر أمي وهي تقبرنا أنا وإخوتي بيدها قبرا روحيا جراء أعمال التصفيات الثقافية التي يقودها الزعران والسوكرجية وهم هُم الذين صلبوك في الجلجثة وإن اختلفت الأسماء والوجوه تبقى القلوب البيضاء بيضاء تشبهك وتشبهني وتشبه كل من آمن بك وتشبهني أنا بالذات وخصوصا حين أرفع صوتي بالثغاء مثل حملٍ وديع ذبحوه في مسلخ على القُرب من ناصية الشارع …وتشبه أمي وإخوتي الذين أشبههم بمنظر أمك وهي تشهد في الجلجثة على جلدك وصلبك , وكانت أمك شاهدة على صلبك وجلدك وهي متربعة القدمين ترنو إليك وعيونها يملأهما الحزن على مصير العالم الذي افتديته بدمك وما زالوا يكيدون لك حتى بعد صلبك على طريقة صلب المجرمين والزناة والحرامية اللصوص وعن يمينك مذنبٌ وعن شمالك مذنب والناس منهم قعودٌ ومنهم وقوف صامتون لا ينبسون ببنت شفا لهم والعصافير تطير من حولك وهم يجرونك والصليب على كتفيك وما زال عشاقك يصلبون خارج العواصم العربية في الجمجمة(الجلجثة) وفي عمان وفي دمشق وفي بيروت التي أصبحت كلها جلجثات ,وكذلك شوارع بغداد التي أصبح كل شارع فيها (جُلجُثة) .
في الجلجلة حيث لا صوت إلا صوت الجلادين وزلا ثغاء إلا ثغاء الثكلى والمتعبين والمرهقين والبكائين , في الجُلجثة حيث لا شمس تطلع إلا لتحرق ولا رياح تهبُ إلا لتضربك على رأسك ولا نجمة تطلع إلا ليستدل على مكانك بواسطتها السماسرة والجلادون, في الجلجثة حيث أكلوا من لحمك وشربوا من دمك وأخذوك من بيتك ومن بين أحضان أمك وأبيك مثل دجاجة اقتلعوها من تحت شجرة زيتون رومية, في الجلجثة سحبوك وضربوك وطعنوك من الخلف ومشوا بعد ذلك يبكون عليك واختلطت بعد ذلك أصوات الحمقى مع أصوات الأذكياء واختلطت أصوات الخونة مع أصوات الأوفياء وأنت يا لك من مصلوب ويا لك من أجمل صليب على وجه الأرض.
في الجلجثة أنا مثلك قادوني في آخر مرة حيث تعوي الكلاب وحيث لا أسمع إلا أصوات السلاسل وبرقيات التهديد المستعجلة جدا جدا جدا , في الجلجثة ما زلتُ أراك كلما صحوت من نومي على صوت الناي الحزين في حنجرتي, في الجلجثة أراك كل يوم كلما أنظر إلى نفسي وأبكي على أحزاني وآلامي وأوجاعي الحزينة في الجلثة أستمع إليك كلما اعتليت بصوت نحيبي ونواحي على أربعين عاماً قضيتها من عمري .
في شوارع مدينتي أتذكرك وأبكي عليك آلاف الدمعات وملايين الجلاجل حين أشعرُ بعطشي وجوعي .

About جهاد علاونة

جهاد علاونه ,كاتب أردني
This entry was posted in الأدب والفن. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.