بدءاً من 24 حزيران لعام 1993 و على مدار أكثر من شهر ضجت وسائط الإعلام العالمية، من صحف و إذاعات وتلفزيونات، بخبر علمي متميز و هو نجاح عالم الرياضيات الإنجليزي، المقيم حالياً في الولايات المتحدة الأميركية، أندرو وايلز Andrew Wiles
(المولود عام 1953) في إثبات نظرية فرمات الأخيرة
Fermat’s last theorem.
تنبع أهمية الخبر من حقيقة أن معظم عباقرة الرياضيات في العالم و خلال ثلاثمائة و ثمانية و خمسين عاماً حاولوا، دون جدوى، إثبات (برهان) هذه النظرية التي طرحها العبقري الفرنسي الشهير بيير فرمات (1601-1665)
Pierre Fermat
و التي لم يقدم لها البرهان. سنتعرف في هذه المقالة على دور ابن العالم فرمات في تقديم نظريات أبيه للعالم.
بعد وفاة عالم الرياضيات اليوناني الشهير فيثاغورث (495 قبل الميلاد) احترقت مدرسته التي أنشأها في مدينة كروتون
Croton
الواقعة جنوب إيطاليا فانتقل النشاط الرياضياتي إلى مدينة الإسكندرية. أسس الاسكندر الأكبر عام 332 قبل الميلاد مدينة الإسكندرية لتكون عاصمة لإمبراطوريته. وفي عهد أخيه (غير الشقيق) تولمي
Ptolemy
أصبحت الإسكندرية رحماً لأول جامعة في التاريخ. وكان أهم ما يميز تلك الجامعة مكتبتها الغنية التي وصل عدد ما احتوته من كتب إلى 600 ألف كتاب والتي احترقت عدة مرات فيما بعد. لقد درس في هذه الجامعة مشاهير العلماء مثل إقليدس
Euclid
صاحب خوارزمية اقليدس الشهيرة في إيجاد القاسم المشترك الأعظم لعددين ومؤلف الكتاب الشهير “العناصر”
Elements
الذي يعتبر أنجح كتاب مرجعي في التاريخ.
أما عالم الرياضيات الذي عشق نظرية الأعداد ورسخها في كتاب مستقل فهو ديوفانتيس الإسكندراني
Diophantus of Alexandria
الذي يعتبر آخر أبطال الرياضيات الإغريق (المصريين)، الذي عاش في القرن الثالث قبل الميلاد. ألف ديوفانتيس كتاباً شاملاً أسماه الحساب
Arithmetica
احتوى أعماله وأعمال ما قبله من علماء. كان كتابه مؤلفاً من ثلاثة عشر جزءاً، نجى منها ستة أجزاء فقط من حريق الإسكندرية ومن عصر الظلمات لتصل إلى علماء عصر النهضة أمثال بيير فرمات.
عاشت أوربا الألف الأول من التقويم الميلادي في الظلام ولولا العرب والهنود لاندثرت العلوم عامة والرياضيات بشكل خاص. لقد ترجم العرب أعمال الإغريق وطوروها مقدمين إسهامات رياضية متقدمة على يد رواد العلم أمثال الخوارزمي والكرجي. وكان قمة إبداعهم استخدام الرقم “صفر” الذي رسخ مفهوم التعداد المنازلي (مواقعي)
positional
مما سهل العمليات الحسابية التي كانت في منتهى الصعوبة باستخدام التعداد الروماني. كما أن للصفر دوراً أساسياً آخر في تمثيل مفهوم القيمة الخالية والمجموعة الخالية. انتقل مفهوم الصفر من الأندلس إلى فرنسا من خلال القس الفرنسي غربرت الأوريلاكي
Gerbert of Aurillac ،
الذي انتخب عام 999 رئيساً للكنيسة باسم البابا سيلفستر الثاني
Silvister II ،
مما أتاح له تشجيع استخدام وتعداد واعتماد التعداد العربي.
اقتنى فرمات كتاب الحساب لمؤلفه ديافونتس والمترجم إلى اللاتينية وكتب على هوامشه الواسعة نظرياته وأفكاره الرياضياتية. وهذا ما كان السبب الرئيسي في إبراز نظرية فرمات الأخيرة إلى الوجود والتي يعتقد أنه قد طرحها عام 1637 تقريباً.
ولد بيير فرمات عام 1601في مدينة
Beaumont-de-Lomagne
جنوب غرب فرنسا وكان والده تاجر جلود ثري مما أتاح له فرصة التعلم في دير الفرنسيسكان ثم قضى وقتاً محدوداً في جامعة تولوز. ولا يوجد ما يشير إلى عبقريته في الرياضيات آنذاك. وبضغط من أسرته توجه للعمل كموظف حكومي حيث عين عام 1631 بمرتبةٍ رفيعة في مدينة تولوز وكان صلة الوصل بين الملك وسكان تلك المدينة كما شغل منصب القاضي في تلك المدينة. كان فرمات يقضي أوقات فراغه في دراسة كتاب الحساب لديافونتس والذي كان يحوي الكثير من الأحجيات العددية مثل:
يستطيع تاجر ذكي بواسطة ميزان ذو كفتين وأربع وزنات حاصل جمعها 40 كغ، أن يزن جميع الأوزان الواقعة بين 1 كغ و40 كغ، (ولا يتعامل مع كسور الكيلو). فما هي هذه الوزنات؟
كان فرمات يعمل بصمتٍ، كهاوٍ، وكان قليل التواصل (المراسلة) مع علماء الرياضيات الآخرين. بيد أن ما تبين من إنتاجه الضخم فيما بعد، دعا علماء الرياضيات إلى إطلاق لقب “أمير الهواة” عليه. قد يكون سبب عمله الصامت هو أن القرن السابع عشر كان يحمل في طياته تبعات عصر الظلمات التي تمثلت في اضطهاد العلماء. تراسل فرمات علمياً فقط مع مرسني Mersenne
ومع باسكال
Pascal
وتعتبر مراسلاته مع باسكال أساس نظرية الاحتمالات
Probability theory
بيد أن عشقه الرئيسي كان نظرية الأعداد
Number theory ،
وهذا ما دفعه إلى الالتصاق طوال حياته بكتاب الحساب لديافونتيس. كانت طبعة هذا الكتاب التي استعملها فرمات، واسعة الهوامش. استخدم فرمات هذه الهوامش لكتابة تعقيباته وشروحاته ونظرياته بما فيها نظرية فرمات الأخيرة التي قال عنها بأن حجم الهوامش لا يتسع لكتابة البرهان . وبعد موت فرمات قام ابنه بنشر كتاب الحساب بطبعة خاصة بحيث تحوي كل صفحة عمودين: الأول لديافونتيس والثاني لكتابات وشروحات والده. وبذا فتح الباب أمام علماء الرياضيات لدراسة أعمال فرمات بما فيها نظريته الأخيرة وإثبات نظرياته التي لم يقدم لها البرهان. يعود سبب تسمية هذه النظرية بالنظرية الأخيرة إلى أن علماء الرياضيات استطاعوا إثبات كل نظريات فرمات الواردة في هوامش الكتاب عدا هذه النظرية التي استماتوا في محاولات إثباتها بصيغتها العامة دون جدوى، والتي حملت لقب “أكثر المسائل الرياضية تحديا”ً إلى أن أثبتها وايلز عام 1993 (بمساعدة دكتور آخر كان طالبه). يذكر هنا أن أويلر
Euler (1707-1783)
أحرز تقدماً ضئيلاً حيث استطاع إثبات حالة خاصة منها من أجل
3 = n .
كما كان هنالك حالات تقدم خاصة أخرى.
يذكر أن برهان نظرية فرمات الأخيرة طوله مئتي صفحة. وبالتالي هل كان تخمين فوريه لسهولة البرهان خاطئاً أم أن هنالك برهان قصير لم يكتشف بعد؟
من الممكن تخصيص أكثر من مقالة مستقلة عن الاكتشافات والإسهامات التي قدمها فرمات لنظرية الأعداد، والتي تعتبر حالياً الأداة الأساسية لتسريع الخوارزميات، بيد أننا لن نتحدث عنها في هذه المقالة.
أرفق بهذه المقالة خمس صور:
• الأولى للصفحة الواجهة من كتاب ديوفانتيس الاسكندراني.
• الثانية للصفحة الواجهة من كتاب ابن فرمات ذو العمودين.
• الثالثة لصفحة داخلية من كتاب ابن فرمات ذو العمودين، الأول لمواد كتاب ديوفانتيس، والثاني للمواد التي خطها فرمات على هوامش ديوفانتيس.
• الرابعة للعبقري الأول بيير فرمات.
• الخامسة للعبقري الثاني أندرو وايلز.
أدعو إلى العمل على إصدار موسوعة حلب الموسعة على شكل عمودين: اليميني لمواد موسوعة الأسدي واليساري للإضافات التي برزت في مجال التراث اللامادي الحلبي منذ صدور موسوعة الأسدي وحتى الآن.
أعتقد أن حلب ستتربع على عرش التراث اللامادي العالمي عندما تصدر مثل هذه الموسوعة الموسعة.
المراجع
1- S. Singh, ”Fermat’s Last Theorem”, Fourth Estate, London, 1997
2- D. Burton, “Elementary Number Theory”, Allyn & Bacon, 1980