صراع حضارات..؟! 2

وفاء سلطان

هل هناك فرق بين التشجيع والتحريض؟!!
هل هناك فرق بين الحوار والقتال؟!!
الإنسان ناتج تربوي. فهل يختلف الإنسان الذي ينتج عن تربية حرضته على القتال عن الإنسان الذي ينتج عن تربية شجعته على الحوار؟!!
من فيهما الأكثر عرضة للفقر والمرض والظلم؟!! من فيهما الأكثر قدرة على النجاح والإنتاج والإبداع والعطاء؟!!
قد تتلاقى الكلمتان، تحريض وتشجيع، مع بعضها البعض من خلال تعريف القاموس اللغوي لهما، لكنّهما تتباعدان في ميدان الاستعمال والتطبيق، وبالتالي تختلفان في وقعهما على النفس البشريّة.
ما الفرق بين أن تقول: شجّع ابنك على الدراسة، وبين أن تقول: حرّض ابنك على الدراسة؟!!
لا شكّ بأنّك ستلاحظ أنّ العبارة الاولى تؤدي الغرض المطلوب بطريقة أفضل، علما بأن حرّض وشجّع قد يعطيان نفس المعنى أي “حث”!
ما الفرق بين أن تقول: حرضّ فلان فلانا على الجريمة، وبين أن تقول: شجّع فلان فلانا على الجريمة؟!!
لا شكّ بأنك ستلاحظ بأنّ العبارة الأولى تؤدي الغرض المطلوب بطريقة أفضل علما بأن حرض وشجّع قد يعطيان نفس المعنى أي “حثّ”.
نميل لأن نقول: حرّض على القتال أكثر ممّا نميل لأن نقول: شجع على القتال!
ونميل لأن نقول: شجّع على الحوار أكثرممّا نميل لأن نقول: حرّض على الحوار!
إذاً وقع الكلمة في النفس يختلف بين “حرض” وبين “شجّع”!
عندما تسمع كلمة حرض يخطر ببالك أنّ شيئا سلبيّا سيأتي بعدها، وعندما تسمع كلمة شجّع يخطر ببالك على الفور بأن شيئا إيجابيا سيأتي بعدها.
كلا الكلمتين تعنيان “الحث”، ولكن يتراءى للسامع بأن التشجيع يحُث على شيء إيجابي والتحريض يحّث على شيء سلبيّ.
للغة السلبّية آثار سلبيّة حتى عندما تستخدم لغرض ايجابي، وللغة الإيجابيّة آثار إجابيّة حتى عندما تستخدم لغرض سلبيّ.
لو قال محمد: شجّع على القتال. لكان تأثير عبارته أقل سلبا رغم أنّ الهدف كان برمّته سلبيّا.
ولو قلنا حرّض على الدراسة، لكان تأثير قولنا أقلّ إيجابية، رغم أنّ الهدف كان برمّته إيجابيّا.
هذا من ناحية تأثير الطريقة التي تحثّ بها على الهدف، ما بالك بالأثر الذي يتركه الهدف نفسه من حيث كونه سلبيّا او إيجابيا!
*************
هذا من الناحية اللغويّة، فما بالك من الناحية النفسيّة والجسديّة؟!
عندما يحرّض الانسان على القتال تختلف ردّة فعله النفسي وبالتالي الجسدي عن ردّة فعله عندما يشجّع على الحوار.
الإنسان مجهّز بجهاز عصبي مسؤول عن فعله وعن ردّه لفعل ما.
أقول هنا: فعل وردّ فعل. دعني أضرب مثلا:
ارتضمت يدك صدفة بسطح ساخن. تقوم على الفور، وبدون تفكير، بسحب يدك.
الفعل الذي قمت به هو عبارة عن ردّ فعل للاحساس بالألم الناجم عن السخونة.
كيف يردّ الجهاز العصبي بتلك السرعة؟!
السيالة العصبية التي تنقل الإحساس بالسخونة ستأخذ وقتا طويلا لو أرادت أن تصل الى الدماغ وتنتظر أمرا منه بردة الفعل. اختصارا للوقت، زوّدتنا الطبيعة بالنخاع الشوكي الذي هو أقرب من الدماغ وأوامره أقل تعقيدا وتصدر بطريقة تتجنب “تحليلات الدماغ”.
عندما تصل تلك السيالة الى النخاع الشوكي يصدر أمره: اسحب يدك بسرعة!
باختصار ردود فعل العضوية هي آلية دفاعية لحماية كينونة وبقاء تلك العضوية وتقوم بها عندما تشعر بالخطر.
من جهة اخرى: مالذي يمنعك أن تلمس سطحا ساخنا؟!
عندما تنظر الى سطح ساخن وتشعر بوهج حرارته. يصل إحساسك عبر السيالة العصبية الى الدماغ ويبدأ هذا الدماغ بتحليل ودراسة النتائج التي يمكن أن تحدث اذا لمست هذا السطح ويصدر أمره: لا تلمس هذا السطح.
من خلال هذا الشرح المبسط أريد أن أصل الى النقطة التي تقول: عندما سحبت يدك كنت قد رددت على فعل. وعندما رفضت أن تلمس السطح الساخن بعد أن شعرت بحرارته تكون قد قمت بفعل.
عندما فكّرت بالسخونة وأعطيت لدماغك وقتا بالتفكير واتخاذ قرار بعدم لمس السطح كان ماقمت به فعلا نجم عن تحليلات ودراسات قامت بها القوى العليا الضابطة، ألا وهي الدماغ، في جهازك العصبي.
الدماغ أكثر تعقيدا في تحليل مايصل اليه من الإحساسات، وبالتالي أكثر دقة في ما يصدر عنه من أوامر.
تلعب تلك الأوامر الدور الأكبر والأهم في حياة العضوية وفي قدرتها على التكيّف مع محيطها والتفاعل مع هذا المحيط.
************
عندما يواجهنا المحيط الذي نعيش فيه بخطر ما يقوم جهازنا العصبي بإفراز سيالات وهرمونا تهيّئ جسدنا لإحدى حالتين: إمّا الهرب وإمّا المواجهة

Fight or Flight

. وفي كلا الحالتين تضعنا تلك الإفرازات تحت ضغوط كبيرة قد تعرضنا فيما بعد لمشاكل صحيّة عديدة.
على سبيل المثال لا الحصر: هرمون الأدرينالين الذي يفرزه الجهاز العصبي تحت تأثير “التحريض على القتال” يساهم في تقليص الأوعية الدموية التي تغذّي الجسد، فتقل كمية الدماء التي تحملها تلك الأوعية الى أنسجة الجسم المختلفة. ثمّ يرتفع الضغط داخل تلك الأوعية نتيحة لتقلصها، ويضطّر القلب، ـ في محاولة لضخ الدم في تلك الأوعية الدموية المتقلصة ـ إلى أن يزيد من عمله ويزيد من قوة تقلصه. الأمر الذي يؤدي، عندما يطول تأثيره، الى إنهاك قدرة القلب والأوعية وعجزهما عن إرواء الانسجة الجسديّة بالدماء اللازمة لتغذيتها وسلامتها.
المسلم الذي يعيش حياته متأهبا لمواجهة الخطر الذي يهدد تعاليمه، وبالتالي وجوده وهويّته وكينونته، هو إنسان مرهق مريض عاجز عن التفاعل مع محيطه وبالتالي عاقر لا ينجب خصبا ويموت من شدّة القحط!
بإمكان أي انسان خبير بالعلوم الطبيّة أن يقدّر كمية الأدرينالين التي تأكل من جسد هذا الباكستاني “المعتّر” الذي يقفز كالشبح حول علم الدانمارك المحترق.
لو ساهمت تربيته في تشجيعه على الإسترخاء والسيطرة على مشاعره وردود أفعاله لرأيته في حقله أو مصنعه أو مدرسته أكثر قدرة على الانتاج والعطاء، ولَما وقعت لقمته تحت رحمة الجبنة الدانماركيّة!
************
التحريض طريقة تربويّة تعتمد على الإثارة، وبالتالي لا يعتمد الإنسان الذي ينتج عن تلك التربية كثيرا على قواه العقليّة العليا الضابطة في إتخاذ قراراته.
والتشجيع طريقة تربوية تعتمد على التحليل وتعطي للدماغ الوقت الكافي لإتخاذ قرارته.
يعيش المسلم حياته محرضا منذ نعومة أظفاره، مثارا، مملوءاً بالخوف والرعب.
يرى في ظله أسدا يطارده فيقضي عمره هاربا من ظلّه. يشكّ في الهواء الذي يتنفسه، واذا أكل يتقاتل مع صحنه.
انتشِلْ طفلا باكستانيا من بيئته وابعده عن تعاليمه وشجّعه على أن يتفاعل مع محيطه بعفويّة وطمأنينة وسلام، ثمّ
أقنعه بأن العالم المحيط به مسالم ويحبّه وعلمّه كيف يتحاور مع ذلك العالم عندما يختلف معه، عندئذ سيخرج هذا الطفل الباكستاني منتجا مبدعا معطاءا قادراً على الحوار المتمدن بعفوية وتلقائية ودون الحاجة الى أن يحرق جهازه العصبي في أتون من نار!
***************
عندما تحرّض الإنسان تضعه في موقع دفاعي، وبالتالي في حالة تأهب قصوى.
عندما يخاف من وحش لا يستطيع أن ينظر إلاّ باتجاه ذلك الوحش، ولذلك تتحدد ساحة الرؤيا عنده ويركّز انتباهه باتجاه منبه قد يكون وهميّا.
يضيع وقته مفكرا كيف سيقاتل ذلك الوهم، وتقل قدرته على العطاء والإنتاج والإبداع.
يتقبل فقره وعجزه ويبررهما بضرورة الإستعداد للإنقضاض على عدوّه.
عندما تصل بإنسان ما إلى تلك النقطة تكون قد سيطرت على عقله وجهازه العصبي كليّا.
يكفي كي تثيره أن تلّوح له بذلك المنبّه الوهمي متى شئت.
عندما يغيب المنبه عنه يخمد كالميّت، وعندما يظهر أمامه يهستر كالبقر المصاب بنوبة جنون.
***************
سقط المسلم ضحية لتربية تعتمد على التحريض كطريقة للوصول الى الهدف.
أوهمته تعاليمه بأنّه مهدد من قبل الذين لا يؤمنون بتلك التعاليم.
حددت ساحة بصره وجعلت القتال “ردّة الفعل الوحيدة” التي يستطيع أن يقوم بها لتجنب كل منبه!
لا يثيره إلاّ المنبه الذي يصدر عن هؤلاء “الذين لا يؤمنون بتعاليمه”، ومهما كان نوع المنبه يرتكس بنفس الطريقة.
القمل الذي يرعى في رأسه لا يثيره!
الفقر الذي سلبه عزّة نفسه لا يثيره!
الجوع الذي أنهك طاقته لا يثيره!
الظلم الذي انتهك انسانيّته لا يثيره!
الجهل الذي هبط بفكره وعقله لا يثيره!
تثيره فقط رسوم كاريكاتورية لفنان مغمور في صحيفة مغمورة!
لم يهدد وجوده وسلامته الفقر والجوع والظلم والجهل، بل هدد ذلك الوجود وتلك السلامة بعض رسوم!
لماذا؟
اذا أردت أن تحثّ الانسان ليثور على فقره وجوعه وظلمه وجهله يجب أن تعتمد في تربيته على طريقة التشجيع وليس على طريقة التحريض!
يجب أن تشجّعه على الحوار والتحليل والتفاعل لا على الخوف والتأهب والقتال.
يجب أن ترفع من مستوى وعيه لكي تصل بهذا الوعي الى مستوى الدماغ، فتضمن بذلك أن يستغرق الوقت الكافي للتحليل والدراسة قبل أن يقوم بأيّ فعل أو ردّة فعل.
الإسلام اعتمد على التحريض كوسيلة تربويّة وعلى القتال كوسيلة للحفاظ على الوجود.
ربط الإسلام بين تعاليمه وبين هذا الوجود!
الفقر لا يهدد الوجود!
الجوع لا يهدد الوجود!
المرض لا يهدد الوجود!
الظلم لا يهدد الوجود!
الجهل لا يهدد الوجود!
بل تكمن سلامة هذا الوجود في سلامة ذاك الدين!
ولذلك أيّ منبه يتراءى للمسلم بأنه يهدد تعاليمه يساهم في تحرضه.
استغل الحاكم في البلاد الاسلاميّة تلك الحقيقة بطريقة انتهازيّة رهيبة، واعتمد على رجل الدين في تحقيق مآربه.
كل الجرائم التي ارتكبها هذا الحاكم لم تحرك لدى المسلم ساكنا، وكان رجل الدين الأسبق الى تبريرها والتخفيف من حدّتها.
وكلّ منبه، مهما تضاءلت شدّته، يتحول في أيدي هذين الدجّالين الى زر يكبساه لإثارة تلك الآلة المبرمجة وتفريغ شحناتها!
رسوم الفنان الدانماركي كانت اللحظة المواتية التي اقتنصها الخبث المتأصل في رجل الدين يدعمه ويقويّه خبث الحاكم، ليحولاها معا الى منبه يحرف النظر الى الجهة المغايرة تماما لجهة الخطر الحقيقي. ذلك الخطر الذي يأتي من وجودهما وديمومة سلطتهما.
نجح الحاكم ورجل الدين في استغلال تلك اللحظة لصالحما. لم ينجم هذا النجاح عن ذكائهما وقوتهما، بل عن غباء وضعف الشعب الذي يرزح تحت نيرهما.
**************
قال وزير الأوقاف السوري السيّد زياد الأيوبي في رده على جرائم حرق السفارات في دمشق بقوله:
“كان الأمر احتجاجا شعبيّا وليس للحكومة دور فيه. فعلى مرأى من عينيّ حاولت سلطات الأمن أن تمنع الجموع الزاحفة بإتجاه السفارة ولكنها لم تستطع”.
لم أجد في جعبتي اللغويّة عندما قرأت ما قاله، ورغم حرصي الشديد على كيفيّة استخدام اللغة، لم أجد من جميل القول سوى: قاتلك الله.. ما أشدّ نفاقك!
عندما يكون ولاؤك للحاكم أعلى من ولائك للحقيقة لا تستحقّ سوى اللعنة، وخصوصا عندما تكون وزيرا للأوقاف!
لقد استهتر هذا الوزير، ظلما ونفاقا، بعذابات الشعب السوري التي عاشها على مدى أربعة عقود.
على ذمّته التي تتسع لكلّ نفاقه، لم تستطع قوات الأمن أن تردع الجموع الزاحفة بإتجاه السفارة، والسؤال الذي أودّ أن أطرحه على سيادته:
هل ستستطيع تلك القوات أن تردع تلك الجموع لو توجّهت إلى قصر الرئيس تطالب برغيف خبز نظيف؟!!
رسم كاريكاتوريّ، ياسيادة الوزير، جريمة لا تغتفر، وقتل شعب برمّته مسألة لا تستحق النظر؟!!
*************
النخبة “الليبراليّة” من المسلمين ادّعت بأن ردّة الفعل كانت سياسة، وقد هيّجتها بعض الحكومات في الشرق الأوسط على غرار الحكومة السوريّة والإيرانية لتحويل الإنتباه من الأزمات التي تعيشها تلك الحكومتين الى قضيّة اخرى، ومن ناحية اخرى لترسل رسالة قويّة الى الغرب كي يحسب حسابه عندما يفكّر بأيّ عمل عدواني ضدّ إحدى تلك الحكومتين.
هذا التبرير ينطوي على جزء كبير من الحقيقة لكنّه يتجاهل الجزء الأهم!
عندما تستطيع حكومة مفلسة سيّاسيا وأخلاقيا أن تُثير شعبها وتخمده متى أرادت، يحتاج الأمر الى إعادة تأهيل ذاك الشعب!
الشعب الذي يرضخ تحت حكم يسلبه أبسط حقوقه ولا يثار، ثمّ تثيره بعض رسومات سمع عنها ولم يرها، هو شعب مغيّب عن الوعي ويحتاج إلى مبضغ جرّاح!
عندما يدوس الحاكم على رقبة المسلم، لا ضير في الأمربالنسبة له، فتعاليمه أمرته أن يطيع وليّ أمره!
أمّا عندما يسمع برسومات أهانت تعاليمه، ياغيرته على الإسلام!
تلك حقيقة تعكس طبيعة تربيته التي برمجته ليثار ضد كل من لم يكن مسلما بشرّه وخيره، وليخمد في وجه كل من كان مسلما حتى ولو سرق رغيفه!
للحديث صلة.

وفاء سلطان (مفكر حر)؟

About وفاء سلطان

طبيبة نفس وكاتبة سورية
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, فكر حر. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.