الدكتور محمد برازي
يتميز النظام الإسلامي عن غيره بميزتين هما محور حيويته وتجدده، فهو من جهة مفتوح على معرفة عظمة الخالق سبحانه وتعالى التي لا تحدّ، ومن جهة أخرى فهو حريص على استيعاب كل ما يطرأ من أحداث وأمور مستجدّة للأفراد في المجتمع، وإيجاد الحلول لها بناءً على جملة من القواعد الكلية، والأصول والأحكام الموجودة في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.
فللقرآن الكريم أسلوبه الخاص الذي يميزه عن غيره من الاساليب البشرية في معالجة الأمور الحياتية والتنظيمية حتى السياسية منها فهو لا يتعرض للمسائل العلمية والقانونية بالقواعد المقننة ولا بالمعادلات والمسائل والرموز ، كما أنه لا يسرد التفاصيل الخاصة بكل موضوع سرداً تحليلياً شاملاً، لأنه يخاطب مجتمعات أمية تمرّ بمرحلة بدائية من مراحل نموها العقلي ، ويعالج أموراً وموضوعات حياتية واجتماعية ومحلية ودولية لا حصر لها، ويحتاج تفصيلها وبيانها إلى مجلدات، اضافة الى ذلك فقد رغب القرآن الكريم في أن يحاول البشر بأنفسهم اكتساب العلوم والمعارف واكتشافها بجهودهم الخاصة، حتى يكون لاكتشاف المعرفة والتعلم لذتهما وطعمهما الخاص وحتى تترسخ تلك النتائج في أذهانهم، وتدفعهم إلى طلب المزيد منها، لذلك يقدم القرآن الكريم كل مايتعلق بالمسائل العلمية الدقيقة بعبارات خاطفة تبرق في ذهن القارئ بريقاً يدحض كل نقض لها. وبذلك فإن القرآن الكريم بهذه الطريقة في معالجة المسائل يرشد الإنسان إلى مفاتيحها، ليدفعه إلى دراستها ومحاولة فهمها وتتضح هذه الحقيقة عندما نجد أن القرآن الكريم بدأ أولاً بالحث على القراءة، واكتساب المعرفة والحقائق المجهولة، ثم يشير في أكثر من موضع إلى كثرة الحقائق الكونية التي يزخر بها الكون.
ولاشك في أن القرآن الكريم بهذه الطريقة في معالجة المسائل يوجد للإنسان هدفاً في حياته، لعله ينسى مرارة الفراغ الذي يمكن أن يحيط بدنياه عندما لا يكون هناك أي مجهول يبحث عنه، وعندما تكون جميع الحقائق معلومة ومفصلة تفصيلاً شاملاً.
والرسول محمد rلم يترك للمسلمين فقهاً مقننا مكتوباً ومبوباً، وإنما ترك لهم قواعد كلية للأحكام ولفت نظر الصحابة الكرام وعلمهم كيف يُعملون عقولهم في معرفة علل الأحكام وأسرار التشريع، وعلَّمهم طرق استنباط الأحكام على وجه يحقق العدالة والمصلحة المشروعة للناس.
وعليه فالقانون في النظام الإسلامي هو مجموعة الأحكام والمبادئ والقواعد الفقهية الملزمة والمتعلقة بتنظيم سلوك الأفراد داخل المجتمع المسلم، وهذا القانون واسع في توجهاته ومحيط بدقائق المسائل، ويتصف بالمرونة وعدم الجمود لقيامه على قواعد كلية شاملة، فهو يحمل في طياته جميع سمات النظام القانوني المتكامل لقابليته للتجديد، واستيعاب كل ما يطرأ من أحداث وإيجاد حلول مناسبة لها.
وقد انبثقت من فقه هذا القانون أصول كثيرة، وتفرع عن هذه الأصول فروع ومسائل متعددة، ويمكن تسميتها بالتطبيقات العملية للمشكلات والقضايا الإنسانية، والفقه الإسلامي ليس مجرد نظريات ومواد قانونية مجردة كما هو حال الفقه القانوني المتعارف عليه في مجال القانون المدني، بل إن الفقه الإسلامي حسب تعريف الفقهاء: هو العلم بالأحكام العملية بناء على القوانين التي وضعها الله سبحانه وتعالى للبشر، والتي تغاير القوانين التي وضعها البشر لأنها دائماً هي مثقلة بمثالبهم.
ومن أهم التطبيقات العملية والعقود المعاصرة: عقد الصيانة بسبب وجود الآلات الكثيرة، وظهور المعامل والمصانع الكبيرة، وتوافر خدمات آلية وكهربائية جديدة كالمصاعد والمكيفات والمحركات، وكذلك عالم السيارات والسفن والطائرات الخاصة والعامة التي تتطلب رقابة وصيانة دورية لاسيما قبل تحركها في كل رحلة من رحلاتها عبر البر والبحر والفضاء، حماية لمصلحة الركاب والحمولة المؤمن عليها.
ويتطلب عقد الصيانة بحث الحقوق والالتزامات المترتبة على عاتق كلا الطرفين المتعاقدين، منعاً من نشوء المنازعات، وما تقتضيه من اللجوء إلى المحاكم لفض المشكلات، وإنصاف كل عاقد، وتحقيقاً لمبدأ العدالة والمساواة في الجملة.
وهذا يضطرنا إلى التعرض لموضوع الاجتهاد المتصل بأحكام الفقه الذي يشمل جميع مجالات الحياة، حيث يتسع لكل قضية تجدّ في حياة المسلمين، وتتطلب حلاً يحقق مقاصد الشريعة، والحاجة إلى الاجتهاد قائمة ومستمرة، ومما يجعل الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان.
ولقد كان طلاب العلوم الشرعية، وانطلاقاً من المكتسبات المعرفية والمنهجية التي يحصلون عليها من دراستهم، يتوجهون للبحث في السنن الكونية، ويجتهدون في تطوير المعرفة في التخصصات المعروفة، إلا أن الانفصال بين الدين والعلم في المعرفة الحديثة، أدى إلى جعل البحث العلمي موجهاً بقيم مادية هدفها تحقيق الأرباح بكل الوسائل الممكنة ولو على حساب مقومات الحياة على وجه الأرض والإضرار بها.
وتتحقق مقاصد الاجتهاد إذا تم احترام الضوابط التي تمنع انحراف البحث العلمي عن المسار الذي ارتضاه الله سبحانه وتعالى لعباده، ولابد للمجتهد من معرفة متعمقة بالعلوم الشرعية، وقواعد استنباط الأحكام، واطلاع واسع على مشكلات المجتمع الذي يعيش فيه.
ولذلك يعتبر أستاذنا الدكتور وهبة الزحيلي ـ حفظه الله ـ أن الاجتهاد ضرورة حتمية لضمان خلود الشريعة الإسلامية وإن إغلاقه خطر على الإسلام بقوله:
” لا حياة للمسلمين بدون تجديد، فالفقه الإسلامي ليس كالقوانين الوضعية، فأحكام الفقه هي وحي إلهي، ولكن يجب أن ندرك أن الفقه الإسلامي فيه ما هو ثابت، تعبر عنه الأحكام المعروفة من الدين بالضرورة، والأحكام المنقولة بدليل قوي لا يقبل التأويل أو النسخ أو التعديل، فهذه ليست آراء لنا، ولكنها أحكام شرعية من الله عز وجل، وهذه الثوابت لا يجوز الاقتراب منها، وعلى الجانب الآخر فهناك قضايا تخضع للقاعدة التي سنّها العلماء تحت عنوان: “تتغير الأحكام بتغير ا لأزمان أو الأماكن” وهذه القاعدة تعبر عن تقبل التجديد، ثم إن الحوادث الطارئة أو النوازل الجديدة كلها لم تأت بها أحكام سابقة بسبب تطور الحضارات والنقل البحري والبري والجوي، ومشكلات في كثير من العقود الحديثة التي لم تكن معروفة فيما مضى.
ولهذا فمن الضروري أن يكون هناك تطور في بيان الأحكام الشرعية ليُعرف الحلال من الحرام، بدلاً من أن يضطر الناس إلى أن يصبحوا من الآثمين ، والحمد لله فقد جاء الاجتهاد الجماعي وهناك عدة مجامع فقهية ، وهذه المجامع عالجت بفضل الله تعالى كثيراً من القضايا الطبية والاجتماعية والاقتصادية والإنسانية، والقضايا الشرعية التي فيها اختلاف، وبهذا فإن هذه المجامع الفقهية جدّدت الفقه وحرّكته، وغطت ما يحتاج إليه كثير من الناس في بيان الأحكام الشرعية، ولهذا فأنا أناشد كل من يطالبون بتجديد الفقه أن يؤكدوا على أن يكون ذلك عبر الاجتهاد الجماعي وأن يقوم بذلك العلماء الأعضاء في المجامع الفقهية المعتبرة، حتى لا يختلط الحابل بالنابل في هذا المجال([1]).
وفي عصر تميز عن غيره من العصور السابقة بعامل السرعة، السرعة في النقل والتنقلات، والاتصالات، والصناعة والإنتاج، فلا يكاد يغفو الإنسان حتى يصبح على منتج جديد لا يدري كيف يتعامل معه، ولكن مع مرور الزمن سيجد نفسه مضطراً للتعامل مع هذه المنتجات والآلات، سواء أكان يعتمد عليها في عمله، أم كان منتفعاً بآثارها.
فالثورة الصناعية التي اجتاحت العالم، أغرقته بمنتجاتها، وفرضت عليه وجود الآلة، التي تعتمد في عملها على الطاقة المحركة لها مع تعدد أشكال هذه الطاقة، ومع دخول عامل الإلكترون والكمبيوتر في تحديد وتنظيم عمل هذه الآلات، بل ارتباط أكثر الآلات بالكمبيوتر في تسيير برامجها وعملها، ومجالات عمل الكمبيوتر الواسعة في مجال أعمال الخدمات والإنتاج والصناعة، أصبح من العسير على الفرد أن يقوم بمفرده بما يلزم من أعمال الإدارة وتشغيل هذه الآلات التي يتوقف عليها عمل مصنعه ومعمله، هذا على اعتبار أنه يستطيع أن يتعامل مع هذه الأجهزة الحديثة، أما إن كان لا يستطيع التعامل معها لعدم خبرته بها، فالضرورة هنا أظهر وأشد للاستعانة بعمال وفنيين وخبراء في مجال عمل الآلات.
هذا الواقع فرض على الناس أن يتخصص فريق منهم بالدراسة والتعلم على تشغيل وصيانة هذه الآلات، من أجل استمرار عملها وإنتاجها.
وعقد الصيانة ينصب مباشرة على توفير ما تتطلبه الآلات من خبرات فنية لمتابعة إنتاجها، بل ارتبطت الصيانة ارتباطاً وثيقاً بإنتاج الآلة، حيث سيستبعد صاحب العمل عن مصنعه أو معمله أي آلة لا تتوفر لها الصيانة وقطع الغيار، وأصبحت كلمة (الصيانة وقطع الغيار مؤمّنة) من أفضل عبارات الترويج لبيع الآلة والإقبال عليها.
فقد ظهرت الصيانة كمهنة مستقلة أحياناً، أو تابعة أحياناً أخرى لنفس معمل إنتاج الآلة المراد صيانتها، والتي تحتاج في عملها إلى صيانة دورية ودائمة على مدار الساعة، بعد ما كانت البساطة هي السمة التي ميزت العصور السابقة، وكانت هي العنوان المسيطر على معظم نواحي الحياة.
لهذا كله كان اختياري لموضوع عقد الصيانة وتكييفه الفقهي والقانوني، بصفته عقداً مستحدثاً لم يكن له اسم مستقل في العقود المسمّاة في الفقه الإسلامي كعقد البيع والإجارة وغيرها من العقود، وهذا لا يعني أن الموضوع لم يكن معروفاً، بل كانت أحكامه مبعثرة في ثنايا أكثر العقود التي لها علاقة بالصيانة، وقد تعرض بعض الفقهاء إلى بعض مواضيع الصيانة في بعض العقود، بقدر ما تحتاجه طبيعة تلك العقود من الصيانة، ولكن بطريقة غير مباشرة أو بطريقة تبعية للعقد الأساس.
وكان منهجي في البحث، أن تعرضت إلى الأسس العامة والقواعد الناظمة للعقد بشكل عام، وإلى ضوابط العقد والشروط الملحقة به، من شروط شرعية، أو شروط جعلية، وموافقة هذه الشروط لمقتضى العقد أم لا، ومدى حماية الشارع لمثل هذه العقود، والشروط الملحقة بها، ومدى انسجامها مع القواعد العامة للشريعة، ومقارنتها مع القوانين المدنية، ومن ثم إسقاط هذه القواعد الناظمة للعقود على عقد الصيانة، مع بيان ما يتفق من عقد الصيانة مع قواعد الشريعة، وبيان ما يختلف مع هذه القواعد.
ومن هذه الصعوبات في هذا البحث، أنني لم أعثر في كتب الفقه ولا القانون المدني على نظرية أو صياغة متفق عليها لعقد الصيانة، ولا حتى ذكره بالاسم، وبالتالي لم تتعرض لأركانه وشروطه وصفته وآثاره، وما يترتب عليه من التزامات حسب مجالاته، وغير ذلك من آثار، وربما يعود ذلك لكونه عقد مستحدث، ولكن تعرضوا في ثنايا كتبهم إلى ما ينطبق على عقد الصيانة من أحكام لعقود أخرى مشابهة لعقد الصيانة.