بمنتهى الجسارة كان قد أدلى الحبيب بورقيبة برأيه في مسألة المساواة في الميراث بين الرجل والمرأة في خطابٍ له أمام شعبه ، وأعرب عن نواياه في إقرار العمل بمدأ المساواة في الميراث بين الجنسين في المحاكم التونسية ، الأمر الذي إستفز العقليات البدوية في الخليج التي غرّها ثرائها الحديث آنذاك وزيّن لها نفطها أنّ بمقدورها التسلط على رقاب العالمين ، فعملت السعودية على الضغط على بورقيبة ليعدل عن تصريحاته ، وبعث المفتي آنذاك ابن باز برسالةٍ ـ تُضاهي جسارة تصريحات بورقيبة ـ إلى مدير الديوان الرئاسي آنذاك، مفنّدا ( شبهة ) المساواة في الميراث، مذكِّرا بمبدأ أفضلية الرجال على النساء ، جاء في متنها: (( ثم يُقال لهذا الرجل وأمثاله إنّ مساواة المرأة والرجل في كلّ شيء لا يُقرّه شرع ، ولا عقل صحيح، لأنّ اللّه سبحانه قد فآوت بينهما، في الخلقة والعقل ، وفي أحكام كثيرة، وجعل الرجل أفضل منها ، وقوّاماً عليها لكونه يتحمّل من المشاق والأعمال ما لا تتحمّله المرأة غالباً، ولأنّ عقله أكمل من عقلهاغالباً ، ولذلك جعله اللّه سبحانه قائماً عليها حتى يصونها… وجعل شهادة المرأتين تُعادل شهادة الرجل لكونه أكمل عقلاً وحفظاً منها ))
وبالطبع لم ينسى المفتي أن يتهم بورقيبة بالكفر الصّريح كعادته دائماً مع كلِّ مخالف ، وهدّدهُ مخيِّراً إيّاه بين إعلان التوبة النصوح عن ذلك التصريح أو تكذيبه فوراً. وقد ذكر محمّد المصموديّ، وزير الخارجية في عهد بورقيبة أنّ الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود وفي إطار الحملة المُكثّفة ضد نوايا بورقيبة في مساواة المرأة بالرجل في الميراث ، أرسل إلى بورقيبة برسالةٍ هدّدهُ فيها بالقطيعة في حال إقراره المساواة في الميراث. (“حقائق”، عدد 954، 14 / 4 / 2004 ).
والحقيقة فإنّني بعد أن قرأت عن هذه الرسائل والتهديدات لبورقيبة لمجرد تفكيره في مساواة الجنسين في الميراث ، ذُهلت غاية الذهول، إذ ما دخل السعودية في شأن داخلي تشريعي مختص بدولة ذات سيادة وطنية كاملة إسمها تونس ، إذ رفض خطاب بورقيبة المنادي بالمساواة في الميراث لم يصدر من المؤسسة التراثية في تونس أو سلفيِّيها ، الأمر الذي قد يجعله مقبولاً ، ولكن جاء ذلك الرفض ( الوقح ) من أقصى الشرق ، من السعودية ، ومن مفتي الحرم المكِّي لا من مفتي المؤسسة الدينية الأعرق بتونس الزيتونة . الأمر الذي حملني للوهلة الأولى لإرجاء السبب في حرمان التونسيات من نصيبيهن في الميراث بتوجيه من فضيلة المفتي السعودي هو أنّ هذا الأخير يُمارس ( التعريص ) فقط لا غير .
فالتعريص هو أن يُلحِق المرء بغيره ضرراً لا مُبرِّر له أو مصلحة مباشرة يجنيها الضار من فعله المُضِر ذاك ، وأصل الكلمة حسب علمي أنّ جزورها ترتد إلى كلمة ( مع الرئيس ) ، وكانت تُطلق بدءً على طبول وأبواق السلطة ،فيُقال فلانٌ ( مع الرئيس ) ، أي طبلٌ من طبوله مدافعاً عنه بالحق والباطل ، وتخفيفاً لنطقها بالدّراجي تم لصق شقي كلمة ( مع الرئيس ) لتُصبح ( معرئيس ) ولم تلبث أن تطورت وأضحت إمعاناً في التخفيف ( معرّص ) . وتطور معناها ليشمل جميع المُداهنين والمتملِّقين الذين يمكن أن يقترفوا كلّ فعل في سبيل المداهنة والتطبيل للسلطة حتى ولو لم يكن ذاك الفعل يعود بأثر إيجابي مباشر على ( المعرّص ) .
طبعاً الذي يُحيِّرني هو إدراج الكلمة ضمن قاموس الألفاظ النابية أو السوقية ،رغم أنّني أجدها كلمة مُعبِّرة ودقيقة جداً في الوصف ولها بعد سياسي زكي للغاية ، وأجد أنّها أجدر بأن تأخذ محلها مُعزّزةً مُكرّمةً ضمن مصطلحات أو مفردات الخطاب السياسي بل والثقافي بدلاً من إحتكار السُّوقة وأبناء القاع لها !
عموماً وبالعودة إلى موضعي الأساسي فإنّ المُبرِّر الذي ساقه ناقص العقل والدين ( ابن باز ) لإغتصاب نصف حقوق النساء التونسيات بالميراث والمُتمثل ـ أي المُبرِّر ـ في نقصان عقولهن ودينهن ،هو كغيره من المُبرِّرات واهيٍ ومتهافت ،فحتى لو سلّمنا جدلاً بنقصان عقل المرأة ودينها فهل هذا يُضفي التبرير الأخلاقي أو المنطقي لإغتصاب نصف حقِّها بالميراث ؟ واضح أن حُجّته ضعيفة جداً تماماً مثل المُحاججات التي يسوقها الأصليون ودعاة الإسلام السياسي أو الحركات الإسلامية المعاصرة عندما تنتقد مشروعهم التشريعي الخاص بالمرأة والذي يُنادي بتطبيق نظام الميراث الفقهي المغتصِب لنصيب المرأة ، فيقولون لكّ: بأن الإسلام أعطى للمرأة حقها كاملاً بالميراث في حالةٍ من حالات الميرآث.
دون أنْ يُكّلِف هذا الأصولي نفسه عناء تبرير إغتصاب نصف ميراث المرأة في واحدة من حالآت الميرآث تلك ، وكأنّما لسانُ حاله يقول لك : إنّ إعطاء المرأة حقها كاملاً في حالة من حالآت الميرآث يُبيح إغتصاب نصف حقها في حالة أُخرى من حالآته . وذآك لعمري مبدأ غريب وتبرير أغرب لا يمُد للأخلاقية أو المنطقية بصلة
حُجّة أخرى لا تقل تهافتاً عن سابقتها يُبرِّر بها أيضاً بعض الأصوليون إغتصاب نصف حق المرأة بالميرآث ، وتتمثّل بالزعم بأنّ الرجل يتوّجب عليه الإنفاق على المرأة ، وهنا عندما تطالبهم بنصٍ تشريعي قرآني أو نبوي يُلزِم الأخ ـ الذي سينال نصف نصيب أخته بالميراث حسب رأيهم ـ بالإنفاق على أُخته يصمتون تماماً ولا يُجيبونك ، وأحياناً ينتقلون إلى الحُجّة الأُخرى القائلة : بأنّ المرأة عندما تتزوج فإنّ زوجها سيُنفِق عليها ، أمّا الزوج فهو المُنفِق لذلك فهو يحتاج لنصيبٍ أكبر في الميرآث . وهنا يحق لنا الإستغراب أكثر من هذا التبرير اللا أخلاقي لفعل لا أخلاقي
.
فماذا لو أرادت المرأة أنْ لا تتزوج ؟ وماذا لو تزوجت ومات زوجها الذي يُنفِق عليها ولم يترك لها ميراثا تأخذ جزءً منه ؟ وماذا إذا لم يتقدم أحد للزواج منها ؟ لكأنّما أصحاب هذه الحُجّة او هذا التبرير الوآهي يُريدون أنْ يجعلوا من المرأة عبئا على الرجل على أحسن الفروض ، وعلى أسوء الفروض يريدون أنْ يجعلوا منها تابعاً للرجل المُنفِق عليها ، وبالتالي الذي يستطيع أنْ يتحكم فيها أنّى شاء له ذلك ، فالمُنفِق قطعاً سيكون لهُ سلطة على المنُقَق عليه .
وهذه الحُجة مقتبسة من كلام لإخوان الصفا حول موضوع الميراث وأقتبس قولهم : (( أنّهم إذا فكّروا في حُكم المواريث، أنّ للذّكر مثل حظ الأنثيين، فيرون أنّ الصواب كان أن يكون للأنثى مثل حظ الذكرين، لأنّ النساء ضعفاء قلائل الحيلة في إكتساب بالمال، ولا يدرون ولا يبصرون أنّ هذا الحُكم الذي حكم به الناموس يؤول الأمر به إلى ما أشاروا إليه وأرادوه، وذلك أنّ الناموس لما حَكم للذكر مثل حظ الأنثيين، حكم أيضاً أنّ المهر في التزويج على الرجال للنساء، فهذا الحكم يؤول الأمر به إلى أن يحصل للأنثى من المال مثل حظ الذكرين.مثال ذلك لو أنك ورثت من والدك ألف درهم وورثت أختك خمسمائة درهم، فإذا تزوجت أخذت مهرها خمسمائة درهم أخرى، فيصير معها ألف درهم، وأنت إذا تزوجت وأمهرت خمسمائة درهم بقي معك من المال نصف ما مع أختك.)) (رسائل إخوان الصّفاء، ص 629)).
والحقيقة فإنّ المهر بالقرآن ذاته لا علاقة له بالميراث أو أنصبته ، فهو وفقاً لآيات القرآن الأجر الذي تناله المرأة نظير إستمتاع زوجها بها (( وأحلّ عليكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة )). وتعويض المرأة لحقها المُغتصَب بالميراث بواسطة حق آخر لها في شأن لا علاقة له بالميراث شبيهٌ بتعويض صاحب شركة أُغتصبت أرباحه ، بواسطة أرباح من شركة أُخرى يمتلكها هو أيضاً ، حيث الأمر أشبه ما يكون بالعزاء في خسارته لكنه قطعا لا يُمثل تعويض ، ناهيك عن أن يكون عادلاً .
بالعودة إلى موضوع إبن باز وسؤالي الذي طرحته بعنوان المقال : ابن باز مفتي أم معرّص ؟ أعتقد بأنّه لو كان مفتياً ويعتبر نفسه أحد ثغور الدفاع عن الإسلام فكان أجدى لهُ بدلاً من هذا التجديف على التاريخ أن يأخذ بأحد الأراء العصرية التي تبناها عدداً من المفكرين مثل الأستاذ محمود محمد طه الذي ذهب إلى أنّ نصيب المرأة المتعارف عليه بالميراث هو نصيب منقوص بالنظر إليه على ضوء التطورات التي لحقت بمجال حقوق المرأة والعصر ، وأنّ الوقت قد آن لنسخ هذا التشريع بإعتبار الآيات التي تضمنته تُعتبر من آيات الفروع والتي كان الغرض منها إحداث نقلة في مجال التشريع عبر مراعات الثقافة والعقلية التاريخية التي زامنت نزول الوحي والتدرج بها نحو آفاق أرحب .
أو ليت إبن باز المفتي لو كان حريصاً على سمعة الإسلام أو حتى على بقائه في خارطة المعرفة الإنسانية أو حتى بقائه وجودياً ومنع إنقراضه يكف عن مثل تلك الآراء التي تجاوزها العصر والمتعلقة بنقاصان أهلية المرأة وحرمانها من حقوقها بتلك الذريعة ، وأن يتبنى رأياً مثل رأي محمد شحرور الذي ذهب إلى أنّ الأصل في الميراث هو الوصية والتي ذكرت عشر مرات بينما الإرث ذُكر ثلاثاً فقط ، بل إن شحرور يعتبرها ـ أي الوصية ـ فرض قرآني وذلك إستناداً لآية : (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين حقاً على المتّقين ) وأنّه تم تقيّيد الوصيّة بقاعدة ( للوالدين والأقربين حقّاً على المتقين ) وإذا خيف من تجاوز هذا القيد فقد وضع قاعدة أخرى ( فمن خاف من موصٍ جنفاً أو إثماً فأصلح بينهم )
ويُفصِّل شحرور رأيه هذا في كتابه نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي قائلاً : ( نبدأ من حيث بدأ الله سبحانه بقوله : ( للذكر مثل حظ الأنثيين ) وهذا هو القانون الأوّل في الإرث ، وفيه الإشارة واضحة لما أسلفناه ، من أنّ الأُنثى هي الأساس في إحتساب الحصّص ، وكأنِّي بالله سبحانه يقول : إنظروا إلى حظ الأنثيين بعد أن تُحدِّدوه ، ثم إعطوا الذكر مثله ، إذ لا يُمكن في المنطق النظري ، ولا في التطبيق العملي ، أن يُعرف مثل الشئ ويتحدّد إن لم يُعرف الشئ ويتحدّد أوّلاً) ثم يُفصل عبر المنطق الرياضي وبإسهاب أكثر حول إجتهاده هذا ، وبالإمكان للتوسع أكثر لمن أراد أن يرجع إلى الصفحات 236 وما بعدها من كتابه المُشار إليه سابقاً مما لا يسمح به السياق هنا .
طالما إذن يوجد تخريجات من مأزق إغتصاب نصف نصيب ميراث المرأة من داخل حقل النصوص الدينية نفسها ، تخريجات قد تحفظ ماء وجه الإسلام وشريعته ، ورغم ذلك يُصِر إبن باز على تكفير المنادي بالمساواة بين الجنسيين في الميراث فضلاً عن أن يُنادي بذلك مثله ، أقول طالما ذلك كذلك فإجابةً على سؤال المقالة أعلاه ( إبن باز مفتي أم معرّص ) ؟ فإنّ إبن باز ليس مفتياً حادباً على مصلحة الإسلام قطعاً ، بل العكس أمثاله يهدمون الإسلام ويعملون على تحقيق قطيعة لهُ مع روح العصر ويضربون حوله سياجاً من العزلة سنتهي بموت الإسلام نفسه وشيخوخته .
ولكنه بالمثل ليس معرّصاً ، فتعمده إلحاق الضرّر بنساء تونس يُحقِّق لهُ فوائد مباشرة أكثر من مجرد مداهنة الأسرة المالكة في السعودية ، فهو يسعى إلى الحفاظ على آخر ما بقي من مظاهر تبجيل الرجال، وتفضيلهم على النساء، هو يسعى للحفاظ على آخر ما يضمن بقاء ظلال الأسرة التقليدية التي يترأسها الرجل ، بمعنى آخر إنه يحافظ على مكانته المرموقة والتي لن يحظى بمثلها إلاّ في مجتمع ذكوري تسلطي .
إنّهُ يُحافظ على تراث قبيح ظلامي هو بمثابة رأس ماله الذي هو من غيره لا شئ ، هو من غيره عاطل عن العمل وعن التفكير ، وبالطبع هو يُحافظ بمعاركه ضد الفكر المستنير على مصدر رزقه الوحيد ( المتاجرة بالظلام ) . هو يُدرك إنّه في حالة نيل نساء تونس لحقوقهن كاملةً بالميراث فما هي إلاّ مسألة وقت ويُطالب السعوديات بذات الأمر ، إذ من يوقف تدحرج كرة الثلج حينها ؟! لذلك فإجابةً على السؤال الذي طرحه عنوان المقالة ( إبن باز مفتي أم معرّص ) فهو لا هذا ولا ذاك . هو بإختصار إنتهازي ! .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
معاً ضد كلّ سلطة ظلامية تمنع العقل الإنساني من الوصول إلى نور الحرِّية حباً في الإستبداد وتعلقاً بالسيطرة !