مدخل
خبر الموسم وشغل الناس الشاغل مؤخرا في العالم العربي: الامبراطور ترامب يعلن عن صفقة القرن. العنوان يبدو مثيرا وملهما للخيال ولنظريات المؤامرات، خصوصا أن هذه الصفقة تأتي من الامبراطور ترامب الذي قلب الاستراتيجيات الأمريكية، ويتلاعب بالعالم ذات اليمين وذات الشمال بتصريحاته وقراراته المتناقضة أحيانا، والصادمة أحيانا أكثر. فهل صفقة القرن هي فعلا كذلك، أم أنها مجرد استعادة لفيلم الأكشن الأمريكي “صفقة القرن” المنتج في ثمانينات القرن الماضي؟
نشر وقيل الكثير عن صفقة ترامب، أفضل تسميتها كذلك بدلا من اسمها الإعلامي الذي يشوّش المتلقي، ما بين تسريبات وأخبار رسمية وتوقعات ومبالغات. بتجميع غالبية ما قيل ومحاولة إيجاد خيط واصل بينهم، يمكننا الركون إلى حقيقة أن ترامب وصهره المدلل كوشنير يملكان اقتراح خطة لفرضه على الفلسطينيين والعرب، في سبيل تحقيق ما يسميانه سلاما واستقرارا في المنطقة.
ما هي صفقة ترامب؟
حسبما هو منشور يمكن القول إن الصفقة تعتمد على النقاط الأساسية التالية[1]:
أولا: منظور يستند على حل الدولتين. وبالتالي ترسيخ الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية، والتفاوض حول إعلان الدولة الفلسطينية. وبالتالي إخراج فكرة الدولة الواحدة لليهود والفلسطينيين من التداول.
ثانيا: تحرك إسرائيل عسكريا للاستيلاء على القدس الشرقية وحدود غور الأردن الغربية، أي عزل الضفة الغربية عن الأردن تماما، بدعم كامل من ترامب، ونُقل إن هذا التحرك سيكون خلال الشهور القادمة.
ثالثا: استبدال مطلب الفلسطينيين بالقدس الشرقية كعاصمة لهم، بجعل قرية أبو ديس قرب القدس عاصمة لهم.
رابعا: ضم كافة مناطق الاستيطان الإسرائيلية في الضفة الغربية إلى إسرائيل رسميا، وتشمل 200 مستوطنة يعيش بها حوالي نصف مليون مستوطن. أي بقاء السلطة الفلسطينية قائمة فوق المنطقتين
A وB،
وهي كما هو معروف عبارة عن بقع متناثرة فوق الضفة الغربية مفصولة عن بعضها بأراض تحت السيطرة الإسرائيلية، وتشكل عمليا حوالي 40% من مساحة الضفة الغربية3.
خامسا: معالجة ملف اللاجئين الفلسطينيين باستقلال كامل عن بقية المواضيع، على أساس تخلي الفلسطينيين عن حق العودة، والعمل مع الدول المضيفة لهم لإيجاد حلول مناسبة، حسب رؤية ترامب.
سادسا: علاقة السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية بغزة وحماس غير واضحة حسبما هو ثابت من تسريبات، لكن يبدو أن صفقة ترامب تريد إبقاء كل الاحتمالات مفتوحة: فصل غزة عن الضفة الغربية إداريا مع تبعية سياسية، أو فصل إداري وسياسي كامل. المؤكد أن ترامب لا يمانع ممر آمن بين الضفة الغربية وغزة، لكن تحت سيطرة إسرائيلية كاملة لا علاقة للفلسطينيين بها.
سابعا: ليس للفلسطينيين حق تأسيس أي تشكيل عسكري فلسطيني، بل لهم حق تشكيل قوى أمنية وشرطة فلسطينية قوية ومجهزة.
إذا عمليا نحن أمام طرح يريد وضع كل الملفات المؤجلة معا على الطاولة، ليس للتفاوض بالمعنى الحقيقي لكلمة تفاوض، لأن أساس هذا الطرح يقوم على مبدأ “الأمر الواقع”. فمع استيلاء إسرائيل على القدس الشرقية وحدود غور الأردن، حسبما قيل، بالإضافة لوجود المستوطنات، وفرض التخلي عن حق العودة للفلسطينيين؛ فلا شيء بالواقع تبقى للفلسطينيين لإبداء الرأي به حسب الطريقة الترامبية.
الموقف العربي
بعيدا عن مناحات السب والشتم للأنظمة العربية، وإطلاق تهم الخيانة والعمالة، لا تفاضلا بين النظم العربية الحاكمة كلها من حيث استغلالها لمأساة الفلسطينيين، خاصة ونحن نرى كيف استغلت مأساة السوريين خلال السنين الماضية.
حسبما هو مُسرّب فإن لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، أو كما يسميه الأميركيون
MBS
وفق العادة الأمريكية في الاختصار، مع صديقه الحميم كوشنير الفضل الأكبر في تسويق صفقة “الأخ الأكبر
Big Brother[2]
ترامب”؛ كذلك فالظاهر أن الموضوع قيد التداول بين ولي العهد السعودي وأمراء الإمارات العربية المتحدة والرئاسة المصرية والملك الأردني، بالإضافة للقادة الفلسطينيين[3].
الجامع بين هذه الزعامات العربية هو التوافق على تناول صفقة ترامب بجدية وقبول مبدئي، لكن ربما يكون هذا التوافق هو من باب الانحناء أمام ما يبدو كعاصفة ترامبية تجتاح العالم، خاصة عند زعماء الأردن ومصر والفلسطينيين، فالصفقة كما يبدو قد أشبعت توافقا مع ولي العهد السعودي. بل إن صحيفة هآرتز الإسرائيلية تنقل عن مصدر عربي حول خلاف بين ولي العهد وأبيه الملك سلمان، حول موضوع فصل غزة عن الضفة بشكل كامل، وموضوع القدس الشرقية.
الملك الأردني يجلس في أصعب المقاعد حول طاولة صفقة ترامب لأسباب معروفة، فهو يتزعم بلد يعتمد تاريخيا من الناحية الاقتصادية والسياسية والعسكرية على الولايات المتحدة الأمريكية والغرب ودول الخليج العربي؛ وهو وبالكاد يستطيع الحفاظ على استقرار بلده في وسط نيران الحرب مشتعلة في سورية والعراق في شماله وشرقه؛ كما أن الملك ما زال متمسكا بموقع المشرف المعنوي على القدس الشرقية والمقدسات الإسلامية فيها؛ فأي تصرف غير محسوب سيضع الأردن وسلطته في وجه المدفع. وقد أثبتت الوقائع أن ترامب وإدارته لا كلمة ولا وعد لهم في كثير من الملفات الدولية الأكثر أهمية من دولة صغيرة مثل الأردن، فكيف يمكن للملك المخاطرة في الانخراط الكامل في خطة، تركوا له بها أضعف الأوراق، وبنفس الوقت هو مطالب بتحمل غالبية النتائج السلبية لها؟ مبدئيا حسب الظاهر اختارت القيادة الأردنية السير قدما مع الصفقة، وبنفس الوقت تحاول الاحتفاظ ببعض خيوط العودة والتراجع ريثما يتضح الخيط الأبيض من الأسود.
موقع الرئاسة المصرية أقل حرجا من الأردن، فالمطلوب منهم هو التعامل مع حماس وغزة، وبهذه هم أصحاب خبرة طويلة، ويملكون من الأوراق الكثير للتعامل مع فلسطينيي غزة. كما أن ما هو مطروح حول إنشاء مشروع استثماري ضخم على حدود غزة في الأراضي المصرية، يمكن تسويقه ضمن الفعل الإنساني لتحسين الحال الاقتصادي لغزة. المشروع المطروح هو منطقة تجارة حرة في منطقة العريش المصرية، يتضمن عدة مشاريع صناعية ضخمة، لكن بإشراف مصري كامل حسب الشرط الإسرائيلي، حيث سيتم ضمان أن يكون ثلثي العمال من غزة وثلث من مصر. ما يُشاع عن نقل غزة بسكانها إلى سيناء هو محض خيال منبثق من منهجية نظرية المؤامرة، ولا يوجد له مبرر موضوعي أو حتى فرصة نجاح، لا فلسطينيا ولا مصريا.
الزعامات الفلسطينية لم تغادر أسلوب عملها المعتاد منذ عقود، فهم شكليا على الأقل، يرفضون أساسيات الصفقة وخاصة إلغاء حق العودة، والتخلي عن القدس الشرقية، والاكتفاء بالمنطقة
A وB
ضمن الضفة الغربية، والانفصال عن غزة. لكن هل يستطيعون فعلا الرفض؟ لا يبدو أنهم يملكون أية أوراق سوى انتظار ما سيأتي خاصة من طرف الدول العربية.
قام الطرح الترامبي على فرض أن يكون تمويل الصفقة كاملا من قبل دول الخليج العربي بمن فيهم قطر، هنا فقط كان لقادات السعودية والإمارات العربية موقفا قاطعا أمام ترامب: لا نريد قطر في هذه اللعبة، نحن نتكفل بكل شيء وسنبدأ بمليار دولار لتمويل مشروع غزة الاقتصادي.
الموقف الإسرائيلي
السلطة الإسرائيلية بقيادة نتنياهو سعيدة بالصفقة والضجة حولها، وهي ستلعب اللعبة إلى الآخر، فلن تخسر شيئا بالمحصلة، بل قد تربح الكثير، ليس فقط الإعلان الرسمي عالميا عن أن إسرائيل هي دولة اليهود، وترسيخ الفصل بين الضفة وغزة؛ بل أيضا هذه الصفقة تعتبر هروبا للأمام من قبل الحكومة أمام كل المصاعب والتهم الموجهة لها داخليا. لكنها بالتأكيد لن تغامر بسهولة في التحرك العسكري لضم القدس الشرقية والسيطرة على حدود وادي الغور الغربية، قبل أن يتضح إلى أي مدي سيستطيع ترامب وصهره كوشنير المضي قدما[4].
الموقف التركي والإيراني
تمارس القيادتان التركية والإيرانية سياسة الانتظار والمراقبة، حتى يروا إلى أي مدى سيتقدم ترامب في صفقته. طبعا النظام الإيراني في وضع أكثر حرجا وخطورة، لذلك هو يتمسك بسياسة ضبط النفس والابتعاد حتى عن التصريحات النارية المعتادة، فانسحاب ترامب من اتفاقية الإطار النووي مع إيران، والهجوم العسكري الإسرائيلي المتكرر على مواقع إيرانية في سورية، أعاد تغليب سياسة الترقب والحركة البطيئة المدروسة إيرانيا، كي لا ينجر النظام الإيراني لأي ورطة غير محسوبة.
الموقف الدولي
لا يوجد موقف دولي رسمي من صفقة ترامب، لأن الإدارة الأمريكية لم تعلنها رسميا بتفاصيلها، فلا يمكن للدول الأوروبية وروسيا، الأكثر تأثيرا في المنطقة بعد الولايات المتحدة، إعلان موقف رسمي بناءً على طرح ضبابي غير واضح.
لكن يُشاع أن قمة ترامب وبوتين القادمة ستتناول هذا الموضوع، وأن ترامب سيطلب من بوتين دعما كاملا للصفقة، وخاصة من ناحية الضغط على إيران لإبعادها عن الموضوع وعن حماس وغزة. لكن هل لروسيا مصلحة حقيقية في تحمل أعباء هذا الدعم وهي تحاول التأسيس لاستمرار وجودها في سورية؟ قد يكون الثمن المطلوب هو دعم أمريكي أقوى لخطة روسيا في سورية، والتي قامت منذ 8 سنين على هدف واحد: بقاء النظام السوري حاكما لسورية كلها، مع بعض التعديلات في بنية هذا النظام لذر الرماد في العيون، وأن يبقى هذا النظام حليفا أساسيا لإيران.
بوتين يدرك تماما أن ترامب ليس رجل الصفقات الكبرى، ولا الالتزامات الضخمة التي تتطلبها هذه الصفقة، لكن بوتين لن يفقد فرصة الاستفادة من ضم إسرائيل رسميا لكل الأراضي التي بها مستوطنات في الضفة الغربية بحكم “الأمر الواقع”، لأن ذلك سيلغي حجة الأمريكيين والغرب في رفضهم لاحتلال وضم جزيرة القرم من قبل الروس، فضمها لروسيا هو أيضا قائم بحكم الأمر الواقع.
لم تتم استشارة الأوروبيين في الصفقة أساسا، وعلى ما يبدو أن ترامب ماض في سياسة إهمال أهم حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية وهم الأوروبيون. بكل الأحوال لا يوجد مواقف معلنة رسمية، وإن كان من المرجح أن تقدم المملكة المتحدة دعمها للصفقة، كما هي عادتها في اتباع خطوط السياسة الأمريكية، خاصة مع رئيسة وزرائها الحالية اليمينية المتشددة، والتي تبحث عن بديل اقتصادي للاتحاد الأوروبي الذي غادرته. لا يوجد مصلحة حقيقية لبقية الأوروبيين وخاصة ألمانيا وفرنسا في تبني مواقف ترامب على عواهنها، لكنهم بكل الأحوال لن يعارضوا وسينتظرون مراقبين كما هي عادتهم. ولا يبدو أن ألمانيا تعلمت من درس سورية، يوم وقفوا مراقبين وتركوا الساحة للإدارة الأمريكية والفرنسية والبريطانية، فتحملت بالنتيجة ألمانيا نتائج سياستهم، التي تمحورت حول إدارة الأزمة.
هل ستنجح صفقة ترامب؟
لا يوجد أي مؤشر واقعي وموضوعي يدل على أن هذه الصفقة قابلة للحياة مهما أشيع عنها، فهي لن تتجاوز فتح مسلسل تفاوض قصير، لأن ترامب نفسه ذو نفس قصير ولا يستطيع المضي في ألعاب المفاوضات السياسية طويلا.
من المؤكد أن الولايات المتحدة الأمريكية هي أقوى وأغنى دولة في العالم، وهي تملك أوراقا كثيرة تستخدمها في مختلف القضايا حول العالم، لكن المؤكد أيضا أن ترامب ليس الرئيس الذي يتقن إدارة الصفقات الكبرى، ولا السياسي المحنك الذي يتقن حلّ المشاكل المعقدة، كما أثبت هو نفسه خلال سنتين من حكمه[5]. كما أن الإدارة الأمريكية لا تستطيع فرض صفقة مثل هذه دون، على الأقل، دعم واضح قوي وجاد من قبل حلفائها الأوروبيين ومن قبل روسيا، وهذا غير متوفر لإدارة ترامب. فجميع حكومات العالم التي تملك نظرة استراتيجية تتعامل مع ترامب من باب درء شروره والتخفيف من سلبيات قراراته، على أمل تغيير ما في البيت الأبيض في نهاية العام مع انتخابات الكونغرس القادمة، أو بعد عامين مع الانتخابات الرئاسية الأمريكية. فحتى ديكتاتور كوريا الشمالية لم يأخذ ترامب على محمل الجد، وعاد بعد قمة سنغافورة لتحسين منشآته النووية.
وكما رأينا من الناحية العربية والفلسطينية، فما زال الزعماء العرب يحكمون بعقلية شيخ القبيلة الذي لا يرى من العالم سوى سلطته في بلده، ولا يملك أن يغامر ويرسم سياسة استراتيجية تليق بدول القرن الواحد والعشرين[6].
الناحية الأهم في هذه التقييمات، والتي ربما يراها البعض مثاليات مكررة، هو الشعب الفلسطيني نفسه، هذا الشعب لا يمكن أن يرمي 70 سنة من الألم والمعاناة والتضحيات خلف ظهره، للقبول بصفقة وقحة مثل هذه الصفقة. قد لا يمكننا الكلام باسم شعب كامل، لكن في مثل هذه القضايا والمآسي هذا قانون بشري ثابت، خاصة يوم يكون مقدمو الصفقة ممثلين برداءة من هم على السطح الآن، من الجانب الأمريكي والعربي والفلسطيني. من الممكن أن يتم خداع الشعوب، هذا حصل تاريخيا في كثير من المفاصل الكبرى، ومنها المأساة الفلسطينية، لكن بعد كل هذا الزمن تمرير هذه الصفقة بحاجة لممثلين أكثر إقناعا وشعبية.
إن صفقة ترامب، المسماة صفقة القرن، لن تغادر فيلم الإثارة الأمريكي المعتاد، الكثير من الإثارة والأكشن، والكثير من حكايات الاجتماعات والمؤامرات السرية في غرف مظلمة، لكنها لن تصل لنهاية “سعيدة” كما هي حال الأفلام السينمائية، وتنجح بفرض نفسها على الواقع.
بعض الكوميديا السوداء حول صفقة ترامب
قال صائب عريقات في معرض تعليقه على صفقة ترامب: “إن هدف الصفقة هو تنحية السلطة الفلسطينية واستبدال الرئيس محمود عباس”3.
نقلت الميادين عن طلال العتريسي، وهو كما عرفته باحث سياسي، أن هدف الصفقة هو “إلغاء الدور الاستراتيجي لسورية، فماذا يبقى للروس في سورية”[7].
لعل الأقدار لا تريدنا أن ننسى ما حصل بعد هزيمة حزيران 1967، عندما اعتبرت قيادات مصر وسورية، أنهم لم ينهزموا لأن “القيادتين الحكيمتين” بقيتا في مكانهما؛ وعندما سجد الشيخ متولي الشعراوي سجدة شكر لأن “الاشتراكيين والشيوعيين” لم ينتصروا على إسرائيل.
بيت السلام السوري