نُعاني نحن المسلمين في الحقبة المعاصرة من مشكلة ذات ثلاث شُعَب: شعبة التشدد والتطرف، التي وصلت إلى حدود الانشقاق بحيث صار الصراع داخليا، أي بداخل الإسلام نفسِه. وهكذا يكون على كلّ منا وهو يجاهد نفسه من أجل السكينة في أُسْرته ومجتمعه ودولته، أن يمتحن دخيلته وأفكاره وتصرفاته كلّ يومٍ، وهو يشهد عصائب التطرف باسم الدين تتحدى أولَ ما تتحدّى ما يعرفه وتربّى عليه دينا وأخلاقا وجماعة وإجماعات. والشعبة الثانية شعبة الفتنة. وهي آتية هذه المرة أيضا من داخل الدين. ففي الوقت الذي يهجُمُ عليه المتشددون والمتطرفون بحجة أنهم يعرفون من الدين ما لا نعرف، يقول لنا الإيرانيون وأعوانهم إنهم إنما يهجمون علينا لأننا مكفّرة ولأننا نتجاهل حقوق أهل البيت ومزاراتهم. ثم نجدهم لا يكافحون المتطرفين معنا، بل يعملون على شرذمة المجتمعات والدول باسم حقوق المذهب والطائفة. والشعبة الثالثة هي الشعبة الدولية أو العالمية، وهي التي أفادت من ذاك التطرف واستعملته في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، ثم ها هي الآن وقد استعصى عليها المتطرفون هؤلاء تستعين عليهم تارة بأهل الفتنة، وطورا بأهل الاستبداد والطغيان.
لقد تشابكت هذه الظواهر المهولة واشتبكت بين أظهُرنا ومن فوقنا ومن تحتنا في العقد الأخير، بحيث صار الدين ذاتُهُ في خطر، وصارت أمتُنا في خطر. وأمام تكاتف الأخطار التي تخطف الأبصار والبصائر، نقف نحن العرب وسط الأهوال، وقد فقدنا خلال أقلّ من خمس سنواتٍ نصف المليون قتيل، وعشرات الملايين من المصابين والمهجّرين، وهذا إلى خراب العمران، وانتشار الفوضى الضخمة في كل مكان! لقد بدأت حركات التغيير قبل أربع سنواتٍ في عدة دولٍ عربية في مواجهة الطغيان والاستبداد والتدخلات الدولية والإيرانية والإسرائيلية، وقد صارت اليومَ من الماضي، وسط هذه الأهوال ذات الشُّعَب الثلاث. بل إنّ المشكلة الأبرز الآن هي انفجار الإسلام بأيدينا بين التطرف والاعتدال، وبين التسنن والتشيع، وبين الانكماش باسم الدين، ومواجهة العالم باسم الدين أيضا.
إلى أين نتجه لصَون الدين والأمة، وما هي المسؤوليات، وكيف تتوزع؟ هناك مسؤوليات سياسية واستراتيجية بالطبع، وأخرى وطنية ومحلية، وثالثة عربية – عربية، وإسلامية – إسلامية. لكننا لو نظرنا في طبيعة المشكلات من الوجهة الدينية، فينبغي أن يكونَ همّنا نحن أهل العلم والدين، ورجالات المؤسّسات أن نتجه في زمن الفتنة والمحنة هذا إلى الأَولوية التي لا أَولوية تُدانيها في الأهمية وهي صَون الدين في أزمنة المحنة والفتنة والفوضى المهولة. لقد كانت مهمات المؤسسات الدينية دائما أربعة أمور: العبادات واستقامتها ووحدتها حفظا للإسلام ووحدة جماعته، والتعليم الديني الذي يربّي على الدين والأخلاق وفقه العيش، والفتوى المستنيرة والرشيدة التي توجّهُ الأفراد والجماعات، وفي الظروف العادية، وأزمنة النوازل والمتغيّرات. وأُضيفت للمهمات الثلاث في زمن وسائل الاتصال مسائل الإرشاد العام وسط المشاريع المتكاثرة للتفكير والعيش وقد صرنا جزءا من المجتمع العالمي، أو صارت أجيالُنا الشابّة كذلك.
إنّ الواقع الآن أنّ انفلاتا شاملا قد حصل، وقد سميتُهُ انفجارا للدين بأيدي السلطات والعلماء والمجتمعات والدول. ومن مظاهر ذلك الانفلات أنّ الفهم للعبادات ووحدتها ما عاد واحدا، وأنّ آلافا من شبابنا يتجهون لاعتناق التطرف، وينقلبون على جماعة المسلمين في عباداتهم وأعرافهم وتقاليدهم، وأنه بالإضافة لذلك؛ أو استغلالا لذلك فإنّ هناك جهاتٍ ذكرناها توقد فتنة شيعية – سنية في قلب الإسلام، وعرض خدماتها على الدوليين لمكافحة التكفيريين والإرهابيين. وبالطبع لا تتحمل المؤسساتُ الدينية وحدها المسؤولية عن الذي حصل ويحصل؛ وبخاصة أنّ الجهات الفاعلة معروفة بالمباشر. إنما بصراحة فإنّ الهشاشة البادية في التربية الدينية مسؤولة أيضا عن التطرف، والهشاشة البادية في الثقافة الدينية هي التي تُعيدُ الاعتبار لمصطلحاتٍ مثل النواصب والروافض. والهشاشة البادية في ممارسة الإرشاد العامّ، هي المسؤولة أساسا عن هذه الرؤية المنحرفة للعالم وقسمته إلى فسطاطين. والهشاشة البادية في معرفة التجربة التاريخية للأمة في إدارة الشأن العام هي المسؤولة عن الاستعادة الحرفية لشؤونٍ مثل الخلافة والإمامة والولاية، باعتبار ذلك كلّه من أركان الدين!
هناك تاريخٌ طويلٌ يزيد على نصف القرن، حفل بعملياتٍ تأويلية وانتقائية وعشوائية في تحويل المفاهيم. وقد شارك في ذلك العلماء وشارك المثقفون المتأسلمون، وشارك السياسيون الباحثون عن الشعبية لدى العامة والغوغاء. وتصدرت عمليات التحويل تلك مسألة الشرعية، والقول إنها لا تُستعادُ إلا باستعادة الخلافة، أو تطبيق الشريعة أو أسلمة الدولة والمجتمع من جديد. لكأنما ما كنا مسلمين منذ توارى السلطان عبد الحميد، ولا كنا نؤدي شعائرنا ولا نقوم على أركان ديننا وفرائضه بعد ذهاب العثمانيين. وهذه الأمور كلّها أخطاء وخطايا تتجاوزُ الأفهام والأحلامَ، وتتجاوزُ ما كانت عليه عقائد جماعة المسلمين وأفكارهم وعباداتهم وأخلاقهم وفقههم للعيش. والذي حصل في أوساط علمائنا نحن أهل السنة حصل مثله عند الشيعة. فالإمامة من أركان الدين عندهم، لكنّ الإمامَ غائبٌ ومنتظر، والعلماء هم حراس هذه الغيبة وهذا الانتظار. بيد أنّ التحويلَ الذي حصل عند أهل السنة على أيدي الإخوان والمؤسلمين، حصل عندهم بالحضور المفاجئ لسلطة الإمام، وولاية الفقيه الكاملة والحاضرة باسمه. ثم ها هي الإمامة الحاضرة هذه تشنّ حربا طائفية على العرب لخلق مناطق النفوذ باسم مراقد أهل البيت، والآن باسم مكافحة التكفير لهم، ولو بالتحالُف مع كلّ الآخرين ضدهم!
ولنَعُدْ إلى أصل المشكلة. قال الملك عبد الله بن عبد العزيز للعلماء إنه لا يجوز السكوتُ عن التطرف الديني. وقد صار هذا التطرف انشقاقا كما نعلم، بدليل أنّ المسلمين السنة هم أكثر ضحاياه. وهذا فضلا عن تسويد وجه الإسلام في العالم، وانطلاق القوى الدولية إلى جانب داعش و«القاعدة» والمتطرفين الآخرين، وإيران وإسرائيل، والطُّغاة في سوريا، لانتهاك الديار العربية والإسلامية، وقتل الناس، وتخريب العُمران. وفي ضوء المهامّ التي ذكرناها للمؤسسات الدينية، وضرورات صَون الدين والأمة من الأخطار المُحْدِقة، يكونُ علينا بالفعل النهوض بثلاث مهام: تجديد الدعوة لوحدة الديـن واعتـداله وفقهه السمْـح للعيش مع العالم وفيه – والدعوة بالكتابة ومن على المنابر وفي التعليم لمكافحة التطرف والعنف باسم الدين – ونقد عمليات تحويل المفاهيم والتحريفات التي لا تعرفها نصوصُنا ولا تعرفُها جماعة المسلمين في تجربتها القديمة أو المعاصرة.
قال عمر بن الخطاب: لا دين إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمارة، ولا إمارة إلا بطاعة. فلنكافح عن ديننا بصونه عن تحريفات الغالين، وتأويلات المبطلين: «وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ».
نقلا عن الشرق الاوسط