رسلان عامر
*
(على هامش الموقف من المجزرة الحقيرة التي نفذتها داعش مؤخرا بحق المدنيين الأبرياء من أهالي محافظة السويداء السورية، والتي تضاف إلى سجلها الإجرامي المتضمن سبي الإيزيديات، والذي يشكل حلقة من سلسلة حلقات العنف الدامي الذي تغرق فيه سوريا والمنطقة العربية، والذي يشكل التكفير والتكفير المضاد، المعلن وغير المعلن، أحد أثافي موقد ناره الأكبر).
*
التاريخ الإسلامي حافل بأحداث العنف والصراعات، والحاضر لم يختلف عن الماضي بعد في شدة عنفه وصراعاته، وبالطيع تختلف أسباب العنف والصراع بين حالة وأخرى في شيء وتلتقي في سواه، والصراعات في التاريخ الإسلامي كمثيلاتها في أي تاريخ آخر، منها ما تعود أسبابه إلى المصالح والمطامع، ومنها ما يرجع إلى تطرف وتعصب المعتقد، ومنها ما يجمع بين هذه الأسباب وتلك.
بالنسبة للعنف المرتبط بمصلحة، الأمر واضح، فنحن هنا أمام حالة إجرامية واضحة، تطغى فيها المصلحة الخبيثة على كل الأخلاق والقيم الإنسانية، وهذا النوع من العنف المصلحي ليس له علاقة بأي شكل من أشكال الدين أو العقيدة، رغم أنه كثيرا ما يتلبس بهما ويجعلهما قناعا له إن دعت الحاجة وواتت الظروف!
أما النوع الآخر من العنف وهو العنف التعصبي، فيشكل العنف العقائدي أحد أركانه الأساسية، فلكي يصبح شخص ما إرهابيا تكفيريا، لا بد وأن تجتمع لديه خمسة عوامل هي:
الأول هو توفر عامل إيماني تسليمي قوي، قابل للتنمية والتوجيه من الخارج من قبل جهات موثوقة وللاستخدام وفقا لإرادة هذه الجهات.
الثاني هو وجود وعي متدني وثقافة متردية، تجعل من الشخص جاهلا معرفيا ومشلولا فكريا، فيسهل استغلاله وتجنيده من قبل الجهات الموثوقة من قبله والمغرضة، وهي هنا الشخصيات والقوى الدينية الفاعلة بالطبع.
الثالث هو وجود حالة من الاستعداد للعنف، بسبب الإحساس بالغبن والحرمان والظلم المعنوي والمعيشي وما شابه.
الرابع هو وجود عمل تحريضي وتجنيدي منظم ومكثف لممارسة العنف ضد الغير.
والخامس هو وجود أرضية معتقديه يكمن استغلالها لتغطية المواقف العنفية ضد الآخرين.
ولو أسقطنا هذه العوامل الخمسة على البيئة العربية الإسلامية، فسنجد أنها حاضرة فيها، وبمنتهى القوة.
فغالبية الناس في المجتمعات العربية هم أناس متدينون بشدة، وهذا منه ما يعود إلى موروث تاريخي مستمر، ومنه ما يعود إلى جهود حاضرة مكثفة لترسيخ الحالة الإيمانية الغيبية لغايات دينية وغير دينية.
أما من الناحية المعرفية، فأمية الحرف ما تزال متفشية على نطاق واسع في كثير من المناطق العربية، أما الأمية المعرفية والفكرية فهي الغالبة، في بيئة اعتادت الغيبية والتسليم وتقديس الأعراف الموروثة، والثقافة فيها مقيدة بقوة من قبل السلطات الرسمية والدينية والاجتماعية.
أما الاستعداد للعنف فهو أيضا متوفر بكثافة نظرا لتفشي الفقر والحرمان الاقتصادي والفساد الحكومي والظلم بمختلف أنواعه على أنطقة جد واسعة في المناطق العربية، وهذا يخلق حالة واسعة وعميقة من الإحساس المكبوت بالغبن والإجحاف.
ومن ناحية الدعاية التحريضية فهي الأخرى موجودة بوفرة، حيث تعج المكتبات وقنوات الإعلام والمواقع الإلكترونية والمنابر والمعاهد الشرعية بالشيوخ الذين ينشرون التعصب وتكفير الآخرين، هذا عدا عن الدور الذي تلعبه حركات الإسلام السياسي في ذلك.
أما من ناحية الخلفية المعتقدية، فلدينا في تاريخنا الكم الكثير من فتاوى التكفير الفردي والجمعي والسلوكي، فمن تكفير الطوائف المختلفة لبعضها البعض، إلى التكفير المتبادل بين المذاهب حتى في نفس الملة (كما فعل الحنابلة والأشاعرة الذي تبادلوا التكفير في العصر العباسي)، إلى تكفير العلماء والشعراء والمتصوفة، إلى فتاوى التكفير السلوكي الذي تُحدد فيه المواقف التي يعتبر صاحبها كافرا يجب استتابته، فإن لم يتب عنها أقيم عليه حد الكفر.
ربما أفضل مثل يضرب على نماذج الإفتاء التكفيري هو ابن تيمية الملقب بشيخ الإسلام، والذي أفتى 428فتوى تقتضي الاستتابة وإلا القتل وفقا للدكتور محمد حبش، وهي فتاوى تتوغل في صغائر ودقائق الأمور وعوابرها ، فمنها مثلا: « من ظن أن التكبير من القرآن فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل» و«من قال القرآن محدث فهو عندى جهمى يستتاب فإن تاب والا ضربت عنقه» و«من لم يقل أن الله فوق سبع سمواته فهو كافر به حلال الدم يستتاب فإن تاب والا ضربت عنقه وألقى على بعض المزابل»، وهكذا دواليك..
ومن فتاويه التكفيرية التي لا يستتاب أهلها: «الدرزية والنصيرية كفار باتفاق المسلمين»، ويضيف عن الدروز: «كفر هؤلاء مما لا يختلف فيه المسلمون، بل من شك في كفرهم فهو كافر مثلهم، لا هم بمنزلة أهل الكتاب ولا المشركين، بل هم الكفرة الضالون، فلا يباح أكل طعامهم، وتسبى نساؤهم وتؤخذ أموالهم فإنهم زنادقة مرتدون لا تقبل توبتهم، بل يقتلون أينما ثقفوا ويلعنون كما وصفوا، ولا يجوز استخدامهم للحراسة والبوابة والحفاظ، ويجب قتل علمائهم وصلحائهم لئلا يُضلوا غيرهم، ويحرم النوم معهم في بيوتهم ورفقتهم والمشي معهم وتشييع جنائزهم إذا علم موتها، ويحرم على ولاة أمور المسلمين إضاعة ما أمر الله من إقامة الحدود عليهم بأي شيء يراه المقيم لا المقام عليه، والله المستعان وعليه التكلان».
ونحن هنا لا نسعى لنبش هذه الفتاوى المقيتة من قبورها لو أنها ماتت ودفنت في الماضي، فلو كان ذلك، لكان الأولى عندها تركها مدفونة كي لا تثير الفتن والأحقاد، ولكن ابن تيمية ما يزال يعتبر واحدا من كبار علماء الإسلام الورعين، الذين يتم تداول فتاويهم على نطاق واسع، واعتبارها المرجعية التي تؤسس عليها الكثير من المواقف، ولاسيما المواقف من الأقليات الطائفية.
غني عن الذكر أن هذه الثقافة الدائرة في فلك الفتاوى التكفيرية، لا تبقى ثقافة رأي نظري وحسب كالرأي في الصحون الفضائية مثلا، فهي تؤسس لثقافة موقفية، ما تلبث أن تتحول إلى حالة سلوكية، وعنف تكفيري على غرار ما تفعله داعش والنصرة والقاعدة وأمثالها.
هذه الحركات لا تمثل حالة طارئة شاذة أقلوية وغريبة عن واقع المسلمين، بل هي تعبير مباشر عن الذروة التي يمكن أن تبلغها حالة الكمون التطرفي اللاعقلاني والتعصبي المتفاقمة في الواقع الإسلامي عند انفجارها.
قلة قليلة فقط هي التي تنتقد الفتاوى التكفيرية في الموروث الإسلامي، فبالنسبة للأكثرية أصبحت هذه الفتاوى وأصحابها جزءا لا يتجزأ من الإرث الديني المقدس المسلّم به والمعمول به، والمساس بها يتعبر عدوانا على الدين وخروجا عنه، ولذا غالبا ما يهاجَم منتقدي التكفير ويهددون بأشد الأشكال، هذا إن لم يتعرضوا للأذى المباشر، وهذا يعني أن غالبية الخاصة والعامة من المسلمين توافق ضمنا أو علنا على هذه الفتاوى التكفيرية وتقرها.
ثمة من يفعل ذلك كإتباع أعمى لشخصيات تعتبر عظيمة في التاريخ الإسلامي، فيما يجد آخرون في هذه الفتاوى تبريرا وغطاء لنزعتهم التعصبية العنصرية وحقدهم على الآخرين، بينما يستغلها آخرون لإثارة النزاعات والفتن التي تخدم مآربهم الخبيثة.
إننا ما نزال ندور في فلك الماضي ونتشبث بالتعصب الأعمى اللاعقلاني والحقد على الآخرين، ونمضي من موبقة إلى موبقة ومن مجزرة إلى مجزرة، ولا نتعلم ولا نتوب!
مع ذلك فهذه المقالة لا تسعى لشيطنة ابن تيمية وأمثاله وتكفيرهم، فأيا كان هؤلاء، فقد كانوا أشخاصا انتموا إلى ماضيهم، الذي كان شائعا ومقبولا فيه هذا النمط من السلوك البغيض الرهيب، والتكفير والتكفير المضاد كان فيه أسلوبا شائعا يكاد يتبعه الجميع، وإن اختلفت درجاته وأحكامه ومفاعيله، ولكن من يجب أن يحاكم ويدان هو أبناء هذا العصر من العرب والمسلمين، الذين ما يزال جلهم يعيش في القبور، ويغرق في الماضي، مواجها العصر والعلم والعقل والإنسانية بقفاه!