هذا المقال بقلم تريسكا حميد، والآراء الواردة أدناه لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة “سي ان ان”.
تبدأ معظم الأيام بالعادات نفسها، ما بين الاستحمام وغسل الأسنان وتناول القهوة وتصفُّح البريد الإلكتروني. ورغم أن هذه العادات تبدو في ظاهرها أفعالًا يومية بسيطة، فإن لكل منها أصلًا راسخًا في العالم الإسلامي القديم.
ففي الوقت الذي كانت فيه أوروبا ترزح تحت وطأة عصور الظلام، كان سكان الإمبراطوريات الإسلامية يصنعون الصابون، ويستخدمون فرشاة الأسنان، ويستوردون القهوة من أوروبا، ويضعون المفاهيم الرياضية التي تشكّل الآن الركيزة الأساسية لعالَم الحاسب الآلي والإنترنت.
لم يكن العالم الإسلامي يعاني من الحروب والويلات في جميع الأوقات. فبين القرنين التاسع والثاني عشر، كان العالم الإسلامي واحدًا من أكثر الإمبراطوريات تقدمًا وابتكارًا واستنارة؛ وهي الفترة التي عُرفت باسم “العصر الذهبي للإسلام”.
ففي تلك الفترة، وتحديدًا في ظل الخلافة العباسية، شهد العلم تقدمًا بوتيرة غير مسبوقة. وأصبحت الاختراعات والابتكارات التي ظهرت في عهد هؤلاء الخلفاء الأساس الذي تقوم عليه العديد من النظريات العلمية والحياة اليومية حول العالم.
وكان من بين علماء ذلك العصر الذهبي علماء يهود ومسيحيون وزرادشتيون ومسلمون، حيث توجّه الكثيرون منهم إلى بغداد عاصمة الخلافة العباسية والمقرّ الذي أُنشئ فيه “بيت الحكمة”.
ومن بين أبرز الخبراء المهتمين بازدهار العلوم والابتكارات في تلك الفترة، البروفيسور جيم الخليلي، أستاذ الفيزياء النظرية وتبسيط العلوم لغير المتخصصين بجامعة سَرِي البريطانية.
يقول البروفيسور الخليلي: “لقد كانت حقبة حافلة، ولم تقلّ أعمالها أهمية عن الأعمال التي ظهرت في عصر النهضة والحقبة اليونانية القديمة، لأن العلوم في أوروبا لم تكن لتزدهر لولا إسهامات العلماء في العصر الذهبي. فالعلم لم يأت من فراغ ولم ينشأ من العدم. وإسحاق نيوتن نفسه قد حقق ذلك النبوغ بالاعتماد على ما قدمه الروّاد من قبله.”
هذا ما صرّح به البروفيسور الخليلي في لقاء سابق للكلمة التي سيلقيها حول هذا الموضوع أمام القمة العالمية للحكومات لعام 2016 في دبي، حيث يبحث صنّاع السياسات الأفكار والظروف التي من شأنها أن تمهّد لعصرٍ جديدٍ قائمٍ على السلام والرخاء في الشرق الأوسط.
ومن أبرز الإسهامات التي قُدّمت في العالم الإسلامي القديم ترجمة النصوص التي كُتبت في عهد الإمبراطوريات السابقة. فأعمال الأدب والتاريخ والفلسلفة وغيرها من أشكال المعرفة العلمية من اليونان إلى الهند قد جُمعت وتُرجمت إلى لغة واحدة هي اللغة العربية التي أصبحت لغة التواصل المشترك في العالم الإسلامي في القرن الثامن.
ومن اللغة الهيروغليفية إلى السنسكريتية، أصبحت الأعمال القيّمة من مختلف الثقافات في متناول الجميع للمرة الأولى في التاريخ – وهو ما اعتُبر إرساءً للدعائم الأولى لما يُعرف باسم دمقرطة المعرفة. لكنّ إسهام العالم الإسلامي لم يقتصر على ترجمة المعرفة اليونانية والحفاظ عليها إلى أن أعاد الأوروبيون إحياءها وترجموها إلى اللاتينية.
يقول البروفيسور الخليلي: “الأمر يتعدّى ذلك؛ فقد ظهرت في تلك الفترة مجالات جديدة تمامًا في العلوم؛ سواءٌ في الرياضيات، أو الكيمياء، أو الطب، أو الفلك.”
لقد مهّدت الترجمة الطريق لتطور العلوم وظهور النظريات الحديثة.
يضيف البروفيسور الخليلي: “إننا نتحدث عن كيفية تطور العلوم على مستوى العالم. فالحضارات تقوم وتندثر؛ أما العلم فينتقل من عصر لآخر عن طريق التدوين.”
وقد نشأ انتقال المعرفة بهذه الصورة على أيدي علماء العالم الإسلامي الذين اختبروا النظريات والفرضيات التي وضعها أسلافهم وأرسوا قواعد المنهجية العلمية والاختبار العلمي.
يستطرد البروفيسور الخليلي: “نبغ اليونانيون في التفكير المجرّد، لكن لم يقم بإجراء التجارب العلمية سوى القليلون منهم. أما العصر الإسلامي، فقد أحدَثَ نقلةً حقيقيةً في هذا الصدد.”
فعلى الرغم من أن العلماء أمثال أرسطو وأفلاطون قاموا بوضع الفرضيات وقضوا وقتًا طويلًا في مناقشة نظرياتهم، فإنه لم يكن لديهم اهتمام حقيقي باختبار تلك الفرضيات.
أما علماء العالم الإسلامي فكانوا على دراية بأعمال اليونانيين القدماء، إذ كان عليهم تقديم النصوص المترجمة؛ لكنهم لم يكتفوا بذلك، بل قرَّروا اختبار الفسلفات اليونانية. فالعلماء أمثال ابن الهيثم كانوا من أوائل الروّاد في الاختبار والمنهجية العلمية، وخلال هذه الفترة ظهرت الكيمياء كعلم مستقل بذاته بعيدًا عن الخيمياء والسحر.
يقول البروفيسور الخليلي: “وهكذا للمرة الأولى في التاريخ، يصبح لدينا أفكار علمية وفهم للعالم مصدره الثقافات المختلفة. لقد قام العلماء المسلمون باختبار تلك الأفكار والتحقق منها والبحث فيما وراءها، وهذه هي الطريقة التي يقوم عليها العلم في الوقت الحاضر.”
وقد ساهمت تلك المعرفة الشاملة متعددة المصادر والثقافات في تكوين نظرة عالمية، غير أن الدين في نظر الكثير من هؤلاء العلماء كان هو القوة الدافعة وراء بحثهم عن الحقيقة.
يعقِّب البروفيسور الخليلي: “لا شك أن بعض مجالات العلوم كانت نتاجًا لظهور الدين الإسلامي، وكان من الأهمية بمكان تطوير تلك العلوم. وخيرُ مثالٍ على ذلك علم الفلك.”
فالحاجة إلى تسجيل الأطوار التي يمر بها القمر لمعرفة أوقات الصلاة والتنبؤ بوقت الصيام في شهر رمضان كانت تتطلب فهمًا راسخًا للسماء وحركة القمر والشمس والنجوم. ومن هنا ظهرت آلة الأسطرلاب، وتطورت آلية عمل الساعات، وظهرت الفيزياء الفلكية. وفي الوقت الذي كان يعتقد فيه الأوروبيون في العصور الوسطى أن الأرض مسطحة، كتب علماء الفلك في العالم الإسلامي عن احتمال دوران الأرض حول محورها.
أما التطورات التي شهدها مجال الطب، فكانت مدفوعة هي الأخرى إلى حدٍّ كبير بالدين. فالإسلام يحضّ على الطهارة، والعالم الإسلامي هم أول من اخترعوا الصابون وقدَّموا فرشاة الأسنان في صورتها البدائية إلى أوروبا.
علاوةً على ذلك، فقد أُنشئ أول مستشفى يضم أجنحة ومراكز تعليمية عام 872 على يد أحمد بن طولون. وفي تلك الأثناء كان محمد بن زكريا الرازي – أثناء بحثه عن مكان به هواء نقي يصلح لإقامة مستشفى – يجوب بغداد وهو يعلّق قطعة من اللحم فوق عمود ليرى المكان الذي ستبقى فيه قطعة اللحم أطول وقت قبل أن تفسد.
يمكن اعتبار الزهراوي أحد أكبر المساهمين والرواد في مجال الطب، حيث نشر موسوعة عن علم الجراحة مزوّدة بالصور ومكونة من 1500 صفحة، كما ابتكر مئات الأدوات التي لا يزال بعضها يُستخدم إلى اليوم مثل المِلقط والمِحقنة.
غير أن أبرز ما ساهم به هذا العصر في العلوم الحديثة هو علم الجبر الذي أرسى قواعده العالم محمد بن موسى الخوارزمي عندما أدخل فرعًا جديدًا إلى الرياضيات بتأليفه “كتاب الجبر والمقابلة” في القرن التاسع. ففي هذا الكتاب، قدَّم الخوارزمي إلى العالم الأوروبي الأرقام الهندية والصفر والنقطة العشرية حسب رواية العالم الهندي المسلم سِند بن علي. واستعان الخوارزمي بالمصادر الهندية واليونانية لوضع المعادلات الجبرية التي أصحبت عصب علم الجبر الحديث الذي تقوم عليه مجالات عديدة اليوم كعلم الهندسة.
لماذا إذن خبت جذوة العصر الذهبي؟ البعض يُلقي باللوم على القوة المدمّرة للمغول الذين أبادوا الخلافة العباسية عام 1258. ولاحقًا، قلّ تركيز الإمبراطورية العثمانية على العلم وزاد التركيز على القوة العسكرية. كذلك كان للاستعمار يدٌ في اندثار تلك الثروات والموروثات التاريخية.
يقول البروفيسور الخليلي: “لم يكن الأمر سرًّا. ففي القرنين السادس عشر والسابع عشر في أوروبا، كان العلماء الأوروبيون على دارية بهؤلاء العلماء المسلمين. على سبيل المثال، تحدَّث فيبوناتشي عن إسهامات الخوارزمي في الجبر. غير أن نيوتن وجاليليو وكيبلر طوّروا تلك الإسهامات بوتيرة سريعة في وقت كان فيه العالم الإسلامي يعاني كبوةً ويفقد اهتمامه بالعلوم.”
تذكُر العديد من الكتب حول العالم أن العلم بدأ مع إسهامات جاليليو ونيوتن، دون أن ينسب أحدٌ الفضل لمن كانوا قبلهم من العلماء وصولًا إلى قدماء الإغريق.
“بمرور الوقت، تورات بعض الأسماء. يرى البعض أن الاستعمار قد حطَّ من شأن التاريخ والثقافة في المنطقة، وبخاصة في الشرق الأوسط. فإذا أردتَ تخريب المجتمعات والثقافات واستغلال مواردها، فلن تفكر كم كانت هذه الحضارات عظيمة، بل ستنظر إليها وكأن مواطنيها أقلَّ شأنًا من غيرهم.”
لا يحظى هؤلاء الروّاد بالتقدير اليوم؛ ليس في الغرب فحسب، وإنما في العالم الإسلامي والعربي أيضًا.
يقول البروفيسور الخليلي: “كثيرٌ من الشخصيات من العصور الوسطى أصبحت مجرد أسماء لا علماء قدَّموا إسهامات جليلة في فهمنا للعالم. لكنهم ليسوا مجرد أسماء؛ لقد كانوا علماء ونحن بحاجة إلى التعلم من إسهاماتهم.”
نحو 3000 من صناع القرار حول العالم سيناقشون هذا الموضوع وغيره من المواضيع الرئيسة في القمة العالمية للحكومات المقرر انعقادها في دبي في الفترة 8-10 فبرابر 2016.