إنّ فهم العالم النوراني يتطلّب من الداخل الجديد في العقيدة النصيرية-العلوية أن يدرس لفترة طويلة مايسمىّ بعلم التوحيد، حيث أنّ التوحيد مفهوم أساسي ومحوري في العقيدة النصيرية-العلوية.
إنّ مفهوم اللاهوت النصيري ما هو إلا انعكاس لصورة الفكر الأفلاطوني المحدَث. وذات الأمر يندرج على اللاهوت الإسماعيلي، الذي يقوم أيضاً على أساس الفلسفة الأفلاطونية المحدَثة. الإله هنا إله مجرّد إلى أبعد حد، صدرت/فاضت عنه كافة المخلوقات كما يشعّ النور من قرص الشمس. وتمّ تمثيل هذه الفيوضات كسلسلة من التدرّجات للكائنات المخلوقة، من الأسمى والأرفع إلى الأدنى والأنقص. وكلّما ابتعد المخلوق عن مصدر الخَلق/الخالق، أي الرب أو الله كما في العقيدة النصيرية، ازدادا نقصاناً. وحتى ضمن العالم النوراني هناك تراتبية هيراركية، حسب ترتيب الخَلق.
عُرّف اللاهوت في المصادر النصيرية-العلوية “بالأنزع البَطين”، ويعني المجرّد واللامحدود والمبهم، لايحصره فهم ولا يحدّه عدد[ ]. غالباً ما يشار إليه “بالغيب”[ ]. لذا نلاحظ أنّ النصيريين-العلويين يستخدمون أوصافاً سالبة للاهوت[ ] لتحديد طبيعته: بلا شكل، بلا حَدّ، لا يحدّه شيء، غير مخلوق أو متجسّد، ولا يطاله التغيّر والصيرورة، ولا يصيب النقصان طبيعته النورانية الصرفة، لذا جميع ظهوراته بذاته (بجوهره)[ ].
وقد تمّ شرح طبيعة اللاهوت المجرّدة هذه بالتفصيل في كتاب المفضّل بن عمر “كتاب الأسوس” و”كتاب الصراط”، وفي كتاب ابنه محمد “كتاب آداب الدين” المفقود[ ]. وغالباً ما يستشهد النصيريون-العلويون _في خضمّ مناقشاتهم لطبيعة اللاهوت_ بكتاب محمد بن سنان “كتاب التوحيد” وكتاب ابن نصير “المثال والصورة”. هذا التنزيه[ ] المفرط للخالق من كافة الصفات والنعوت دليل على سعي النصيريين-العلويين الدؤوب لبلوغ أعلى درجات التوحيد. بأيّة حال، تتضمّن الكتابات الباطنية للفرقة أيضاًعلى صفات موجبة للاهوت، مؤكّدةً على وحدانيته، وأنّه الإله الواحد الأحد، القدير، ورب العالمين وخالق الكون[ ]. إنه الكيان الأسمى في هذا الكون، “العلي الأعلى”[ ]، وهذه العبارة تتضمّن اسم “علي”، وهو نفسه الظهور أو التجلي الأسمى للألوهية.
تبنّى النصيريون-العلويون تفسيراً أفلاطونياً محدثاً نمطياً للخالق الذي لم يُخلَق، ومن هنا جاء تشبيه الخالق بقرص الشمس يشعّ نوراً لانهائياً دون أن ينقص شيء من ذاته. إنّ مفهوم الخالق المشعّ الذي يفيض عنه الكون كله من نور ذاته يظهر في “رسالة المفضّل بن عمر” ويتكرّر لاحقاً بكثرة في جميع المصادر النصيرية[ ]. كما أنّ الصفات والنعوت المنسوبة للاهوت تمّ التعبير عنها بالتفصيل في أدب “الخطبة” الذي كان منتشراً بكثرة بين أوساط الدوائر الصوفية الشيعية للغلاة. وطبقاً لما جاء في هذا الأدب، ظهر اللاهوت بذاته للبشر عن طريق إعلان فضائله.
1) الثالوث المقدس
يقوم مفهوم الألوهية لدى النصيريين-العلويين على مبدأ الفيض
Emanation.
بما أنّ الفيوضات الأولى التي فاضت عن الخالق كانت قريبة من مصدر الخلق، كانت من أسمى المخلوقات الروحانية وأقواها حيث أوكِلَت إليها مهمة إلهية تتمثّل في خلق كيانات أخرى، وبذلك تحافظ على استمرارية سلسلة الفيوضات، كما أوُكِلَت إليها مهمة اختبار إيمان المخلوقات، والكشف عن أجزاء من أسرار اللاهوت، وحجب أو إخفاء أجزاء أخرى. الفيضين الأول والثاني اللذان فاضا عن اللاهوت لم يكونا بكمال مصدر الخلق، لكنّهما كانا محتفظين بنقائهما ومجرّدين بما يكفي لاعتبارهما عنصرين أساسيين من اللاهوت نفسه. أمّا الفيوضات التي فاضت عنهما فكانت أكثر بعداً عن مصدر الخلق، لكنّها كانت محتفظة بقدراتها الخَلقية التي انتقلت إليها من مصدر الخلق عبر النور الإلهي، لكنّها كانت أدنى من الفيوضات/الأقانيم الثلاث السابقة لها.
بما أنّ المصادر الباطنية الغنوصية التي احتفظت بها الفرقة من فترات سابقة _أي ما قبل المصادر النصيرية_ لم تتحدّث عن ثالوث من أي نوع، يمكننا الافتراض أنّ هذا المذهب قد تأسّس لأول مرة على يد الفرقة النصيرية. المصادر الأقدم التي حفظتها الفرقة، والتي وضعها غُلاة من القرنين الثامن والتاسع، لاتتحدّث سوى عن وجهين أو عنصرين فقط: الإله المجرّد المفارق، والفيض الأول الذي فاض عنه من نور ذاته، وهو مفهوم مزدوج معروف أيضاً لدى الإسماعيلية. الأول هو “الصامت”، والآخر هو “الناطق”، وهو ممثّله ووجهه الظاهري[ ]. أمّا النصيريون-العلويون فقد أضافوا عنصراً ثالثاً إلى هذين العنصرين للاهوت، هذا العنصر هو “الباب”. هذه الإضافة للعنصر الثالث كانت بمثابة ردّ فعل تجاه رفض الإسماعيلية وإنكارهم للدور الباطني الذي يلعبه الباب عند الشيعة الإمامية، وهذه عملية تاريخية تحتاج إلى المزيد من التفسير.
استُخدِم مصطلح “الباب” في المذهب الشيعي لوصف أقرب التلاميذ للإمام، كالمفضّل بن عمر وأبو الخطّاب. بعضهم أصبح قادة أفذاذ لجماعات شيعية، حيث زعموا أنّهم الأفضل والأحق في تفسير كلمات الأئمة وتعاليمهم. لم يتمّ الاعتراف بشرعيتهم من قبل الغالبية الشيعية، لكنّ رسائلهم جرى حفظها وتدوينها داخل الحلقات الباطنية للغلاة. بقي الأئمّة صامتون حول حقيقة رسالة أبوابهم ومضمونها، حتى أنّهم في بعض الحالات قاموا بعزلهم وإقصائهم عَلَناً، هذا إذا ما قبلنا بصحّة روايات وأخبار مؤرّخي الفِرَق والمذاهب الإماميين ومصداقيتها.
بعد غيبة الإمام الثاني عشر والأخير، والتي طلق عليها اسم “الغيبة الصغرى”، ما بين الأعوام 260هـ/874م و329هـ/941م، نشب خلاف بين السفراء الجدد (أو وكلاء الأئمّة)، كلُ واحدٍ منهم يزعم أنّه الممثل الشرعي الحقيقي للإمام الغائب وبابه. كان الرعيل الأول من السفراء يمثّلون التيار المعتدل وسمّوا أنفسهم “شيعة الظاهر”، أمّا الرعيل الثاني فلُقّبوا “بشيعة الباطن”. وفي خضمّ هذا الصراع المتأجّج، خرجت فرقة منتصرة تتزعّمها طبقة “الوكلاء”، وهم مثّلون قانونيون وماليون للإمامين الأخيرين، آل العَمْري وآل نَوبَخت[ ]. ثم قاموا بطرد وعزل جميع الأبواب الذين اعتُبِروا “مغالين” وأتباعهم. كان طردهم هذا جزء من رفض شعبي عام لحركة المفوّضة وعقيدتهم في “التفويض” _أي أنّ الإمام يتمتّع بقوى وصلاحيات إلهية وكّله بها الله_ وانتصار المقصّرة (أو الشيعة المعتدلون)[ ]. من الآن فصاعداً، أصبح نسب القدرات والصلاحيات الإلهية للأئمّة وأبوابهم مقتصراً على تفسير القرآن ومضمار تأويله. وفي حال غياب الإمام، لم يكن هناك أي مجال للخلافات الداخلية، والزعامة الإمامية كانت الزعامة الشرعية الوحيدة التي تعترف بها الشيعة، وقد حافظت السلطات البويهية على هذا الدور وصانته. باختصار، على المستوى السياسي حلّ السفير محلّ الباب، أمّا على المستوى الديني فقد أمسك “العلماء” بزمام السلطة في المجتمع الشيعي ورفضوا “العارفين”، وبهذا انتصر المقصّرة على المفوّضة.
كان محمد بن نصير أحد أواخر العارفين الذين زعموا أنّهم أبواب، ولهذا تمّ عزله من قبل السفير الإمامي. وتمّ إصدار الحكم على حلقته الصوفية بالهرطقة والزندقة. ردّ الفعل تجاه الفرقة النميرية/ النَميرية، التي كانت استمراراً للتراث البابي، كان رفضاً لشرعية السفراء الإماميين وإعلان الأبواب الإثنا عشر للأئمة الإثني عشر أنّهم “أبواب الله”. طبعاً يظهر ابن نصير في كتابات الفرقة على أنّه “باب الله ووليّ المؤمنين”. وحتى في كتاب “الهداية الكبرى” الإمامي، يؤكّد الخصيبي أنّ ابن نصير هو باب الإمام الحسن العسكري، وتلك وجهة نظر مرفوضة لدى الشيعة[ ]. وبما أنّ الأئمّة الإثنا عشر قد جرى تصويرهم في الأدب النصيري-العلوي على أنهم تجلّي للإله الواحد، فقد تمّ رفع مرتبة الأبواب المصطفين الإثنا عشر إلى مرتبة الألوهية. لم ينكر النصيريون-العلويون رتبة السفير، لكنهم أعلنوا أنّ ابن نصير هو سفيرهم الخاص ونسبوا إليه كافة صفات الباب. كان “السفير” عند النصيريين-العلويين أكثر من مجرّد كونه وسيط إمامي [بشري] بين المجتمع الشيعي والإمام البشري الذي اختفى أو غاب. بل كان وسيطاً بين الموحّدين والإمام ذو الطبيعة الإلهية[ ].
إنّ إضافة أقنوم ثالث للاهوت قد تكون له علاقة أيضاً بالبعد الاجتماعي-الجغرافي. مع أنّنا لا نستطيع الحديث عن ثنوية أو ثالوث ضمن إطار العقيدة النصيرية-العلوية التوحيدية، فهذا الانتقال من أقنومين إلى ثلاثة أقانيم رئيسية يعكس لنا النتائج المترتّبة عن انتقال الفرقة من وسط عراقي-فارسي إلى وسط سوري-مسيحي. بمعنى آخر، لايمكننا استبعاد احتمال أن تكون عملية تطور الطبيعة الثنوية للاهوت إلى ثالوث مقدّي نتيجة هجرة الفرقة من العراق إلى سوريا: من منطقة واقعة تحت تأثير الفكر الزرادشتي إلى منطقة أخرى تسودها الديانة المسيحية داخل العالم الإسلامي.
الفصول الثلاث الأولى من كتاب “مجموع الأعياد”، وهو كتاب هام جداً ومفصلي في تعليم الديانة النصيرية وخطوات الدخول وإقامة طقوسها وصلواتها ومناسباتها، تساعدنا على فهم العملية اللاهوتية التي جرى خلالها صياغة الثالوث النصيري-العلوي. حسب ما قاله الأذني، سورة الأول [أو الترابية كما تسمى في الدستور النصيري-العلوي]، والمنسوبة للخصيبي نفسه، لا تذكر سوى المعنى عليّ. في حين أنّ السورة الثانية، واسمها تقديسة ابن الوليّ، والمنسوبة للجلي، تتحدّث عن المعنى والاسم. أمّا السورة الثالثة المُسَمّاة بتقديسة أبي سعيد، والمنسوبة للطبراني، فتذكر الأقانيم الثلاثة: المعنى، الاسم، الباب[ ]. هذا البنية الغريبة للسور الثلاث الأولى من “كتاب المجموع” [أو مايسمّى بالدستور عند النصيريين] تشير إلى وجود مفهوم واضح للثالوث المقدّس في زمن الطبراني _وعدم وجوده كاملاً قبله_ الذي عاش في منطقة واقعة تحت تأثير الديانة المسيحية.
يبدو أنّ المصطلحات والتعابير المستخدمة في تعريف عناصر الثالوث المقدّس مستوحاة من عقائد جماعات وفرق شيعية كانت موجودة سابقاً وتدين بمذهب العناصر الثلاثة في اللاهوت الغنوصي الشيعي: العين، والميم، والسين، وكل عنصر من هذه العناصر يمثّل شخصاً مقدّساً: علي، ومحمد، وسلمان. المصدر الرئيسي الذي يشير إلى وجود مثل هذه الفرق كتاب صوفي بعنوان “كتاب الماجِد” لجابر بن حيّان الفيلسوف والعالم الكيميائي الشيعي[ ]. لقد طوّر ماسينيون نظرية مثيرة للاهتمام تقول بوجود ثلاث جماعات أو فرق بالكوفة، كل فرقة من هذه الفرق كانت تعتنق وتروّج لأقنوم واحد من هذه الأقانيم الثلاثة: العينية، الميمية، والسينية[ ]. ولم تحدث أيّ عملية جمع لهذه العناصر الثلاثة قبل القرن العاشر. في ضوء هذه النظرية، تبدو فرضية ماتّي موسى حول “ثالوث الغلاة” مشوبة بخطأ تاريخي في غير وقته الصحيح بما أنّنا لا نجد أي أثر “للثالوث” قبل ظهور الفرقة النصيرية-العلوية، حتى أنّه لم يسمى “ثالوثاً” عند الفرقة قبل القرن الثاني عشر[ ].
من هنا، تمّت صياغة الثالوث المقدّس [النصيري] (وليس الثالوث المقدس المسيحي) من داخل المذهب النصيري-العلوي. وتسمّي المصادر النصيرية، وبدون استثناء، العناصر الثلاثة للاهوت: المعنى، والاسم/الحجاب، والباب:
1) المعنى: وهو “ذات” اللاهوت، ومصدر جميع الفيوضات. إنّه الجزء الأكثر تجريداً في الثالوث، ويحتلّ أسمى وأرفع مرتبة لدرجة أنّه من المستحيل تحديد طبيعته وحصرها. وقد تمّ شرح سموّه وعلوّه من خلال حقيقة أنّه الكيان الوحيد الذي لم يُخلَق. أمّا العنصرين الآخرين، فيُعتقد أنّهما أزليان سرمديان كمصدرهما، لكنّهما مخلوقان من نور ذات المصدر[ ].
2) الاسم: وهو أوّل كيان صدر/فاض عن اللاهوت/المعنى. اخترعه المعنى من نور ذاته. مهمّته الأولى كانت تنحصر في إضفاء تعريف للخالق يُعرَف من خلاله. وسُمّي أيضاً “حجاباً” بسبب دوره الثاني، وهو حجب الخالق والحفاظ على أسراره. وتمّت إضافة هذه المهمّة للاسم من أجل معاقبة المخلوقات الأدنى مرتبة بعد أن ارتكبوا معصيتهم الأولى في العالم النوراني. الاسم مستقل لكنه غير منفصل عن المعنى. وحسب المذهب النصيري-العلوي القائم على أساس الفلسفة الأفلاطونية المحدثة، يصدر الاسم عن المعنى كما يشعّ شعاع الشمس عن القرص. وبهذا التفسير التبريري، يأمل النصيريون-العلويون الحؤول دون الوقوع في فخّ الشرك، أو القول بالثنوية الإلهية[ ].
3) الباب: وهو الموجود الثاني الذي فاض عن المعنى، بعد الاسم، خُلِقَ من نور اللاهوت الذي فاض (تسلسل) من الاسم، ولهذا السبب يسمّى الباب “سَلْسَل” أيضاً[ ]. إنّه الجانب الظاهر للاهوت ولذلك يسمّى “باباً” حيث أنّه المدخل الذي يربط بين اللاهوت والعارف. فعن طريق الباب يحصّل العارفون معارفهم الغنوصية. ومهمّة هذا الجزء من اللاهوت غير واضحة في نصوص الغلاة ما قبل النصيرية. على سبيل المثال، في الرسالة المفضّلية، لا يظهر الباب كوجه ثالث للاهوت، بل “كأعلى المراتب”، مراتب المخلوقات النورانية الدنيا[ ]. يرد في كتاب الصراط أنّ الباب هو أعلى المراتب التي يمكن للعارف الغنوصي الوصول إليها، فالباب سبيل لمعرفة اللاهوت، لكنّه ليس جزءاً من اللاهوت نفسه، وهو الأمر الذي يتعذّر عليه الوصول إليه[ ].
2) العلاقة بين المعنى والاسم
معظم الكتابات النصيرية-العلوية تعالج طبيعة العلاقة بين الأقانيم الثلاثة للثالوث المقدس. ويظهر اسم أبو الخطّاب والمفضّل بن عمر في الكتابات النصيرية كأقدم عارفين غنوصيين زعما أنّ الاسم مخلوق/مُخْتَرَع من نور المعنى[ ]. وأكثر مسألة جرت مناقشتها بخصوص طبيعة اللاهوت هي العلاقة بين المعنى والاسم. الأول هو العنصر السالب الذي يحفّز العنصر الثاني الذي هو وجهه الظاهري النشط! هذين الأقنومين يمكن مقارنتها “بالصامت والناطق”، أو “الناطق والنطق”. في بعض الحالات، يمكن تشبيه العلاقة بين العنصرين الأولين المقدّسين “بالحركة والسكون”[ ]. وقد جرى تفسيرهما، كما في العقيدة الإسماعيلية، بأنّهما الحرفين من كلمة الكَون (الكاف والنون= كُنْ)، الواردة ثمان مرّات بالقرآن في سياق فعل الخلق الإلهي[ ]. بعض المصادر تتحدّث عن الفيوضات على أنّها أعداد. ووفق هذا المبدأ، عند بداية الزمن، خَلَقَ “الأحد” (الفرد) “الوحيد” (الواحد)[ ]. بأيّة حال، من الصعب فهم واستيعاب كيف يمكن لجوهر سالب غير فعّال أن يخلق أي شيء أو يفعل شيئاً.
كرّس الجلّي رسالته، “الفتق والرتق”، من أجل تفسير هذه العملية. فيقول أنها كانت نتيجة نمط دائم ومستمر من الفتق والرتق [التفكيك والبناء، الفصل والوصل، القطع والجمع] لجزيئات النور التي تشعّ عن مصدر الخلق[ ]. النور القدسي الإلهي الذي يشعّ سَلسَلاً ويربط ما بين عناصر اللاهوت يضمن انتقال بعض القدرات والإمكانيات الإلهية[ ]. يقول الخصيبي مفسّراً أنّ هذا الانتقال للقدرات الإلهية يتمّ عن طريق “الوحي” الذي ينتقل من المعنى إلى الاسم[ ]. وحسب التراث النصيري-العلوي، كلّما خُلِق عنصر من عناصر اللاهوت، أعلن شهادته مقرّاً بأنه صدر عن الإله الواحد الأحد [العَليّ الأعلى]، وكنتيجة لذلك لزمت عليه طاعته[ ].
3) إضافة العنصر الثالث للاهوت
تمّ تفسير عملية خلق العنصر الثالث للاهوت، أو الباب، في اللاهوت النصيري-العلوي كنتيجة لعطف الله وشفقته ونعمته. فقد كانت هناك حاجة لخلق عنصر أدنى للاهوت، حيث أنه كان مثالياً ومتعالياً، وكان المعنى يظهر في صورة حجابه، لذا كان من السهل الوقوع في الخلط والزلل بينه وبين الفيوضات الأدنى، وكان يستحيل على العقل البشري فهم ذلك واستيعابه. فالباب هو الوسيط بين اللاهوت وخَلْقِهِ. وعن طريقه فقط يمكن للعارف المتصوّف معرفة الله وعبادته[ ]. هذا المذهب له علاقة باعتبار ابن نصير كآخر باب للاهوت.
4) الاسم والباب
العلاقة بين الاسم والباب جزء مهم من القضايا اللاهوتية التي ناقشتها الفرقة، ومع أنه يعتبر موضوعاً ثانوياً عندما يتعلق الأمر بالعلاقة بين المعنى والاسم. الباب هو الوجه أو العنصر الظاهري للاسم ومشيئته[ ]. ويحدّد الطبراني هذين العنصرين مستعيناً بمصطلحات وتعابير يهودية، الاسم والباب هما: “أدوناي أصباؤوت” (بالعبرية: أدوناي تزيفاؤوت)، أي: الله وجحافله[ ]. مصادر نصيرية أخرى تستخدم مصطلحات وتعابير مأخوذة من الديانة المسيحية تمّ امتصاصها واستيعابها لاحقاً داخل اللاهوت الإسلامي. يُعَرّف الباب في هذه النصوص بأنّه “الروح القُدُس” أو “الروح الأمين”، وهو الملاك المسؤول عن نقل الوحي في القرآن[ ]. وكما يمكن للمعنى الظهور بالحجاب، يمكن للاسم الظهور بصورة الباب. كنّا قد نوّهنا في الفصل الأول أنّ ابن نصير كان يعتبر تشخيصاً للاسم والباب معاً. وهذا الظهور للاهوت في عنصر أدنى منه تمّت مناقشته خلال الفقرة التالية.
5) ظهور الثالوث حسب مبدأ السياقة
إنّ عملية انتقال كلّ واحدٍ من العناصر الثلاث للاهوت من الأسمى إلى الأدنى جاء شرحها في كتاب الخصيبي “سياقة الظهورات”. فحسب مذهب السياقة (أو الانتقال/النقلة) ظهر الثالوث عبر التاريخ البشري في نظام دوري تبادلت فيه عناصر اللاهوت الأدوار وفق نمط ثابت: ظهر المعنى في صورة اسمه/حجابه، وظهر الاسم/الحجاب في صورة الباب. لكنّ الانتقال لايسير بالاتجاه المعاكس، على أساس المنطق القائل أنّ الكائن القدسي لايمكنه الظهور في صورة كيان إلهي أسمى منه. لذلك، وعلى سبيل المثال، لا يمكن للباب أن يظهر في صورة الاسم أو المعنى، لكنه قد يظهر في صور فيوضات أدنى منه مرتبة. يمكن للاسم أن يظهر في صورة الباب، لكن لا يمكنه الظهور في المعنى[ ]. ويحدّد الخصيبي نوعين من الظهورات للثالوث: ظهور إفراج، ويعني ظهور المعنى في صورة الحجاب، حيث حُجِبَت صورة الله بالظهور في صورة الاسم، لكن بدون الامتزاج معه، حيث يبقى الإله مفارقاً دوماً والكائن الأسمى على الإطلاق. وظهور مِزاج، حيث يظهر الاسم في صورة الباب عن طريق الامتزاج معه. وتمّت مناقشة مذهب السياقة بالتفصيل من ناحية ارتباطه بتجسّد الإله وتجلّيه عبر التاريخ البشري[ ].
6) المعنى الباطني لآية النور
إنّ مسألة ظهور المعنى وتجلّيه لمخلوقاته مسألة صعبة ومعقدة في المذهب النصيري-العلوي. كيف يمكن لأسمى عنصر في اللاهوت أنّ يتواصل مع خلقه؟ لقد تمّ تفسيرهذه الظاهرة من قبل المتصوّف الكوفي أبو جعفر محمد بن سنان [توفي سنة 220هـ/835م]، وكان معاصرأ للمفضّل بن عمر[ ]. في رسالته “الأنوار والحُجُب” و”الحُجُب والأنوار” يفسّر بأنّ المعنى يظهر لمخلوقاته عن طريق تغليف نفسه بالحجاب. هذا الظهور والتجلّي يشبه إلى حدٍ بعيد الروح عندما تتحدّث عن طريق الجسد، لذا فإنّ ذلك العنصر من اللاهوت المحتجب بالحجاب يسمى بـ”الروح اللاهوتية”[ ]. ويُعَرّف هذا التجلّي بأنه “غلافٌ في جوف غلاف”[ ] كما جرى تفسيره أيضاً في أغلب الكتابات النصيرية-العلوية بآية النور كما جاءت في القرآن[ ] التي تصف اللاهوت كنور داخل أنوار: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [سورة النور 42: 35]
هذه الآية مهمة للغاية من أجل فهم مسألة ظهور الله وتجلّيه في المذهب النصيري-العلوي. ينقل المفضّل بن عمر، في رسالته المفضّلية، كلام الإمام جعفر الصادق، الذي قدّم تأويلاً مجازياً لهذه الآية. فهو يقول مفسّراً أنّ المشكاة هي الصورة المرئية الأنزعية للاهوت، والمصباح موجود داخل نوره الأزلي. هذا النور يتكوّن من ثلاث طبقات: النور، والضياء، والظل. فالنور هو الذات النيّرة للاهوت محتجبة بالضياء، والنور الذي يشعّ عنها. هاتين الطبقتين محتجبتان بالظل. وهذه الطبقات الثلاث لاتتغير من الأزل إلى الأبد، وتعتبر بأنها ذات/جوهر المعنى. العنصر الظاهري للاهوت هو نوع من الظهور/التجلي الذي يغيّر طبيعته عندما يظهر/يتجلّى المعنى في أشكال وصور مختلفة، ومع ذلك، حتى هذا العنصر الظاهري لاهو بشري ولا مادي[ ].
وقد تبنّى النصيريون هذا التفسير، من رسالة المفضّل بن عمر “المفضّلية”، وجرى تكراره في أي موضع تمّت فيه مناقشه طبيعة اللاهوت[ ]. هذا التفسير المجازي لآية النور يقودنا لنتيجة حتمية أنّ الإله المفارق الأنزع البطين سيتجلّى لفيوضاته النورانية الأدنى مرتبةً منه ولمخلوقاته من البشر على هيئة وهم. وسنناقش مفهوم “الوهم” في مقالة لاحقة.
ملاحظة: هذا المقال جزء من كتاب يجري العمل عليه حالياً لنشره بعنوان “العقيدة النصيرية العلوية”، تأليف يارون فريدمان، ترجمة إبراهيم قيس جركس.
غالبية المصادر المذكورة في هذا المقال مأخوذة من “سلسلة التراث العلوي”، تحقيق أبو موسى والشيخ موسى، لبنان، ديار عقل، 2006
مواضيع ذات صلة: الفيلم الوثائقي: حديث العلويين