ما من شك أن الإمام الأكبر د.أحمد الطيب، شيخ الأزهر، قد اتخذ القرار الصحيح عندما قرر إنهاء القطيعة بين الأزهر والفاتيكان التى استمرت خمسة أعوام، لأن البابا الأسبق، بنديكتوس السادس عشر، هاجم، دون أى مسوغ، الإسلام فى محاضرة ألقاها فى جامعة ريجنز بورج الألمانية، تحدث فيها عن العلاقة بين الإيمان والعقل فى المسيحية فى اليوم الثانى لذكرى أحداث الحادى عشر من سبتمبر، نقل فيها البابا حواراً دار فى القرن السادس عشر الميلادى بين الإمبراطور البيزنطى مانويل الثانى وأحد المثقفين المسلمين، يسأل فيه البابا محاوره قائلاً أرنى ما الجديد الذى جاء به محمد، إنك لن تجد إلا أشياء شريرة وغير إنسانية مثل أمره نشر الدين الإسلامى بحد السيف، وهذا أمر يتنافى مع جوهر الله ومع ضرورة احترام العقل، الأمر الذى أحدث صدمة بالغة فى العالم الإسلامى فرضت على الأزهر الشريف اتخاذ قرار مقاطعة الحوار مع الفاتيكان، إلى أن جاء خلفه البابا فرنسيس بنهج مخالف يكاد يكون اعتذاراً عن أقوال سلفه بنديكتوس يدعو إلى احترام الإسلام الذى تدين به خُمس البشرية، ويقرن القول بالفعل فى رحلة أخيرة قام بها البابا فرنسيس إلى أفريقيا الوسطى، حيث أصر البابا على أن يعبر منطقة اشتباك وحرب بين المسلمين والمسيحيين هناك ليصل إلى مسجد يقع فى تقاطع خطوط الاشتباك، صلى فيه البابا مع المسلمين دعماً لجهود المصالحة بين المسلمين والمسيحيين فى هذا الحزام السكانى الخطير وسط القارة الأفريقية، حيث يتشارك المسلمون والمسيحيون والوثنيون المواطنة فى عدد من دول وسط القارة.
وما من شك أن زيارة الشيخ أحمد الطيب فتحت صحفة جديدة فى العلاقات بين الأزهر والفاتيكان، جددت التزام الجانبين بضرورة إحياء الحوار بين المؤسستين الدينيتين الكبيرتين دعماً لسلام البشرية وحوار الحضارات والأديان، بديلاً عن صراع مدمر يثير الحروب الدينية والفتن الطائفية ويفكك وحدة أوطان عديدة تجمع الديانتين فى عالم تحول إلى قرية صغيرة بفعل ثورة الاتصالات التى ألغت حواجز الجغرافيا كما ألغت تباعد المسافات والأمكنة، وزادت من عوامل التفاعل والتواصل والتأثير المتبادل بين الأمم والشعوب.. وما زاد من أهمية لقاء الفاتيكان أن الشيخ الطيب كان قد ألقى قبل زيارة الفاتيكان محاضرة بالغة الأهمية فى ألمانيا، نجحت فى إجلاء صورة الإسلام الصحيح فى العقل الغربى، وإعادة تقديمه إلى العواصم الأوروبية باعتباره ديانة سماوية تحض على تعارف الشعوب والأمم، وتنبذ العنف وترفض الإرهاب، وتؤمن بحرية الاعتقاد وحق الإنسان فى اختيار عقيدته الدينية، وتحرّم على المسلمين خوض الحرب إلا أن يتعرضوا للعدوان ويصبح من واجبهم الدفاع عن أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، دون أن يجيز لهم الإسلام قتل الأطفال والشيوخ غير المحاربين والأسرى وإتلاف الأشجار والمزروعات والعدوان على ثروات الآخرين، كما يأمرهم بأن يجنحوا للسلم عند أول بادرة حفاظاً على أمن البشرية وسلامها.
ويتوقع الدكتور محمود حمدى زقزوق، وزير الأوقاف الأسبق، ومسئول الأزهر فى حوار الأديان، وصول وفد على مستوى عالٍ من الفاتيكان فى وقت قريب إلى القاهرة للاتفاق على برنامج الحوار وموضوعاته وأجندته الزمنية، مؤكداً أن الضابط الوحيد فى الحوار هو عدم التعرض لأى من الأديان أو المفاضلة بينها لأن المطروح ليس المنافسة ولكن الاتفاق على القواسم المشتركة بين الأديان التى تتمثل فى منظومة القيم الأخلاقية التى تحض على الخير والحق والجمال ويلتزم بها كل المؤمنين فى عالمنا، كما تتمثل فى أهمية الحفاظ على سلام البشرية وأمنها وهو هدف تجمع عليه الأديان الثلاثة.
وعندما سألت د.محمود زقزوق، ما الذى يريده الأزهر ويريده الفاتيكان من هذا الحوار؟ رد قائلاً: ما ينبغى أن يعرفه كل مسلم أننا مأمورون من الله بهذا الحوار الذى يكاد يكون فريضة على كل مسلم، ومن أجل ذلك زودنا الله باللغة والعقل ومنحنا حق الحرية حتى نكون قادرين على النهوض بمسئولياتنا، فضلاً عن أن الإسلام يعترف بكل الأديان ويعتبر ذلك واحداً من أسس الإيمان بحيث لا يجوز للمسلم أن يفرق بين الرسل أو يجادل أهل الكتاب إلا بالتى هى أحسن، فضلاً عن أننا مأمورون بالتعاون بين البشر على قاعدة الآية الكريمة التى تؤكد أن الناس خلقوا جميعاً من نفس واحدة، بما يعنى ضرورة النظر إلى الإنسانية باعتبارها أسرة واحدة كبيرة، ولا ينفى ذلك أن يكون لكل من الأزهر والفاتيكان دوافعه وأهدافه من الحوار التى يمكن أن تتقاطع أو تتلاقى، وما من شك أن إجلاء صورة الإسلام فى الغرب هو واحد من أهم أهدافنا من الحوار خاصة مع تشابك المصالح والانتشار السكانى وتزايد وجود جاليات إسلامية ضخمة فى عدد من الدول الغربية.. وربما يكون للفاتيكان مصلحة مباشرة فى أن تسود الوسطية الفكر الإسلامى لما فى الوسطية من توازن محمود يحض على التقارب وإنماء المصالح المشتركة ونبذ العنف، فضلاً عن وجود أهداف مشتركة يجتمع عليها الأزهر والفاتيكان، أهمها مقاومة الإلحاد والانحلال والإدمان والتعصب والتطرف.. وإذا صح أننا نستهدف حواراً سلمياً بين الأديان السماوية فلا ينبغى أن ننفخ فى نار الكراهية وعقد الماضى؛ لأن الأجدر باهتمامنا المشترك أن نتجه جميعاً إلى صياغة مستقبل ينعم فيه العالم بالسلام الضرورى لاستمرار الحياة وتقدمها.
وأعاود سؤال الدكتور زقزوق: ما فرص نجاح الحوار بين الفاتيكان والأزهر؟ ولماذا لا يكون الحوار ثلاثياً يضم ممثلين عن الدين اليهودى؟
ويرد الدكتور زقزوق: أعتقد أن فرص النجاح كبيرة، ربما لأن العالم ضاق ذرعاً بكثرة الحروب الطائفية والمصادمات الدينية، وأدرك خطورة صراع الحضارات والأديان، لكننى على ثقة من أن الاعتراف العالمى المتزايد بوسطية الأزهر باعتباره أهم مرجعية إسلامية، الذى يصاحبه إدراك إسلامى وعربى متزايد لأهمية دور هذه المؤسسة العريقة يدخل ضمن العوامل التى ترجح فوائد الحوار.. وإحقاقاً للحق فإن سماحة فضيلة الشيخ الأكبر ورؤيته الواسعة الآفاق ومعرفته المباشرة بطرائق تفكير الغرب فى علاقته مع الإسلام نتيجة دراسته فى جامعة السربون فى فرنسا قد ساعد كثيراً على بناء جسور جديدة من الثقة المشتركة، أما لماذا نفضل للحوار فى هذه المرحلة أن يكون مقصوراً على الأزهر والفاتيكان لا يشارك فيه أى من حاخامات إسرائيل، فما من سبب سوى تعنت إسرائيل إزاء حقوق الفلسطينيين، وضعف الدور الذى يقوم به رجال الدين اليهود من أجل تصحيح سياسات بلادهم وإلزامها التمسك بالقيم الأخلاقية والدينية التى تمنع قهر الشعوب واحتلال أراضيها وإهانة مواطنيها.. ولا أظن أن أمام الأزهر أى مانع آخر أخلاقى أو دينى لأننا نعترف باليهودية ديناً ونؤمن برسالة نبى الله موسى، عليه السلام، ومشكلتنا الوحيدة أننا نريد أن نرى تغييراً حقيقياً فى الواقع الفلسطينى إلى الأفضل يشجعنا على بدء حوار ثلاثى.
*نقلاً عن صحيفة “الوطن”