عقد الصيانة وتكييفه الفقهي والقانوني‎

mohamedbarziالدكتور محمد برازي

من خلال بحثي في موضوع عقد الصيانة وتكييفه الفقهي والقانوني ، ومراجعتي لكتب الفقهاء القدامى ، لم أجد بحوثاً مستقلة لهم تبحث في عقد الصيانة بصفته عقداً مستقلاً ، بل كانت بحوثاً ودراسات ملحقة ببعض العقود ، أو كأثر يترتب على بعض العقود الأخرى والتي صنّفت حديثاً تحت عنوان : العقود المستحدثة أو العقود الغير مسماة .
ولكني فوجئت من خلال البحث عندما وجدت أو اكتشفت بأن عقد الصيانة هو أوّل عقد وجد على وجه هذه الخليقة ، بل هو أوّل عقد بدأ به سيدنا آدم عليه السلام حياته على الأرض ، وذلك بعدما خضع لدورة تجريبية في الجنة ، يقول الله سبحانه وتعالى ( وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين )
دورة تجريبية لسيدنا آدم في الجنة لاختبار طبيعته الإنسانية الممزوجة والمكونة من الخير والشر ، وهل يمكن لي أن أقول : هي أيضاً اختبار لقطع جسده مثل القلب والنفس وماشاكل ؟ ولكن خلل ما ، أو خطأ ما ، ارتكب من قبله أثناء هذه الفترة ، لحكمة الهية ، وبسبب هذا الخطأ كان الهبوط الى الأرض ، يقول الله عز وجل ( فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين )
هبوط إلى الأرض ، ولتبدأ الحياة البشرية فور هذا الهبوط على وجه هذه الخليقة ، والحياة التجريبية في الجنة لاتمنع وليس بالضرورة أن تكون مانعاً من الوقوع في الخطأ مرة أخرى ، ولكن لتحاشي وقوع أي خطأ مرة أخرى يقول الله عز وجل ( قلنا اهبطوا منها جميعاً فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون )
وهذا الهدى المنزل من عند الله سبحانه وتعالى كان بمثابة كتاب تعليمات لكيفية وأصول الحياة ، وفيه كل الشروط اللازمة والتعليمات لجميع أنواع صيانة هذه الحياة ، من مراحل قبل وقوع الخطأ أو الانحراف ، وهذا مايطلق عليه ( سد الذرائع ) وإلى مابعد الوقوع في الخطأ ، وذلك من خلال اصلاحه وتعديله وتقويمه بعد تقييمه ، لأن الصيانة هي على العموم إصلاح الخطأ والخلل ، فهي صيانة قبل وقوعه وإصلاح بعده ، ويكون الاصلاح هنا بمعنى تقويم وتهذيب النفوس والقلوب والعقول
ثم توالت تعليمات الصيانة هذه مع كل رسول من رسل الله عز وجل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، إلى البشر والهدف من ذلك هو الحفاظ على إنسانية هذا الإنسان ، والمحافظة على جاهزيته دائماً ليكون منسجماً مع الكون ، ومنسجماً مع كل مخلوقات الله عز وجل ، وذلك في قوله تعالى ( تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلّا يسبح بحمده ولكن لاتفقهون تسبيحهم إنه كان حليماً غفوراً ) ويلخّص ذلك الشاطبي في موافقاته حيث يقول : من أجل أن يكون قصد المكلَّف في التكليف موافقاً لقصد -الله في التشريع .
الفحشاء والمنكر والبغي ، طغيان وتجاوز وخلل وخطأ يرتكبه الإنسان بحق نفسه وحق مجتمعه ، ويؤدي ذلك إلى انتشاء الفساد والرذيلة في الحياة ، وتخريب القيم في المجتمع ، وهذا الفساد يعطّل آلية الحياة ، ويعكّر جوّها العام ، وينحرف بسلوك الأفراد ، ويخرج بهم عن الصراط المستقيم ، يقول الله تعالى ( اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ماتصنعون )
ويقول الله عز وجل ( قالوا ياشعيب أصلاتك تأمرك أن نترك مايعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا مانشاء إنك لأنت الحليم الرشيد ) أليست الصلاة هنا هي الضمان الاكيد ، والصيانة الدورية اللازمة والضرورية لإصلاح الخلل و الخطأ أو الإنحراف الذي قد يؤدي بصاحبه إلى جهنم والعياذ بالله .
وبذلك يقول الله سبحانه وتعالى ( قال ياقوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقاً حسناً وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلّا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلّا بالله عليه توكلت وإليه أنيب )
يعني ذلك إصلاحكم قدر طاقتي واستطاعتي ، وهذه هي مهمة الرسل عليهم الصلاة والسلام . إصلاح الإنسان ، وهذا الإصلاح هو عنوان تكريمه والسمو بشأنه وحفظه من كل سوء أو انحراف أو فساد .
وعليه … فإذا كان عقد النكاح هو عقد من أخطر العقود في الشريعة الاسلامية لأن موضوعه الإنسان ، ومن أجل ذلك تميّز عن غيره من العقود بشروط خاصة ، فكذلك هنا عقد الصيانه ، فأنا أرى أنه أيضاً عقد من أخطر العقود في الشريعة الاسلامية ، وذلك بسبب تعرضه في بعض جوانبه إلى الإنسان ، وخاصة عندما يكون محل عقد الصيانة هو الإنسان سواءً في تطبيبه أو علاجه ومايتبع ذلك من عمليات واشراف ومتابعة وغير ذلك مما يتعلق بالحفاظ على حياته ، ولكن الأخطر من ذلك هو عندما يتعلّق الأمر بمصيره ونهايته …بل حياته الأبدية ؟ وذلك قوله تعالى ( كل نفس ذائقة الموت وإنما توّفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنّة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلّا متاع الغرور )
ومن هنا كان التمايز بين القانون الاسلامي والقانون المدني ، فالقانون الاسلامي يستمد مضمونه من مبدأ يقوم على وجود الله سبحانه وتعالى ، وهو الخالق لكل شيء وهو رب العالمين ، وعلاقة المسلم بالله عز وجل علاقة مخلوق بخالق ، فالسيادة لله ، والمسلمون يطبقون ويلتزمون في حياتهم شريعة الله ويأتمرون بأمره ، ولذلك نجد كل فقرة من فقرات هذا القانون تحمل حتى في جزئياتها ومكوناتها هذا المبدأ .
أما في القانون الرأسمالي فالمبدأ هو : فصل الدين عن الدولة ، وأن السيادة للشعب ، وفي التفاصيل هو الشعب الذي يملك ، فهو يشرّع لنفسه مايناسب مصالحه من القوانين ، وبالتالي فكل فقرة من جزئياته تحمل وتبلور هذا المبدأ .
وكذلك النظام الشيوعي يقوم على مبدأ : لا إله والحياة مادة ، وكل قوانينهم مستمدة من مادية الحياة التي يكيفون سلوكهم حسبما تمليه عليهم هذه المادية من مفاهيم ، وكل فقرة من جزئياته تحمل سمات هذا المبدأ .
وبذلك يكون عقد الصيانة من حيث علاقة الانسان بمصيره ، قد بُحث بحثاً وافياً وكافياً من قبل جميع العلماء والفقهاء والباحثين في الفقه الاسلامي من حيث معناه ، وإن لم يكن من حيث اسمه
إن عقد بيع الطائرات اليوم يشبه إلى حد بعيد عقد بيع الحصان أو الجمل قديماً ؟ وبكل مفاهيم العقد من ايجاب وقبول وأداء الثمن ونقل للملكية ، وكل مايترتب على ذلك من اجراءات ، فعقد البيع بالأمس هو نفسه عقد البيع اليوم بكل شروطه وحالاته ، ولكن هل عملية صيانة الطائرة اليوم تشبه عملية صيانة الحصان ؟ سواء من حيث الكليات أم من حيث الجزئيات وبكل تفاصيلها .
لقد عالج الفقهاء قديماً كل مشكلة وحادثة بشكل مستقل ، واستنبطوا لكل حالة مايناسبها من أحكام ، ولم يخلطوا بين كل حالة وشبيهتها ، ولم يلحقوا عقد بآخر حتى لو كان الشبه بينهما كبيراً ، لأنه في النهاية كل العقود تشبه بعضها البعض من حيث الايجاب والقبول ، وتبادل المصالح المشروعة ، وفي الجملة : كل العقود يشملها عنوان واحد هو : تبادل المصالح المشروعة .
فعقد البيع ظاهراً يشبه عقد الربا من حيث تبادل المصالح ، فهل يكفي هذا التشابه لإلحاق عقد بآخر ؟ أو اسقاط مفهوم عقد على مفهوم عقد آخر مغاير له لمجرد التشابه ؟ ولكن أحل الله البيع الذي فيه تبادل للمصالح المشروعة والعادلة للعاقدين ، وحرّم الربا الذي فيه مصلحة لطرف واحد في العقد ، وهذه المصلحة مبنية على استغلال حاجة الطرف الآخر والإضرار بالمقترض .
يقول الله عز وجل (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلّا مايتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم مايريد )
هذه الآية الكريمة هي أساس شرعية الأنظمة ومشروعية العقود ، وسند الالتزام بمحتوى هذه العقود ، والمخاطبون بذلك هم المؤمنون ، سواء كانوا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أم بعده إلى أن تقوم الساعة ، وكذلك كل العقود ماكان منها وما سينشأ بعد ذلك من عقود مستحدثة حسبما تتطلبه احتياجات الناس في معاملاتهم الى يوم القيامة .

About محمد برازي

الدكتور محمد برازي باحث في العلوم الاسلامية والقانونية من دمشق ، مجاز من كلية الشريعة بجامعة دمشق ، دكتوراة في عقد الصيانة وتكييفه الفقهي والقانوني ، مقيم في ستوكهولم .
This entry was posted in فكر حر. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.