كتبت مؤخراً الناشطة السورية لمى الأتاسي انتقاداً حول سلوكيات شخصيات إسلامية تحتل مكانة مقدسة في مخيلة المسلمين من أمثال خالد بن الوليد وزيد بن حارثة، لتشير إلى الجذور النفسية والفكرية في سلوكيات داعش الحالية، فجاءت الارتكاسات شديدة في أوساط التواصل الاجتماعي، ومنابر الاعلام العربية.
لم كل هذا الصخب والارتكاس العاطفي العنيف؟
من حق لمى الأتاسي أن تتدفق في ذهنها تساؤلات عندما تدخل إلى أدبيات التراث، ومن حقها أن تُصدم، ومن حقها أن تعبر عن صدمتها تجاه ما سجله التاريخ. لكن الطريقة التي واجه بها الجمهور صدمتها الثقافية والفكرية وآلامها، أظهر تماماً الخواء الفكري والافلاس الأخلاقي عند كثير ممن أراد أن يدافع عن الإسلام.
شعوبنا غُيبت وهُمشت بشكل ممنهج ومتواصل عبر عقود طويلة، فصار من السهل أن ينتهك “الحريص” حدودا اسلامية مثل حد قذف النساء والتشهير بهن، في مقابل الحفاظ على تصورات ظنية الدلالة، قد يكون شابها الكثير من الخطأ عبر مراحل التسجيل والتوثيق.
عندما كنت صغيرة كان المفكر الإسلامي جودت سعيد يحذرني من الاقتراب من كتب التراث. كان يقول: “اقرئي القرآن واقرئي السيرة ولكن ركزي على قراءة التاريخ والفلسفة وما حدث من خطوات في رحلة العلوم البشرية، وتغير المفاهيم السياسية وتطور العلوم الإنسانية”.
كان يحذرنا دائماً من خطورة التوغل في التراث بدون أدوات وقائية ونقدية رصينة. كان يقول: “التراث أرض ملغومة إذا دخلها الشباب بدون أدوات جيدة ستنفجر بهم”.
بدأت لاحقاً بقراءة الطبري وابن كثير والبخاري بشكل جاد، وقرأت الكتّاب الأكثر معاصرة مثل سيد قطب. واجهت أشياء يشيب لها الولدان. كنت أصاب بصدمات ثقافية ونفسية، لأني كنت فعلاً كمن يدخل في حقول ملغومة، في تراكمات جيولوجية ضخمة تتطلب تفكيكات دقيقة وأدوات قادرة على فصل الغث من الثمين. لدينا تراث هائل لم يصلنا منه إلا الجزء اليسير. أُغرقت وحرقت وهدمت مكتبات ومؤسسات علمية عبر القرون، والذي في أيدينا جزء صغير مما نقحه المحققون وتم نشره.
أنتجت الحضارة الإسلامية المخطوطات العلمية والأدبية والدينية. وهي دليل غنى ثقافي وغزارة فكرية علمية. لكن المشكلة أنه بدل أن يلهمنا أجدادنا في هوسهم العلمي وغزارة إنتاجهم، صرنا مثل الحفيد المثقل بمقتنيات جده. لقد تحول تراثنا إلى سجن كبيرمحاط بالقضبان. ونفتقد الأدوات الرئيسية في تحرير هذه السجون التراثية. إن تضاريسها متعددة الأوجه، وهي تنفجر بالإسلاميين والعلمانيين على حد سواء. القراءة السطحية للتراث تقدم لكل منهما وجهة نظر ما. ينفر العلماني من لحظات سوداوية يدمغ بها الإسلام، ليقول: “هذا هو الإسلام فاجتنبوه”. في نفس الوقت يرى الإسلامي التراث حقائق تاريخية يرغب في استعادتها وإحيائها من جديد. فيقول “هذا هو الإسلام فالتزموه”. وهنا تكمن الإشكالات الرئيسة في التعامل مع التراث.
أولا، إن تراث أي حضارة قد سجلته أيدٍ كثيرة وفي ظروف متداخلة ومتعددة. والتراث الإسلامي كُتب معظمه ـ بما فيه كتب الحديث ـ بعد مائتي عام من موت الرسول (ص) بعد أن رجع المسلمون إلى الاحتكام إلى السيف بدلاً من العقل. أي إن معظم تاريخنا قد سُجل تحت سقف “النظام” القديم، ولونت فيه الطبقات الحاكمة والمستفيدة الحبر الذي استعمله المؤرخون والرواة لخدمة مصالح معينة (غالباً بلا وعي)، حيث تم معاقبة وتهميش من يتخطى مصالحها وتقديم العطايا والمنح والجاه لمن يخدمها. وهذا يعني أننا نحتاج لأدوات كثيرة للقيام بقراءات متواصلة نقدية لتفكيك السياق التاريخي وتقصي المصالح السياسية والأيدلوجية التي صقلت معظم نصوصنا.
ثانيا، حتى لو استطعنا توثيق أشياء تم حدوثها وغلبّناها على الظن، فإن أي سلوكيات صدرت فيما سبق ليست ملزمة ولا معيبة لنا. فكل مجتمعات الجنس البشري حافلة بلحظات قاتمة ولحظات مضيئة. ولذا مسؤوليتنا تكمن في إعادة تشكيل علاقة جديدة بالتراث نصبح فيها قادرين على إخراجه من التقديس والوثنية وانتقاده بحيادية من حيث صحته ومن حيث صوابه الأخلاقي.
تراثنا يحوى ما يشفي وما يعيق، ما يشفي من أفكار حررت العقول وأنتجت مناهج علمية رصينة وما يعيق من ممارسات ظلامية لخلافة ادعت الوصاية فقمعت الأفكار ومزقت الأجساد. ما نحتاجه حقا في هذه الفترة هو أن نأخذ بأيدي بعضنا لتكريس أرضية علمية جديدة في طرح حواراتنا ومشاريعنا الفكرية، وأن يتحول خلافنا إلى نقاش رصين بأدوات علمية تتحرى الحق والصواب من أجل خدمة رحلتنا الإنسانية نحو العدالة والعودة إلى مسيرة العلوم والقيم الإنسانية. وعلينا أيضا أن نقوم بمساءلة دائمة لأنفسنا عن نوايانا ورغباتنا. فالدماء التي تسيل في المنطقة والشباب الذي تصهره بوتقة التطرف يستدعي كل طاقاتنا للعمل على خلق أرضية جديدة بعيدة عن المصالح لا إكراه فيها ولا تعصب إلا للعقل والحق والعدالة.