بات صعباً تصور سقوط التسوية الرئاسية التي يفترض أن تحمل سليمان فرنجية الى سدة رئاسة الجمهورية. كل المؤشرات تقول إن هذه التسوية محصنة بشكل يفوق قدرة أي طرف داخلي على تعطيلها، ما لم يحصل أي تغيير دراماتيكي من خارج النص. الحقيقة أن جزءاً من الصدمة التي أحدثها ترشيح فرنجية للرئاسة يعود الى كونه نموذجاً رابعاً لا يشبه النماذج الرئاسية الثلاثة التي سبقته.
عرف لبنان نموذج الرئيس الراحل الياس الهراوي الذي حكم لتسع سنوات بعقلية التوافق الداخلي المرعي من سوريا حافظ الاسد، ضمن تركيبة اطلق عليها المعلق السياسي جهاد الزين تسمية فذة هي “إقليم الشام بدولتيه لبنان وسوريا”. لست أكيداً متى “نحت” الصديق جهاد هذا المصطلح، لكنني اراه أكثر انطباقاً على سوريا حافظ الأسد.
النموذج الثاني هو نموذج الرئيس إميل لحود الذي حكم تسع سنوات أخرى بعقلية الاشتباك العنيف مع التوازنات الداخلية بإشراف ورعاية من بشار الاسد، وهو ما توج بأعمق عملية بتر واستئصال في جسم هذه المكونات بإغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
أما النموذج الثالث فهو الرئيس ميشال سليمان الذي إنقسم حكمه الى شقين، ما قبل الثورة السورية وما بعدها. فهو جاء الى بعبدا محمولاً على ظهر تسوية سياسية، عرفت بإتفاق الدوحة، أوصل اليها إنقلاب السابع من أيار ٢٠٠٨ وإستخدام حزب الله لسلاحه علناً في الداخل اللبناني. وقد شكل سليمان حالة ازعاج لقوى الرابع عشر من آذار في السنوات الاربع الاولى من حكمه الى حين إنقلابه الى موقع الازعاج لحزب الله وحلفائه وبشكل تصاعدي منذ إندلاع الثورة السورية.
في الحالات الثلاث كان العامل السوري مقرراً في طبيعة سلوك وآداء الرئاسة اللبنانية وعلاقاتها بالتوازنات الداخلية. وهذا فارق جوهري بين الرئيس المقبل، أكان سليمان فرنجية أم غيره، وبين الثلاثة الذين سبقوه، حيث “سوريا الاسد” غير واردة في حسابات دولة لبنان بعد انهيار الدولة السورية وتفكك “إقليم الشام”.
إذاً نحن، وفي حالة فرنجية تحديداً، أمام تسوية داخلية تتقاطع عندها التوازنات القائمة في البلد بدقة وبلا أوهام وتحظى بحدٍ أدنى من التقاطع المصلحي الاقليمي والدولي الكافي لحمايتها. واذا كان من رابط بينها وبين سوريا فهو في مدى تشكيل لبنان ضمانة و”بروفا” لطبيعة الإدارة السياسية لمرحلة ما بعد سقوط الاسد.
ولأن التسوية داخلية، لن يغامر حزب الله بتكرار تجربة ميشال سليمان وتعريض نفسه لإنقلابات تمليها المتغيرات لا سيما في سوريا، ويعلم أنه من المستحيل إعادة إنتاج إميل لحود ويدرك أن تجربة الياس الهراوي دفنت مع حافظ الاسد والشرق الاوسط القديم. لذلك من البديهي أن لا يقبل حزب الله الا بسليمان فرنجية، رغم حرصه على عدم المبالغة بالترحيب والحماس قبل تفكيك اللغم العوني بين يديه. فهو يجد في فرنجية “الضمانة الداخلية” التي تطمئنه في المرحلة الانتقالية الدقيقة والمعقدة في سوريا والمليئة بكل المتغيرات التي تخرج عن سيطرته وقدرته على التحكم فيها.
في مقابل ضمانة فرنجية لفريقه، يطرح الدكتور سمير جعجع عن حق، سلسلة من الاسئلة حول ضماناته وضمانات حلفائه، من أن لا تتكرر تجربة الانقلاب على التسوية بمثل ما انقلب عليها حزب الله بعد الدوحة وأطاح بحكومة الحريري. وهذا سؤال جدي وتحدٍ غير قليل مطروح على “عقل” التسوية.
غير أن المبالغة فيه تحصل حين لا تعود الضمانة موضوع السؤال هي ضمانة داخلية، مثل تركيبة الحكومة والثلث المعطل ووزراء رئيس الجمهورية والاستحواذ على تمثيل مذهبي حصري يهدد الميثاقية في حال استقال كل وزراء مكون محدد كما حصل مع الوزراء الشيعة في حكومة الرئيس فؤاد السنيورة الاولى. المبالغة تكمن في أن تصبح ضمانة يراد لها أن تحسم تموضع لبنان الرسمي في الصراع الاقليمي وموقفه من سوريا ومن تطوراتها وإحتمالاتها، كأن يستمر بشار الاسد بشكل أو بآخر أو أن تؤول الامور الى دولة امر واقع علوية بقيادة الاسد.
الحقيقة أن إشتراط ضمانة من هذا النوع تنطوي أولاً على الكثير من المبالغة في أن ثمة رئيساً قادراً على تأمينها، من إميل رحمة الى سمير جعجع وميشال عون وما بينهما. وتنطوي ثانياً على إهمال غير مبرر لقدرة التوازنات الداخلية والمذهبية تحديداً على فرملة إتجاهات سياسية راديكالية أكان ضد أو مع ما ستؤول اليه سوريا.
هذه التوازنات تعني أن مغامرة فرنجية مثلاً بإلحاق لبنان بالسياسة السورية، في أي سوريا خاضعة لحكم بشار الاسد، تعني صداماً داخلياً لا يقل عنفاً عن الحاصل في سوريا. يكفي ما كشفته لنا عملية التبادل الاخيرة عن مستوى“إنتشار وتجذر” جبهة النصرة داخل لبنان، لندرك توازن الرعب القائم بين المليشيات المذهبية السنية الشيعية! لا أحد يجرؤ على مغامرة من هذا النوع، بل ان التسوية هي في مكان ما رضوخ لمخاطر هذا التوازن، بعد فشل مغامرة حزب الله في سوريا وعودته عملياً الى مظلة الشراكة والاحتماء داخل الدولة.
كما أن سمير جعجع مثلاً لن يكون قادراً كرئيس للبنان على أخذ لبنان الى خيارات راديكالية تتجاوز التوازنات الداخلية من دون المغامرة بإستدراج حزب الله الى الدفاع عن وجوده وخياراته بالسلاح. لنكف اذاً عن وهم الضمانة بمعناها الخارجي، وأن سليمان فرنجية هو إنتصار إقليمي في الخارج او ان سمير جعجع هو انتصار للمحور المقابل. الحقيقة المؤلمة أن لبنان “أتفه” (أعتذر عن التعبير) من أن يكون على هذه الاهمية في الصراع القائم في المنطقة في ظل إنفتاح جبهات أكثر اهمية وثراء من العراق الى اليمن الى سوريا الى قلب الخليج نفسه.
ثمة ضرورة استراتيجية لتزويج “عقل” التسوية الى “عقل” الضمانات (بمعناها التوازني الداخلي) والمضي قدماً في تسوية تبقي على مكان يختلف فيه اللبنانيون. تبقي على وطنٍ سيكون مستحيلاً إستعادته إذا ما إنفجر، وهو يكاد.
نقلاً عن “المدن”