مدينة الحضر العراقية
مدينة الحضر العراقية ، هي مدينة آرامية مشابهة لمدينة تدمر ومعاصرة لها ، فلغتها آرامية صرفة ، الا أن الأقوام التي أسست هذه المدينة كانوا على الأرجح خليطاً من الآراميين والعرب كما كانت الحال في تدمر وفي البتراء ، وقد ذهب المؤرخ البريطاني ” جورج رولنسون ” الى أبعد من ذلك فأورد آراء المؤرخين القدماء ، وذهب الى أن سكان الحضر كانوا عرباً أقحاحا . بمعنى ذلك أنهم كانوا يتكلمون العربية بطبيعة الحال لكونهم عرباً ، ولكنهم كانوا يدوّنون أخبارهم بالآرامية ، بدليل ظهور آثار آرامية واضحة تماما في هذه المدينة ، وقد جاء بمقال الذي كتبه المؤرخ والآثاري العراقي” فؤاد سفر” ، ( حفريات الموسم الاول – الحضر ) المنشور في مجلة ” سومر ” التي تصدرها مديرية الآثار العامة في بغداد ، وذلك في أربعينيات القرن الماضي ، حيث أشار الى ما ورد على لسان المؤرخ البريطاني ” رولنسون ، بالقول :
( ان الحضر عاصمة لمجتمع عربي في عصر الامبراطور ” طريانس ” ، فقد استوطنت القبائل العربية مناطق من الجزيرة منذ أقدم الازمان ، وعدّ ” زنفون ” الأرض المحصورة بين الخابور وبلاد بابل جزءاً من جزيرة العرب ، وعدّها ” سطرابون” قسماً من الجزيرة العربية الصحراوية ، وظهر العرب في الجزيرة العليا في زمن” بومبي” ، وذكر ” بلوطارخ وابيان ” ان سكان مملكة الرها كانوا عرباً ، وذكرت الحضر في حروب طريانس لأول مرة ، وقيل عن اهلها كلما ذُكروا منذ تلك الحرب بانهم عرب ) ، وأضاف الأستاذ سفر بقوله : ” وشخّصهم عرباً ” ديوكاسيوس ” أشهر من كتب من الرومان عن الحروب بين الفرس والرومان ” .
ولاتوجد مصادر موثوقة ثابتة تؤيد أو تنفي ماجاء على لسان رولنسون ..
ومع ذلك فأن سكان الحضر كانوا مزيجاً من العرب والآراميين على الأرجح ، شأنهم شأن سكان البتراء وتدمر .
وردت اشارات تاريخية صريحة عند بعض الكتبة وهي ان ( الساطرون ) كان جرمقانياً وقومه جرامقة ، والجرامقة آراميون بشهادة غالبية المؤرخين ،كما ان ” نولدكه ” وهو من المستشرقين يؤيد ان (الجرامقة ) من أصل آرامي أو نبطي ، وطبعاً لا يمكن الجزم بأن جميع السكان كانوا ( جرامقة ) ، وقد ذكر ” الأصبهاني “
:(ان العباد من قضاعة ، وهم نصارى العرب ، نزلوا الحيرة ، فهزمهم شابور ، فصار معظمهم ومن فيه نهوض الى الحضر من الجزيرة يقودهم ” الضيزن بن معاوية التنوخي ” ، فمضى حتى نزل الحضر ، وهنا الساطرون الجرمقاني فأقاموا به ). وهذا دليل على وجود الأقوام الآرامية ، ثم نزوح موجة عربية من قضاعة ونزولهم عليهم ، مع العلم أنه أطلق على أحد الضيازن اسم ( برشميا بر شميا ) ومعناه ( ابن السماء ) .
مدينة الحيرة جنوب وسط العراق
أما مدينة الحيرة والتي تقع في جنوب وسط العراق ، والتي تبعد عن النجف والكوفة 7 كيلومترات من جنوبها الشرقي ، وفي هذه المدينة تجمّعت فيها قبائل عربية كثيرة ، وحكمتها سلالتان عربيتان هما التنوخيون واللخميون ، ورد ذكر بعض قبائلها مثل ” مذحج ، طي ، كلب ، و تميم ، بيد ان النصرانية قد سادت في الحيرة قبل القرن الرابع الميلادي .
والى جانب هذه الجموع الموغلة في القدم كنا نرى في فجر تاريخها طوائف كثيرة من النبط ، وهم لا شك آراميون قومية ولغةً ، ودليلا على تمازج العرب وهؤلاء الآراميين ، بما ورد في ” امالي السيد المرتضى” أن ( خالد ابن الوليد لمّا غزا الحيرة ، سأل عبد المسيح ابن بقيلة : أعرب انتم أم نبط ؟ أجابه : عرب استنبطنا ، ونبط استعربنا ..) .
وكان هناك أقلية فارسية وديانات يهودية ، ومانوية ، وزرادشتية ، ومسيحية ، بالاضافة الى الكثيرين من الوثنيين ، الا ان الأكثرية الساحقة من سكانها كانوا من العرب والآراميين ( النبط ) ، وكان يحكم الحيرة في القرن الثالث الميلادي القائد ” عمرو العربي ” والذي كانت ديانته مانوية . وقد اطلق المؤرخون العرب اسم ( نبط العراق ) على بقايا البابليين والآراميين في العراق ، وهم الذين يتكلمون الآرامية ، وسمّاها المؤرخون النصارى ( بيت آرمايا ) اي ديار الآراميين .
ومن المؤكد ان العلم والأدب ، كانا زاخرين في الحيرة أبان مجدها ، وقد ورد في ” المزهر للسيوطي ” أن أول من كتب بالعربية هو حرب بن امية بن عبد شمس ، وتعلمها من اهل الحيرة . وقد وردت نصوص تاريخية تروي أخبار مدارس الحيرة منذ أقدم عصورها ، وحدّثنا صاحب الاغاني أبو فرج الأصفهاني ، ان المرقش الاكبر وهو ابو عمر الشيباني ، وأخاه حرملة ، تعلما الكتابة على يد نصراني من اهل الحيرة .
وكان الحيريون يدرسون اللغة العربية كونها لغتهم القومية ، ويدرسون الآرامية ،على انها لغة طقوسهم الدينية ، وبها كانوا يقيمون شعائرهم الروحية وهي ايضاً اللغة المحكية في المنازل لدى الكثير منهم ، وتخرّج كثيرون من العلماء في الحيرة يتقنون اللغتين العربية والآرامية امثال حنين بن اسحاق العبادي القادم من مدينة حرّان الى الحيرة ، ومؤلف المعجم الآرامي الشهير ، ومترجم العلوم الاغريقية الى الآرامية والعربية ، والاسقف الحيري حناني يشوع ، مؤلف المعجم الآرامي العربي الذي استند عليه كثيراً ابن بهلول في معجمه الشهير .
ومما لا شك فيه أن كنائس الحيرة ومعابدها الكثيرة والتي ساهمت مساهمة فعّالة في نشر العلوم والآداب العربية والآرامية حينذاك .
الغساسنة
الغساسنة قبائل عربية يمنية ، وهم بنو ماذن من الأسد من خزاعة نزحت من مواطنها في اليمن في حادثة سيل العرم ، نحو سنة 120 م ، وحطت اولاً في منطقة من حوران وبادية الشام ، ونزلت على ماء بين ” زبيد ” و “زمع ” يقال له ( غسان ) فمن شرب منه فهو ( غساني ) ، ولذلك سمّوا ( الغساسنة ) او ( بني غسان ) . وكانوا يدينون بالنصرانية ، واسّسوا لهم دولة عربية في هذه المنطقة وكانت عاصمتها ( الجابية ) في الجولان ، وامتدت دولتهم بين دمشق وتدمر ، ثم توسعت فامتدت من دمشق الى الرصافة ( السورية ) على شاطئ الفرات .
والمنطقة التي سكنها الغساسنة في أول أمرهم كانت منطقة ( باسان او باشان ) المذكورة في العهد القديم ، وكان يحدها بادية سوريا شرقاً ، وغور الاردن غرباً ، واراضي دمشق شمالاً ، وارض جلعاد جنوباً ، وحسبما تدل المصادر الغربية أن اسمهم اشتق من أسم الماء ( غسان ) الذي نزلوا عليه .
و ( غسان ) هي تسمية آرامية بمعنى ” فاض النبع ” اي تدفق ، ومن الظاهر أن هذه القبائل العربية امتزجت ببقايا الآراميين الضاربين في هذه الربوع منذ أقدم العصور في ممالك البتراء وتدمر والممالك الآرامية القديمة في دمشق وما جاورها من المناطق السورية وما يحيط بها . ولما كانوا يدينون بالنصرانية ، ويتفقون هم ونصارى هذه البلاد بالعقيدة والطقوس والشعائر الكنسية ، واستمروا بعلاقاتهم الحسنة مع الآراميين سكان البلاد القدماء و يتبادلون اللغة والمذهب الديني بكل سلاسة ، ومما لا ريب فيه أن سكان هذه المناطق من النصارى كانوا يقيمون طقوسهم الدينية باللغة الآرامية ، سواءً كانوا عرباً أو آراميين .
ومما يزيد في تأصل العلاقات واستمرارها بين العرب الغساسنة والسريان الآراميين جنباً الى جنب في سائر مرافق حياتهم الدينية والدنيوية . ومما لا ريب فيه ان هؤلاء العرب كانوا يتحدثون العربية فيما بينهم ، ويستعملون الآرامية في شعائر عبادتهم ، ولم يجرّموا افرادا منهم ممن كانوا يتخاطبون بالآرامية الأصلية ، وهو ما يجمع بين اللغتين العربية والآرامية في صعيد واحد .
لم تكتف الكنيسة السريانية بخدمتها العرب الغساسنة المتحضرين ، بل بالغت في خدمة سائر العرب المسيحيين الرحّل ، فانشأت لهم طقوساً خاصة بالسريانية ( اطلقت التسمية السريانية بدل الآرامية بعد ظهور المسيحية ) والعربية ، وترجمت لهم الانجيل الى العربية ، وزودت ابناؤهم بجميع التعاليم باللغتين العربية والسريانية ، وقد ذكر المؤرخ ميخائيل الكبير أساقفة كثيرين سمى كلاً منهم ( اسقف العرب ) ، وكان هؤلاء الاساقفة ينتقلون مع القبائل العربية النصرانية في صحاريها ، ويقيمون لهم الشعائر الدينية في بيوت الشعر ، وكانوا يستعرضون ( القداس ) مترجماً الى اللغة العربية عن أصله السرياني .
وبعد انقراض الدولة الغسانية ظلّ العرب الغساسنة ملتزمين بالكنيسة السريانية ومخلصين لها أشد الاخلاص ، وآثروا السكنى في المدن والحواضر والقرى في البلاد السورية ، ونزح بعضهم الى بلادي بابل و آشور ، ويذكر ابن العبري في كتاباته : ” ظلّ الغساسنة من ذلك الحين حتى اليوم (القرن الثالث عشر) متمسكين بعقيدة الطبيعة الواحدة ولا سيما في ” الحديثة ” وفي ” بلاد باعرباي ” ( المنطقة الممتدة بين الموصل وسنجار ونصيبين ) وفي ” القريتين ” ، ” والنبك ” ، وسائر أطرافها ” .
منطقة عربية اخرى هي منطقة نجران في بلاد اليمن ، فقد تبوأها العرب المسيحيون منذ أقدم العصور المسيحية ، وكان انتماؤهم الى الكنيسة السريانية الآرامية في سوريا وغيرها .
نجران
. في مدينة نجران العربية ازدهرت المسيحية ، واقيمت الكنائس فيها وفي بقية المدن اليمنية أمثال مأرب والهجران .
في نجران والمدن المجاورة لها كانت المسيحية عربية آرامية في آن واحد ، كما كانت قبلها الوثنية ، وثنية عربية آرامية ، حيث العرب وبالأخص قبائل حميّرعبادتهم كانت للاله ” شمش ” ( الشمس ) وهو الإله الآرامي القديم . فصلة القبائل العربية في هذه المنطقة متعلقة بالآرامية في عهديها الوثني والمسيحي ، وبذا نجد الفرصة اتيحت في كلا العهدين للقاء اللغتين العربية والآرامية ، غير أنه في العهد المسيحي تجذرت العلاقة بين هاتين اللغتين ، بسبب ان أهل حميّر أخذوا يكتبون بالقلم الآرامي السرياني بدلاً من الخط المسند الشائع عندهم قبل ذلك .ويظهر من سياق حوادث التاريخ ان أهل نجران كان فيهم كثيرون ممن يستطيعون القراءة باللغة الآرامية ويفهمونها .
وعلى ذكر كتابة الحميريين بالخط السرياني الآرامي ، نعود للمؤرخ ” ولفنسون “حيث كتب :
( أن العرب في عهد جاهليتهم الوثنية كانوا يستعملون الخط النبطي الآرامي المتأخر ، وكانت حضارة العرب الوثنية مرتبطة بالنبط ارتباطاً وثيقاً ، وكان نصارى العرب يستعملون الكتابة النبطية واللغة الآرامية التي كانت لغة العمران والدين عند نصارى الشرق ، وكان أهل نجران على الأخص وهم عرب أقحاح يعرفون اللغة الآرامية ، وعلى الأخص في طقوسهم الدينية ، واتصالهم بالكنيسة الأم في سوريا وفي غيرها من الأصقاع الكنسية ) .
القبائل العربية المسيحية العراقية
كانت في العراق قبائل عربية كثيرة تسير تحت راية الكنيسة السريانية الارثوذكسية ، واشهرها قبائل ” تغلب ، طي ، نمر ، و اياد ” ، ومن أشهر أساقفتها ” أحودامه “، وكان أسقفاً للمنطقة المعروفة بـ ( باعرباي ) اي ديار العرب ، وهي الواقعة بين الموصل وسنجار ونصيبين ، وبعد ان قلّده مار يعقوب البرادعي مطرانية بلاد المشرق سنة 559 م سار بنفسه الى جنوبي العراق ، فقد دعا بقية العرب الرحًل الى النصرانية ، فاتخذت اعدادا منهم المسيحية دينا لهم ، وأنشأ لهم ديرين وعدة كنائس . وهذا يدل على أن هذا المبشر كان يتكلم العربية كما كان يتقن لغته السريانية ، ومن المؤكد أنه انشأ لهم الشعائر الدينية هو والكهنة الذين نسبهم كرجال دين من الذين يتقنون اللغة العربية لهؤلاء العرب .
أن أشهر القبائل العربية العراقية هي قبيلة تغلب ، ويتحدث التاريخ عن انتمائها الى الكنيسة السريانية الأم في العراق ، ورسم البطاركة الانطاكيون السريان لها أساقفة كثيرين يتصل بعضهم بنسب عربي والبعض ينحدر من نسب سرياني ومن اولئك الاساقفة يوسف التغلبي الذي رسمه البطريرك يوليان الثالث ( 688 – 817 م) . ورسم البطريرك قرياقس التكريتي ( 793 – 817 م) ثلاثة أساقفة لهؤلاء العرب . أولهم الأسقف يوحنا للكوفة ، ثم الأسقف داود ، ورسمه في ( دقلا ) عاصمة التغالبة ، والأسقف عثمان العربي ، وهو الخامس والاربعون في عداد اساقفته .
وكان معظم هؤلاء الاساقفة يتنقلون مع قبائلهم من دار الى دار ، يسكنون الخيام ويقيمون الشعائر الدينية في بيوت الشعر .
وهناك حديث منسوب الى يحيى بن جرير التكريتي ، يقول فيه :
” وقد كان في العرب نصارى كبني تغلب وقوم من اليمن وغيرهم ومعهم أسقف يطوف معهم الحلل وفي سفرهم وينقل المذبح أعني الدفة المقدسة ( الطبليث ) من موضع الى موضع ، الى سنة ثلاثمائة للعرب ( 912 م ) فوصل الى تكريت قوم من العرب النصارى وابتاعوا لهم ميرة ليمتارو بها ، وكان منهم رجل دين حسن الطريقة فقلده مطران تكريت الأسقفية ، وكان يقدس لهم باللفظ العربي ، وكان يقدس لهم على الانجيل ” .
الختام
في النهاية ، يتبين من أن العربية والآرامية سارتا بخطين متوازيين في جميع العصور منذ عهد الوثنية الى قرون عديدة من عهد المسيحية وحتى بعد انتشار الاسلام ، مما تأثّر بعضهما ببعض ، وعلى الأخص العربية التي أفادت من الآرامية فوائد كثيرة .
قال المفكر المصري محمد عطية الابراشي : ” في الوقت الذي كان للغة الآرامية الغلبة والانتصار أثّرت تلك اللغة الآرامية في اللغة العربية تاثيراً عظيماً ، وكلّما امعنا في الفحص والاستقصاء اتضح لنا ان كثيراً من الكلمات العربية التي كانت تستعمل للتعبير عن الافكار والمواد التي تدل على درجة معينة من المدنية استعيرت من اللغة الآرامية ، ومن هذا نستنبط ان العرب شعروا بالمدنية التي كانت لدى جيرانهم الآراميين في الشمال وأنهم قد تأثروا بها ” .
ويضيف الابراشي قائلا : ” ان اللغة العربية الفصحى … نشأت من الآرامية في الشمال والسبئية في الجنوب ، الا ان آرامية الشمال تغلبت على السبئية في القرون القريبة من الاسلام “.