توفيت الأسبوع الماضي في فرنسا، جيني روسو دي كلارينس، التي تعد أحد أبرز الجواسيس في زمن الحرب العالمية الثانية، عن عمر ناهز 98 عاماً. وشأن كثير من ضباط المخابرات، كانت جيني تتمتع بموهبة دفع الناس إلى البوح؛ لكن جيني كانت تتميز بما هو أكثر من ذلك، فقد كانت تتحلى بشجاعة منقطعة النظير في مواجهة العدو.
تمكنت جيني من سرقة أحد أدقّ أسرار الحرب، وكان ذلك السر هو خطط ألمانيا لتصنيع واختبار قنابل «فاو 1» و«فاو 2» الصاروخية، بجزيرة بينيمنود الألمانية.
وكشف جيمس ولسي، مدير وكالة الاستخبارات الأميركية (سي آي إيه) في ذلك الوقت، خلال حفل خاص أقيم في أكتوبر (تشرين الأول) 1993 لتكريم جيني، عن أن ذكاءها شجع البريطانيين على قصف الجزيرة، ما تسبب في إيقاف البرنامج، وساعد في «إنقاذ آلاف الأرواح في الغرب».
كانت جيني تتحدث الألمانية بطلاقة، وفي عام 1943 تمكنت من استنباط المعلومات الأولى عن برنامج الصواريخ، من خلال بعض الضباط الألمان الذين أقامت معهم صداقات في باريس، بوصفها مترجمة، ثم واصلت سحب الخيوط إلى أن ألمّت بكثير من التفاصيل.
وخلال لقائي بها عام 1998، حكت لي ذكريات تلك الأيام، قائلة: «كنت فتاة صغيرة تجلس معهم، ولم أكن أقاوم الرغبة في سماع ما يقال، وحتى ما لم يقولوه كنت أدفعهم للبوح به. كنت أغيظهم وأسخر منهم وأنظر إليهم بعيون مفتوحة. كنت أراهم كالمجانين عندما يتحدثون عن السلاح المذهل الجديد الذي يستطيع الطيران لمسافات طويلة، وبسرعة تفوق الطائرات بكثير. كنت أردد لهم: من المستحيل أن يكون ما تقولونه لي حقيقياً. كررتها 100 مرة» .
وفي النهاية قال أحد الألمان، في محاولة لإقناع الفتاة الفرنسية الجميلة بصحة ما يقول: «سأدعك ترين بنفسك». وعرض الرجل أمامها وثيقة توضح جزيرة بينيموند، واستطاعت ذاكرتها الفوتوغرافية تسجيل كل شيء، وقامت بإرسال المعلومات إلى لندن من خلال ضابط الاستخبارات الذي يتعامل معها.
كان اسم جيني روسو دي كلارينس الحركي «أمنياري» وكانت جزءاً من حلقة تجسس بريطانية في باريس، تعرف باسم «درودز». وكان بروفيسور سابق في الرياضيات من قام بتجنيدها عام 1941، للقيام بما وصفه بـ«المهام البسيطة». كانت تتجسس على الألمان بصورة غير رسمية بعد غزوهم لفرنسا عام 1940، بتمرير المعلومات لوسطاء فرنسيين.
كان عملي مع جيني يسير في سهولة ويسر بطريقة أسهل من غيرها. ففي المرة الأولى التي أجريت معها مقابلة صحافية عام 1988، «سار اللقاء بسلاسة». لم تكن قد التقت بصحافي من قبل، لكن بعدما قابلتها عن طريق مدير «سي آي إيه» السابق الذي قدمها لي، تدفقت تفاصيل القصة وواصلت جيني السرد حتى صباح اليوم التالي. ونشرت تفاصيل القصة المدهشة، لكن حياتها كانت أسعد في الظل. ولا أعتقد أنها كررت سرد الرواية الكاملة مرة أخرى. كانت امرأة فرنسية لبقة وأنيقة وكأنها نجمة سينما فرنسية؛ لكن صوتها كان عميقاً وذا نبرة متنافرة أحياناً.
خلال إحدى زياراتي اللاحقة لها في العام نفسه، أخافت جيني إحدى بناتي، عندما تحدثت بنبرة الصوت الخشن نفسها، قائلة: «إن لم تحضري لي شراباً الآن، سأستشيط غضباً منك».
وما لم تشأ جيني أن تخبرني به في لقائنا الأول، وحتى في جميع لقاءاتنا اللاحقة، هو حجم المعاناة التي عاشتها. فبعد تلقي البريطانيين تقاريرها عن القنابل الصاروخية، عملوا على استقدامها للندن لاستجوابها. وبالفعل جرت الترتيبات لإجلائها عن طريق سفينة من مدينة بريتني الفرنسية، في ربيع عام 1944؛ لكن كان هناك من أوشى بها للألمان بينما كانت في الطريق إلى الشاطئ، وقضت العام الأخير من الحرب متنقلة بين ثلاثة معسكرات اعتقال نازية في غاية البشاعة.
وعندما تمكن الصليب الأحمر السويدي من إنقاذها في النهاية، كانت على وشك الموت جوعاً وبسبب المعاناة من داء السل، ورغم ذلك لم تكشف للألمان مطلقاً عن أي معلومة سرقتها وسربتها عنهم.
وعندما دفعتها للحديث عن الوقت الذي قضته في معسكرات الاعتقال، ارتعش صوتها وباتت نبرته غير منتظمة، وكأنها تتألم من مجرد استدعاء تلك الذكريات؛ خاصة عندما تتذكر أنها الوحيدة الباقية بعد أن مات كثيرون غيرها. قالت: «بعد الحرب أسدل الستار على ذكرياتي»، وبعد معاناة، وفي كلمات متواضعة قالت: «ما قدمته كان قليلاً، فهناك غيري ممن قدموا الكثير. لم أكن سوى لبنة صغيرة في البناء».
بالنسبة لي، الغموض الذي يكتنف قصة جيني هو من أين أتت بكل تلك الشجاعة؟ لماذا فعلت ما كان يتوجب عليها فعله في حين آثر غيرها السلامة؟ هنا هزت جيني رأسها وكأنني أسأت الفهم، وقالت: «لم يكن خياراً. لم يكن هناك مفر. ففي ذلك الوقت اعتقدنا جميعاً أننا سنموت لا محالة. السؤال الذي كان بداخلي هو: كيف لي ألا أفعل ذلك»؟
كانت جيني امرأة استثنائية، وبالفعل شعرت بسعادة كبيرة؛ لأنها ساعدتني على استنطاقها وجعلها تسرد القصة أمامي، حتى يقرأها الناس ويستحضروا شجاعتها دائماً.
* خدمة «واشنطن بوست»