أُحيل الصحافي اللبناني فداء عيتاني إلى التحقيق في مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية في دعوى من الوزير جبران باسيل، بسبب الحملة التي شنها على وسائل التواصل الاجتماعي ضد معذِّبي وقاتلي السوريين في مخيمات عرسال، وبالطبع تملّكني كما تملّك كثيرين من السوريين شعور الواجب، واجب الخوف على فداء، واجب الإحساس بالذنب لأن جنسيتنا التي نحملها كانت سبباً في توقيفه والتحقيق معه، واجب الشكر العميق، واجب التضامن، واجب نشر الخبر إعلامياً وفايسبوكياً. وعن نفسي وعن كثير من السوريين: «شكراً فداء عيتاني».
تعرضت المحامية اللبنانية ديالا شحادة للمضايقات الأمنية والفكرية والاجتماعية، لأنها قررت وهي بكامل قواها العقلية تبني قضية الضحايا السوريين الذين قتلوا تعذيباً، ومحاولة الوصول إلى تحقيق شفاف في هذه القضية. ومرة أخرى، لا بد من قول «شكراً ديالا شحادة» عني وعن كثيرين من السوريين.
امتناننا كسوريين لديانا مقلد، حسام عيتاني، أحمد قعبور، ولبنانيين كثيرين آخرين، ولصديقتي يارا الصحافية المتابعة لشؤوننا أكثر من كثيرين منا، ولكثيرين من أهالي لبنان غير المشهورين لكنْ المتعاطفين وفق قدرتهم مع السوريين. الامتنان لمحاولتهم الوقوف على معاناة نعيشها منذ 6 سنوات، لا فرق بين عاميها الأول والسادس سوى ازدياد المأساة بؤساً، وتضخم التجاهل العالمي.
نحن اليوم ببساطة موتى بلا أسماء، ومقابر بلا شواهد، وجثث بلا معالم، وبعد كل ذلك التعب من محاولة إقناع العالم بعدالة قضيتنا، ويأسنا من لفت نظر الدول الكبرى إلى ما يحدث معنا، بتنا نهرول إلى كل من يتعامل معنا على أننا بشر طبيعيون لنا حاجات وعواطف ومشاعر، في عالم متوحش حرفياً.
منذ وقت قصير، كان الإحساس الغالب لدى السوري هو «الإحساس بالذنب»، الذنب لأنه لم يمت، الذنب لأنه استطاع النجاة بأطفاله من المذبحة السورية، الذنب لأنه ضحك، الذنب لأنه عشق، الذنب لأنه نجح في عمله، الذنب لأنه لم يغرق، الذنب لأنه لا يزال يحب الحياة. وأقول منذ وقت قصير، لأن هذا الوقت مضى وذهب، وأصبحنا كسوريين ننتظر التضامن من الآخرين، اللبناني أو المصري أو الفرنسي، لأن هذا التضامن يشعرنا بإنسانيتنا أكثر. وعلى ما يبدو فإن كثيرين من السوريين، وبدل أن يزيدهم تجاهل العالم إيماناً بعدالة قضيتهم، وبدل أن يزيدهم البعد من الوطن المذبوح كل يوم تقارباً في ما بينهم، أفرغوا غضبهم وعجزهم في وجوه البؤساء السوريين من أهلهم.
من جهة أخرى، وقبل أيام قليلة، انتشرت صورة قيل إنها التقطت في شوارع دمشق لفتاتين عاريتين تماماً، ولم يستطع أي ناشط او خبير نفي أو تأكيد حقيقة تلك الصورة، وجاءت التعليقات عليها في اتجاه واحد: «دعارة في شوارع دمشق، انحلال أخلاقي، ثقافة علوية…»، وبغض النظر عما إذا كانت الصورة التقطت فعلاً في دمشق أم لا (وأنا شخصياً أعتقد أنها غير صحيحة)، فإن رد الفعل الفايسبوكي السوري كان أقسى بكثير من رصاص الأسد.
فماذا لو أن هاتين الفتاتين معتقلتان لدى النظام وتم إخراجهما وهما على هذا النحو من المعتقل؟ ماذا لو أنهما أجبرتا على السير في الشارع لبضعة أمتار هكذا؟ ماذا لو كان أي سبب؟ (وكل هذا بافتراض صحة الإشاعة التي لم يتحقق منها أحد).
لكن كل هذا التفكير الموضوعي والإنساني لم يعد يرضي هوس «الأكشن» الفايسبوكي السوري. إنه يريد جدالات عقيمة تقضي على الملل العاجز، وتتماشى مع ما زرعوه فينا من إيمان وخشوع لتفسيرات نظرية المؤامرة. فالقول إن العلويين صدروا لنا هذه المشاهد أسهل بكثير من التفكير بسبب أقل تطرفاً، كما أنه يريح العقل في بازارات الطوائف والقوميات والقبائل. والقول إن الدعارة تتنقل في شوارع دمشق يريح نفسياً لجهة اتهام النظام بالإباحية والقذارة، وكأن من يعيشون في دمشق ليسوا سوريين، وليس منهم أهلنا وأقرباؤنا وأصدقاؤنا، أو كأننا نحن الذين نجوّنا بالصدفة أو بلطف من الله، ما كان يمكن أن نكون هناك بين بؤساء دمشق وغيرها من مدن سورية. ففوق كل ظلم النظام وميليشياته وشظف العيش وخطره، يأتينا من أهلنا هناك من يتهمنا بما لا نتخيل، فقط ليثبت لأصدقاء «الفايسبوك» أنه «ثوري مناضل». وهنا، هنا فقط، لا شعور بالواجب تجاه أحد، فنحن من نتهم بعضنا، ونحن من نرفع سيف الخيانة على كل من يخالفنا، ولا نزال ننتظر التعاطف من الآخرين.
لكن مرة أخرى يعود العقل ليسأل: لماذا تلومين الناس العاديين المقهورين ألماً والمشتتين بين كل النظريات والتحليلات والأخبار الكاذبة، والمنفيين جبراً وإكراهاً، إذا كان من يسمون «علية القوم» من نخب وقادة معارضة يعيشون في كون آخر، ولا يبدو أن مأساة السوريين في لبنان ودول الجوار على جدول أولوياتهم؟
لا أحاول جلد الذات السورية، ولكنني أحاول تفسير شعوري بالذنب حيال لبنانيين قالوا كلمة حرة في ما يخص السوريين، علماً أنهم يدافعون أولاً عن إنسانيتهم، وعن الحرية في بلد أهم ما فيه حرية الكلمة.
*نقلا عن “الحياة”