فارس الحلو الممثل والنحات الذي نحت موهبته وحريته
فنان عمل مع كبار مخرجي سوريا والعالم العربي، حرق مراكبه وقرر عدم الالتفات إلى الخلف في طريق ثورته الشخصية.
العرب إبراهيم الجبين [نُشر في 22/11/2014، العدد: 9746، ص(14)]
الحلو نجم آمن بأن على الفنان أن يكون متعددا وطفلا خلاقا
لم يقبل فارس الحلو أن يكون “مشخصاتياً”، فأراد أن تكون له أدوار في الحياة كما على الشاشة، وبدأ مبكراً في الاختلاف عن جيله والطبقة الفنية التي صعدت في نهايات الثمانينات في سوريا وغطت مرحلة التسعينات وما بعدها، فانشغل بالثقافة على نحو خاص، ورغم نجوميته وإنجازه الشخصي كممثل كوميدي، إلا أنه حافظ على جرأة انتقاء أدوار جادة تركت آثاراً عميقة في تاريخ الدراما السورية.
في ربيع وصيف العام 2011، كان فارس الحلو يقيم طيلة الوقت في بستان اشتراه في قلب دمشق، في منطقة زراعية مهملة، تعلوها النباتات وشجيرات التين، قام بتحويله إلى مركز ثقافي أهلي متمرّدٍ على الثقافة الرسمية التي يطبعها نظام الأسد بطابعه، فانشأ مشغلاً للنحت، ومساحات للتمثيل ومدرجاً وفرناً للخزف والمشغولات المعدنية، وغرفاً بسيطة ليقيم فيها الفنانون الذين يقوم بدعوتهم بميزانياتٍ محدودة، وكان قد أسس له في ضيعته الشمالية الغربية “مشتى الحلو” حين كان يجمع النحاتين السوريين والعالميين، للنحت في الهواء الطلق، ولكن الوقت مرّ بسرعة، وصارت دمشق مدينة خطرة، فلم يكن فارس يخرج من بستانه ذاك، إلا صوب هدفين محددين، إما إلى بيته وأسرته، أو إلى المشاركة في المظاهرات ومجالس العزاء التي كانت تقام للشهداء من بسطاء السوريين في المناطق المحيطة بدمشق.
مشتى الحلو
ولد فارس الحلو في مشتى الحلو، في العام 1961، وانتظم في دراسة التمثيل في المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق، في العام 1981، وتخرج من المعهد في العام 1984 ليصبح عضواً في نقابة الفنانين التي هدّد نقيبها الجديد بفصل قائمة كبيرة من الفنانين المعارضين لنظام الأسد منها، على رأسهم فارس الحلو وجمال سليمان ويارا صبري ومي سكاف وآخرين، بعدها قدّم الحلو العشرات من الأدوار التي عاشت وبقيت حتى اليوم في أذهان الناس، بفضل الحرارة التي يبثها الحلو في تعابيرها وأدائها وأرواحها، في العام 2006 أسّس ورشة البستان للثقافة والفنون، وحصل على جائزة أفضل ممثل من مهرجان فالنسيا الدولي في إسبانيا، عن دوره في فيلم “علاقات عامة” للمخرج السوري سمير ذكرى، وعاد إلى مشتى الحلو من جديد في ملتقى النحت الذي أسسه للفنانين في الهواء الطلق.
البستان
اقتحمت قوات الأسد بستان فارس الحلو، الذي كان قد اعتبره مشروع حياته وسمّاه”البستان”، وحطمت وكسّرت وفتشت، وأرهبت الموجودين، ثم استعملت المخابرات السورية محافظة دمشق لتهديد فارس بالاستيلاء على المكان ومصادرته، وذلك بهدف ثنيه عن الخط الذي مشى فيه، مع ثورة الشعب، وكانت هتافاته وهو محمول على أكتاف المواطنين في حي القابون “الله أكبر حرية” و”الشعب يريد إسقاط النظام”، و” واحد واحد واحد الشعب السوري واحد” تدوي عالياً، ليستقبلها السوريون بإعجاب وتقدير بالغين، ولم يكن يعني له كثيراً وهو المسيحي هتاف “الله أكبر” الذي حاول كثيرون فيما بعد صبغه بطابع ديني، وإخراجه من نبرته الشعبية، فهذا النجم الذي عمل مع كبار مخرجي سوريا والعالم العربي، وحصل على جوائز وتكريمات عديدة من محافل دولية، كان بإمكانه أن يلوذ بالصمت على جرائم الأسد وأجهزة مخابراته، ويحافظ على مصالحه الشخصية، ويتابع صعود سلّم مجده الذاتي، غير مكترث بآلام الناس، ولكن فارس الحلو اختار نقيض ذلك، وأصرّ على خياره، رغم الرسائل العديدة التي وصلته من شخصيات كبيرة في النظام، كان من بينها ماهر الأسد شخصياً، شقيق رئيس النظام، الذي بعث إلى الحلو من يحاول استدراجه، ولكن فارس رفض، وصعّد أكثر حين رد على أمين عام حزب الله نصرالله الذي شكّك في حراك السوريين وقتها، فكتب فارس معلقاً: “هل تشكّون بنا؟ هل يمكن أن تشكّكوا بالشعب السوري؟ تشككون أننا فرحنا بانتصار المقاومة؟ تشككون بإعجابنا بالمقاومة المتطورة؟ هل تشككون باحتضاننا ودعمنا لشعب المقاومة؟ نحن أيضاً شعب ممانع أباً عن جد، ولم نقصّر يوماً مع المقاومة، وأنتم تعرفون هذا، وشبابنا وبناتنا لديهم الشجاعة والحماسة والاستعداد للانخراط في صفوف المقاومة، مقاومة المزاج الشعبي ضربٌ من الجنونوهو خاسر تماماً”، كان فارس يرد على نصرالله والأسد معاً، وكان قد قرّر حرق مراكبه وعدم الالتفات إلى الخلف في طريق ثورته الشخصية، رغم بدء ورود التهديدات بالقتل على هاتفه الشخصي، مما اضطره إلى الاختفاء عن الأنظار في أيامه الأخيرة في دمشق.
مع ربيع العام 2011 صار بستان فارس الحلو، عالما زاخرا بالحياة والثورة، فهاجمته المخابرات السورية وحطمت الأعمال الفنية وخربت براءة المكان
أحلام فارس الحلو
حين تلتقيه في بستانه، في تلك الأيام، تجده مرتاحاً مسترخياً، سيقول لك إنه لن يغادر دمشق، وأن حلم الحرية قد اقترب، وأنه يريد أن يكون شاهداً عليه، لم يكن قلقاً من الخطر، كان يقول: “حين تكون في المظاهرة، لا يجب عليك أن تخشى من رصاص المخابرات السورية، لأن الطلقة التي ستصيبك ستقتلك على الفور ولن تترك لك فرصة لتشعر بالمفاجأة، وحين تسمع صوت الطلقة فهذا يعني أنها لم تصبك، ولذلك لا داعي للقلق”، كانت هذه فلسفته البسيطة في التعامل مع الخطر، وكانت سلمية الانتفاضة السورية هي عنوان عمله كله، فابتكر أفكاراً مجنونة للاحتجاج، لم يكن أقلها وضع آلات التسجيل في دوائر النظام وفي ساحات دمشق العامة وتشغيل أغاني إبراهيم القاشوش “يالله ارحل يا بشار” بأعلى صوتٍ ممكن حتى يسمعها الناس، مما يصيب رجال الأمن بالجنون، وكان فارس الحلو حينها يحسب الدقائق التي ستظل الأغنية صادحة فيها قبل أن يعثر المخبرون والعسكر على موقع آلة التسجيل، فيقول ثلاث دقائق كافية، وسبع دقائق كافية، وهكذا.
بين شجيرات البستان، يمكنك أن ترى من يقول لك: “هذه الكاميرا هي إحدى الكاميرات التي صوّرت الطفل الشهيد حمزة الخطيب في درعا بعد أن سلموه لأهله مشوّهاً”، وفي زاوية ستجد من يتسلّح بأجهزة كومبيوتر معقدة لمونتاج وتحضير الأفلام وإرسالها إلى وكالات الأنباء لنقل حقيقة ما كان يحدث في سوريا حينها.
كانت الحلقات المدنية للثورة السورية متفرقة متباعدة، لا تعرف بعضها البعض، ولكنها سرعان ما تتآلف بمجرد أن تتلاقى في مصادفة أو ترتيب، وكأن لها دهوراً تعمل مشتركة فيما بينها، وكان فارس حلقة من تلك الحلقات، وحده، كان يؤمن وما يزال بأن المسألة مسألة وقت، وأن الشعب سيحقق ما خرج من أجله كاملاً دون نقصان.
رفض فارس الانضمام إلى تجمعات سياسية معارضة، رغم دعمه المعنوي لها، وأصرّ على البقاء على مسافة تكفل له حريته في التفكير والحوار والانتقاد، وأصرّ مع هذا على التدخل في كل صغيرة وكبيرة دون استئذان سواء كان الأمر متصلاً ببحث فكري أو سياسي أو قضية مهنية أو إعلامية أو تنظيمية، متناولاً حصّته من المواطنة كاملةً غير منقوصة، دون أن ينتظر من أحدٍ منحه إياها.
عمل فارس الحلو مع كبار المخرجين السوريين والعرب فكان نجم أفلام ومسرحيات محمد ملص وهيثم حقي وسمير ذكرى و جواد الأسدي وآخرين
من دمشق إلى كوبنهاغن
في خريف العام 2011 في كوبنهاغن، العاصمة الدنماركية، كنا قد نظمنا لقاء مع البرلمان لشرح وتحليل ما يحدث في سوريا، ونقله من تعبير”أزمة” إلى “ثورة”، وصلتُ قبله بأيام، وكانت رحلة فارس الأخيرة من دمشق، حتى اللحظة، وحين وصل، كان مشغولاً في الفندق بما يحدث للبستان، يتساءل: ماذا عن الشباب العاملين هناك؟ وماذا عن الأعمال الفنية والمنحوتات؟ وأجهزة الصوت والإضاءة؟ ما الذي قد تفعله المخابرات بمشروعه؟ وكان يفكّر أكثر في الخطوة القادمة، ما الذي يمكن فعله للتعبير عن إرادة الشعب بصورة مبتكرة، أما أمام البرلمان فقد كان عليّ، حين حان الوقت، أن أقدّم فارس الحلو للسياسيين على المنبر، ولكني رأيته وهو يعبر الصفوف إلى خارج القاعة، فعرفت رسالة فارس، “لقد اختار الصمت وعدم الحديث معكم احتجاجاً على صمتكم على قتل السوريين” فلحق به الصحفيون بالسؤال، لماذا اخترت الصمت؟ وما دلالة هذا؟ وما الذي يحدث في دمشق؟
كان فارس مشغولاً طيلة الوقت، يصف بشاعرية شباب الثورة، من سوريين وفلسطينيين، مثقفين، مليئين بالطاقة والحلم بمشاريع شخصية واسعة، ولكنهم اختاروا هذا الطريق المدني، كان مشغولاً بالناس، سألني مرة: “هل يعقل أن يكون هذا كلّه ملفقاً؟ وأن هؤلاء فعلاً تم شراؤهم؟ هذا الشباب الزاهي، المتفتح، لا يبدو أنه يباع ويشترى، من يستطيع دفع ثمن هؤلاء؟”. ورغم أنه لم يكن يفعل شيئاً سوى المزيد من النظر في زوايا حديقة كريستيانيا والأعمال الفنية المتناثرة فيها إلا أنه ظل مشغول البال بالأسئلة، حتى افترقنا، هو إلى باريس وأنا إلى دبي.
دولارات الخليج
اتهم كثيرون من جمهور الأسد، كل من رفع صوته بالاعتراض وتأييد مطالب الشعب، بأنه يتلقى أموالاً من الخليج، ودولارات نفطية، وعمّموا ذلك ليشمل حتى من رفض العمل مع أي جهة، كما فعل فارس الحلو، فلم يقبل عروضاً كبيرة من محطات تلفزيونية بالظهور على شاشاتها وإعداد وتقديم البرامج مقابل مبالغ سخية، وفضل التزام مطرحه الأخلاقي الشخصي، تعبيره هو هو، لا أكثر ولا أكثر، وفي دبي روى لي فارس كيف أنه يقضي الوقت في التجوال على مراكز بيع أجهزة الإضاءة، لأن لديه فكرة خطيرة، أراد تطبيقها، ولكن المشكلة كانت في كيفية شحن الجهاز اللازم لتطبيقها، أراد فارس الحلو أن يشتري جهازاً للرشق الضوئي الليزري، كالذي يستخدم في الاحتفالات الكبيرة، وأن يرسله إلى دمشق، ليوضع في مكان مناسب، بزاوية مناسبة، ويرشق من خلاله كلمة “إرحل” بالليزر، على جدران القصر الجمهوري في جبل قاسيون، ليراها أهل دمشق كلهم.
رفض فارس الحلو الانخراط في التيارات السياسية السورية المعارضة، ورفض عروض العمل المغرية التي قدمت له من محطات تلفزيونية كثيرة، وفضّل البقاء ملتزما موقفه محافظا على ذاته، ورفض مؤخرا العمل في مسلسل درامي سوري مع ممثلين موالين للأسد، رغم ظروفه الصعبة
يضحك فارس، من ظروفه الصعبة خلال السنوات الماضية، النجم الذي أضحك الناس على شخوصه التي تقمصها، وأبكاهم مراراً في أفلام سينمائية رفيعة المستوى، مثل “الليل” مع المخرج محمد ملص، “والتجلي الأخير لغيلان الدمشقي” مع المخرج هيثم حقي، و”عائلة خمس نجوم” و”صوت الفضاء الرنان” و”الهارب” و”نهاية رجل شجاع″ و”الثريا” و”خان الحرير” و”بقعة ضوء” ودوره الخاص في مسلسل “دليلة والزيبق” حين قدم شخصية صلاح الدين الكبلي رئيس شرطة القاهرة، وقدّم في المسرح “سكان الكهف” و”مغامرة رأس المملوك جابر” مع المخرج العراقي جواد الأسدي، وكذلك “قصة موت معلن” وأعمال أخرى هامة.
وفي الشهور الأولى من هذا العام 2014، أصدرت محكمة القضاء المختص بدمشق مذكرة “مصادرة أملاك” بحق شخصيات حكومية ووزارية رسمية سابقة ومعارضين ومنشقين عن الجيش وفنانين سوريين معروفين بينهم الوزير الأسبق أسعد مصطفى، وزير الثقافة الأسبق رياض نعسان أغا، رئيس الوزراء الأسبقرياض حجاب، والفنان علي فرزات، والفنانة أصالة نصري، وكان طبيعياً أن تشمل فارس الحلو و يارا صبري وكندا علوش وعبدالحكيم قطيفان وجمال سليمان، وآخرين.
واستمر فارس الحلو على موقفه القطعي، رغم أنه تلقى عروضاً مؤخراً للعمل في أعمال تلفزيونية في الدراما السورية، معلناً أنه “لا يشرفه الظهور في كادر تصوير واحد مع السفلة” وكان يعني الصامتين على قتل الشعب والمروجين لبشار الأسد رغم كل ما ألحقه بالشعب والبلاد من أذى ودمار.
تمثال الممثل
كاد يختفي من الوجود في الشرق، مفهوم الموقف المبدئي، ومعه الضمير والمنعطف، فأصبح على الممثل أن يكون ممثلاً، وعلى المغني أن يغني ليطرب من يدفع له، وعلى الرسام أن يرسم صورة حسب الطلب في سوق الفن، ومع اختلاط الشأن العام بالخاص، في زلزال الأعوام الماضية، عادت من جديد، لتظهر على السطح، حياة الفنان الأخرى، التي ترقى به، إلى مصاف قادة الرأي، أكثر من دونه مجرد أداة تسلية، وموضوعاً للفرجة والترفيه، وكان من بين من قرروا خوض مغامرة عودة المفاهيم الكبرى من جديد، فارس الحلو ومعه آخرون، لم تحركهم السياسة، ولم يلحقوا الهياج الشعبي بدوافع ظلامية بدائية، ولكنهم سبقوا إلى الفكرة، وتجاوزوا هوياتهم المهنية إلى أفق إنساني لا حدود له، ليلقي ظلّ تمثاله الشخصي هناك، وليس عند أقرب عتبة.
فالتغيير الذي نشده هؤلاء، لا علاقة له بالمشاريع السياسية التقليدية، ولكن صلته المباشرة بحياة الإنسان وأبعاده العميقة الصافية، بالجمال والترفّع عن انحطاط الفكر والغرائزية، بالمستقبليات وليس بالعيش في الماضي السحيق، ولكن أليس هذا كله هو عين السياسة وجوهرها.