مايكل سينغ
بينما تحاول أميركا تحديد كيفية الرد على تدخل روسيا في شبه جزيرة القرم الأوكرانية – وهو ما قد يكون المعضلة الأكثر إلحاحا على صعيد السياسة الخارجية لإدارة الرئيس باراك أوباما – يبرز سؤال مهم يتعلق بالإجراءات التي تتخذها أميركا في ما يتعلق بتلك الأزمة، ألا وهو: لماذا لم نتوقع حدوث مثل هذه الأزمة؟
خلال فترة عملي في مجلس الأمن القومي كانت الاجتماعات الأقل جذبا لاهتمامي هي تلك المتعلقة بمناقشة خطط الطوارئ المستقبلية. ومع صخب الأحداث وتطورها باستمرار في هذا العالم بشكل يتطلب ردودا فورية في مواجهة المستجدات التي لا تهدأ، يبدو أنه ينبغي علينا أن نكون مستعدين للانخراط في مناقشات افتراضية حول كيفية الاستجابة للأحداث التي لم تحدث حتى الآن، والتي ربما لن تحدث أبدا.
لكن التخطيط لحالات الطوارئ المستقبلية يعتبر واحدة من أهم الخطوات الحاسمة في عملية صنع السياسات، إذ إن هذا النوع من التخطيط يفرض على المرء التفكير، ليس فقط في كيفية الرد على الأحداث اليومية، بل أيضا في كيفية استقراء عدد من الخطوات الواجب اتخاذها في المستقبل، وكذلك النظر في الآثار المترتبة التي من المحتمل أن تؤثر على مصالح الولايات المتحدة، عندما تتكشف تلك الأحداث في المستقبل. ومن خلال اتباع هذا النوع من التخطيط، يطور صانعو السياسات فهما أفضل لما هو مرجح أن يحدث في المستقبل، وما هي الخطوات التي ينبغي أن تُتخذ الآن لتجنب حدوث الأزمات في المستقبل، أو على الأقل كيف يمكن الاستعداد لمواجهة تلك الأزمات عندما تندلع. كما يفرض التخطيط لحالات الطوارئ المستقبلية على صانعي السياسات تحديد أولوياتهم: فلدى كبار المسؤولين الكثير من الوقت والطاقة اللذين لا ينبغي إنفاقهما في مناقشة المسائل الهامشية بالنسبة لمصالح الولايات المتحدة.
وقد شهدت السياسة الخارجية في الآونة الأخيرة بعض الإخفاقات الحادة، والتي نتجت عن الفشل في التخطيط لحالات الطوارئ المستقبلية. غير أنه كان من السهل توقع الكثير من الأزمات، التي نصارعها في الوقت الحالي.
في فنزويلا، لم يكن من المرجح أبدا أن يمضي تسليم راية السياسة الشافيزية من هوغو شافيز لخليفته، الذي اختاره بنفسه، نيكولاس مادورو، بطريقة جيدة. فقد استمرت سياسات شافيز غريبة الأطوار في العمل بفضل من الكاريزما والدهاء السياسي، اللذين كان يتمتع بهما الرئيس الراحل، بالإضافة إلى ولائه للقوات المسلحة. لكن مادورو، على الجانب الآخر، لا يتمتع بأي من هذه المزايا. وعندما بدأت فنزويلا تتعثر اقتصاديا واشتعل الغضب الشعبي بسبب سوء حكم مادورو، لجأ الرجل إلى الأداة الرئيسة المتاحة أمامه: إنها القوة الوحشية المفرطة. وكان لا مفر من حدوث هذا السيناريو، لكنه كان بالتأكيد يمكن التنبؤ به. غير أن واشنطن بدت مرتبكة وهي تتلمس الرد المناسب على ما يحدث في فنزويلا.
وفي سوريا، ظل المحللون المهتمون بشؤون الشرق الأوسط يدقون نواقيس الخطر منذ عام 2011 ويحذرون من عواقب التراخي الأميركي – ارتفاع الفاتورة الإنسانية للحرب وتصاعد التطرف – في القيام بتحرك حاسم. ووضعت أميركا نفسها في مأزق عندما أصرت على رحيل بشار الأسد، في حين رفضت بشكل متعنت تبني سياسة تساعد في تسريع رحيله، وتركت سوريا تحترق. ومما زاد هذا النقص في البصيرة سوءا أن أوباما حذر الأسد من استخدام الأسلحة الكيماوية، لكن أميركا لم تعد الرد المناسب عندما تحدى الأسد هذا التحذير واستخدم الكيماوي.
أما في أوكرانيا فقد خسرنا لحظة إعداد الخطة المستقبلية، عندما لاحت الفرصة في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) عندما تراجع الرئيس فيكتور يانوكوفيتش وقتها عن توقيع اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، ذلك الانقلاب السياسي الذي من المحتمل أن يكون مرجعه إلى مزيج الضغوط والحوافز الروسية. ولم يكن لدى أميركا والاتحاد الأوروبي أي رد على هذه المناورة الروسية، فقد رغبا في تجنب الدخول في «حرب مزايدة» مع موسكو أو الانخراط في ألاعيب جيوسياسية مع فلاديمير بوتين. وإذا تأخر الرد لشهرين آخرين فسيكون الثمن الذي سندفعه لتأمين أوكرانيا – وكذلك المصالح الجيوسياسية – غاليا جدا.
في كل حالة من الحالات المذكورة آنفا، كان ينبغي أن يتوافر تخطيط للطوارئ المستقبلية أكثر جرأة، ليس بمعنى التصرف بتهور أو باستخدام القوة – ذلك البديل الواهي الذي يطرحه في كثير من الأحيان المسؤولون الأميركيون للدفاع عن سلبية أو تقاعس الولايات المتحدة – ولكن بمعنى اتخاذ خطوات استباقية مبكرة لتفادي الأزمات. وفي كل حالة، بدت الخطة المستقبلية موضوعة بحرص لتقليل المخاطر والتكاليف على المدى القصير – ولكن على حساب تكاليف أكبر ربما تظهر إذا لم يجر التحرك على المدى الطويل. لقد وقفنا مكتوفي الأيدي، في الوقت الذي كانت فيه الأزمات تزداد عمقا، ويزداد صعوبة حل المشاكل المتفاقمة، وأدى ذلك بالتبعية إلى ضعف هيبتنا شيئا فشيئا.
الآن وبعد أن حذرت أميركا موسكو من أن التدخل سيؤدي إلى زيادة التكاليف، لكن روسيا تجاهلت تلك التحذيرات، فيجب على أميركا وحلفائها التحرك بسرعة للاستفادة من التحذير الذي أطلقه الرئيس أوباما. لكن العملية السياسية لا يمكن أن تتوقف عند هذا الحد. فلم يفت الأوان بعد للتخطيط لحالات الطوارئ المستقبلية، التي يمكن التنبؤ بها. وبالإضافة إلى معاقبة روسيا لانتهاكها السيادة الأوكرانية، سواء من خلال العقوبات أو الخطوات ذات الصلة، فيجب علينا النظر في كيفية وقف تقدم القوات الروسية، والرد على أي تحرك مضاد محتمل من قبل الروس، مثل التهديدات بقطع إمدادات الغاز الطبيعي عن أوروبا.
ولأن هدفنا الأكبر ليس مجرد معاقبة روسيا على سوء أفعالها، بل مساعدة أوكرانيا على الوقوف على قدميها، فيجب أن تركز سياستنا أيضا على كيفية يد المساعدة للاقتصاد الأوكراني المتعثر وتشجيع تشكيل حكومة شاملة تضم جميع أطياف الشعب الأوكراني. إننا نحتاج لتحقيق تقدم على هذه الجبهات، وليس فقط انسحاب القوات الروسية من شبه جزيرة القرم، حتى تنعم أوكرانيا بالاستقرار والازدهار.
إن توغل روسيا في أوكرانيا يذكر بشيء تعلمناه من واضعي السياسات، لكننا نسيناه عدة مرات: علم الجغرافيا السياسية لم يمت بعد. كما ينبغي أن ننتهز ذلك التوغل الروسي في أوكرانيا لنفيق من غيبوبة السياسة الخارجية التي نعيشها حاليا، وليؤكد ذلك على أهمية التخطيط للطوارئ المستقبلية في صنع السياسات. في عالم مليء بالأزمات والصراعات ينبغي علينا أن تكون مستعدين على الأقل – لكن بشكل أفضل من ذلك – لمنع تطور الأزمات، التي يمكن التنبؤ بحدوثها.
* عمل في منصب المدير الإداري لمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى في الفترة من 2005 إلى 2008 ومختصا بشؤون الشرق الأوسط في فترة عمله في مجلس الأمن القومي الأميركي
* خدمة «واشنطن بوست»
نقلا عن الشرق الاوسط