تبالغ السلطات اللبنانية منذ مدة في استخدام أسلوبي إحالة شخصيات على القضاء المدني أو العسكري، والمنع عندما يتعلق الأمر بأفلام . ويتبين من مراجعة القضايا التي تتسبب بملاحقات، أو تدابير زجرية أنها تتعلق عموماً إما بالمس عن قصد أو غير قصد بأساسات التركيبة الحاكمة: رئيس الجمهورية، رئيس الحكومة، و”حزب الله”، أو بتهمة يريد مطلقوها أن تصير نوعاً من “بعبع” تخويفي وذات علاقة بإسرائيل.
وقد يكون ثمة رابط ما، ظاهر أو خفي، بين كل هذه القضايا يعيدها إلى “العدو الصهيوني”، باعتبار أن الاعتراض على طريقة الحكم في لبنان والحاكمين هو خدمة في شكل أو في آخر لـ”العدو”، الذي يمكن أن يكون أيضاً دولة خليجية تتعارض سياساتها الإقليمية مع توجهات القيمين على الدولة اللبنانية حالياً، إذ يستحيل أن يكون لبناني صاحب رأي صالحاً ويخالف المسار العام الذي تسير فيه البلاد منذ أن قامت تركيبة الحكم الجديدة فيه.
آخر القضايا التي سلطت الضوء من جديد على ظاهرة الإفراط في استخدام القضاء هي الحكم الغيابي الذي صدر عن المحكمة العسكرية في حق الباحثة والصحافية الزميلة حنين غدار، وقضى بسجنها ستة أشهر لأنها أبدت رأياً خلال ندوة في واشنطن عام 2014 في أوضاع المنطقة ومخطط إيران فيها، وتدخل “حزب الله” في حرب سوريا ودوره في لبنان، وتحوّل مواقف الغالبية الشيعية في لبنان من أيام الإمام موسى الصدر إلى اليوم، وتفاعل الجيش اللبناني مع هذا الحزب خلال زمن تلك الندوة. والحال أن ما عرضته لا يخرج عن الحق في إبداء الرأي في ندوة بالإنكليزية لم تحظ بتغطية في لبنان، فضلاً عن أن كثيرين من اللبنانيين يقولون بهذا الرأي علناً وفي مجالسهم.
مثال آخر صارخ قضية الممثل زياد عيتاني الذي سمع اللبنانيون تهمة العمالة لإسرائيل بحقه من أحد الصحافيين على شاشة تلفزيونية، ثم تولت وسائل إعلام محلية التسويق لتفاصيل مثيرة عن علاقته بضابطة في “الموساد” اسمها كوليت ونشرت حولها أساطير، سرعان ما تبين عند أول مقابلة أجراها قاضي التحقيق مع عيتاني ونشرت فحواها “الوكالة الوطنية للإعلام” الرسمية أن لا وجود لتلك المرأة، وكل التهم التي ألقيت على الممثل عيتاني كانت من نسج الخيال. لكنه في الواقع لا يزال وراء القضبان في انتظار محاكمته. وأما وسائل الإعلام التي خرقت القانون بنشر محاضر تحقيق يُفترض أنها سرية فلم تتعرض لأي إجراء.
ويقدم ما تعرض له الصحافي فداء عيتاني نموذجاً آخر عن الأسلوب الغريب في التعامل مع الكتّاب، إذ أحيل على المحاكمة الجنائية وهو خارج لبنان، بسبب مقالة نشرها في فضاء الإنترنت ضمنها معلومات عن صفقات مزعومة يديرها أركان في الحكم، وكان المفترض أن تُحال القضية على محكمة المطبوعات. ومثلها قضية الكاتب والناشط أحمد الأيوبي الذي سُجن فعلاً بسبب قضية مشابهة وخرج بسند إقامة.
مواضيع ذات صلةالحكومة تجاوزت قطوع التعديل ومساعي التهدئة لا تثمر “ننتظر العجائب” في الانتخابات… وعن مشاركة المرأة: “الطريق طويل والقصة صعبة” لا شيء جدياً يشي بأن قانون العفو قريب
ولا تعفي الصفة السياسية مَن يخالفون المسرى السائد الدولة من الملاحقة وإن كانت الذريعة غير ذات قيمة: خطأ مطبعي أوقع حرفاً في غير مكانه في تغريدة، كما في حالة نائب جبيل السابق فارس سعَيد. ومن ينسى الطلب إلى رئيس حزب الكتائب النائب سامي الجميّل التوجه إلى القضاء إذا أراد انتقاد ما يراه ارتكابات يقدم عليها وزراء ومسؤولون، وليس إلى صفته النيابية المحمية بالقانون.
كذلك الموقع الإعلامي البارز في لبنان والعالم العربي لا ينفع أمام الموجة العالية والقوية، بدليل حالة الإعلامي الزميل مارسيل غانم الذي كان يدير حلقة تلفزيونية كعادته بأقصى ما تتطلب من حنكة ومهارة ولياقة في التعامل مع المواضيع والضيوف، ولا تزال قضيته تجرجر.
المخرج الشهير زياد الدويري وصل أيضاً إلى باب السجن عن غير وجه حق، وثمة أفلام تُمنع بوتيرة متسارعة في لبنان، بلغ عددها خمسة خلال سنة، وآخرها كان “ذا بوست” لستيفن سبيلبرغ، والذي أثبت الرأي العام والكتّاب والمثقفون من خلال حملهم السلطة المعنية على التراجع عن قرار المنع أنهم قوة حقيقية يعتدّ بها عند مواجهة التعرض السافر لحريات اللبنانيين، ولا سيما حرية الرأي.
والشواهد كثيرة على التوجه إلى تبني أساليب عهود سابقة وتجارب أنظمة ديكتاتورية في التعامل مع أصحاب الرأي والثقافة أخيراً في لبنان على قاعدة أن كل اعتراض هو في النهاية خدمة لـ”عدو بعبع” . يغفل القيمون على الحملة الغاضبة هذه أن إسكات صوت في هذه البلاد يليه دوماً ارتفاع أصوات من حيث لا أحد يتوقع. وأن لبنان والحرية متلازمان، لا معنى لوجوده من دونه.