كنت من قراء علي سالم المدمنين. اختلفت معه طويلاً، كما اختلفت مع أنيس منصور من قبل. ولم يصدف أنني التقيته. لكنني كنت أقرأه وكأنني أقرأ مشروع مسرحية أخرى. كل شيء كان عنده سيناريو وحوارًا وهزلاً وذكاء لماحًا وابن بلد. تبدأ المقالة مثل المسرحية بعرض الأدوار وتنتهي بقفلة البطل. والبطل هو الكاتب، وهو جميع أشخاصه.
و«السيناريست» كان غنيًا بفقر الأيام الأولى التي عرف خلالها مصر البلد. كمسري أوتوبيس في دمياط يلتقي كل يوم مئات الطباع والنفوس والحالات، فتتجمع في ذاكرته إلى يوم يصبح من أرباب المسرح الكوميدي في مصر ومن أقلام صحافتها البراقة، خصوصًا عندما يبتعد عن جدل السياسة ويبحر في أعماق مصر الشقية والضاحكة واللامبالية بالصعوبة والبؤس.
ومثل أي مصري ابن بلد، حوَّل علي سالم مراراته إلى سخرية. وخلط حكمة الأمثال الصعيدية بالحديث عن حكمة أفلاطون. وأيد الحكومة وضحك منها. وأكثر من الأعداء والمعجبين معًا. وغاص في السخرية حتى لم يعد لديه مكان للتملق أو المسايرة.
تذكّر مؤلفاته بأرقى أعلام السخرية المصرية من إبراهيم المازني إلى محمود السعدني. ومثلهم طغت عليه صورة الساخر، لكن خلفها كان يقبع مثقف كبير ومجتهد ومفتون بكل فتنة مصرية في المدن والأرياف والترع والضياع. وخلافًا لهم كان المسرح هو أفقه الأساسي. ولم تكن طريقه إليه سهلة أو قصيرة لكن ما إن وصل حتى ظل يبدع الأعمال. ولم يتوقف عن الاطلاع على المسرح العالمي، القديم والحديث، الدرامي والكوميدي.
كل شيء عنده كان مسرحًا ومسرحية، خصوصًا الحياة. وعندما أصيب بالمرض، لم يكتئب ولم يشرك الناس في معاناته ولم يمنن قراءه بأنه «يكتب من سرير المرض» بل ظل يضحكهم ويسامرهم ويسخر عنهم من الظواهر المريضة بعقولها وأفئدتها.
هو كان مريضًا في الرأس، لا في العقل، ولا في القلب. كان أنيس منصور يتحدث عن المنصورة وكأنها قرية من عشرين منزلاً فيقول فلان «بلدياتي». وعلي سالم كان يتحدث عن دمياط كأنها حارة. وعادة المصريين أن يتحدثوا بعد ذلك عن القرية الأم، مصر.
سوف أطل من النافذة وأفتقد المسرح الذي كنت أتمتع بمشاهدته، يومًا بعد آخر. مات مشاغبًا.
* نقلاً عن “الشرق الأوسط”