كان كمال جنبلاط يسمي هذه البقعة التي أطلق عليها المزورون والمقنعون «الوطن العربي الكبير»، «السجن العربي الكبير». ومثل السجن الروسي القيصري ثم السوفياتي، الذي أنتج مرحلة أدبية كلاسيكية، بدأ السجن العربي يؤتي آدابه كلما سنح للسجناء الكلام. صدرت أبرز الأعمال، أولا من مصر، ثم من العراق، والآن تتزاحم شهادات السجن السوري. والظاهرة الغريبة في هذه السجون التقدمية الاشتراكية الحرة، نوعية السجناء: إسلاميون وشيوعيون سواء. يضاف إليهم في سجون سوريا نوع غريب آخر: البعثيون العراقيون، كما يذكر ياسين الحاج صالح في كتابه «بالخلاص يا شباب.. 16 عاما في السجون السورية» (دار الساقي).
كما تحذر البرامج الوثائقية التلفزيونية سامعيها سلفا من حدة المشاهد التي سوف تلي، يحسن بأدباء السجون العربية أن يحذروا قراءهم مسبقا: ينصح لشديدي التأثر بتجنب هذه القراءات. الأمة بخير، من المحيط إلى الخليج، ومن صنع الله إبراهيم إلى ياسين الحاج صالح. الغرابة الأخرى، لا الأخيرة، أن السجناء إما طلاب طب سنة ثالثة – مثل صالح – أو طلاب هندسة سنة ثانية، أو طلاب حقوق، أو طلاب أي علوم. يعتقل هذا العدد الخطر «احترازيا» وهو في العشرين، ويفرج عنه بعد 16 عاما من البيض المسلوق وهو في السادسة والثلاثين، قضاها تحت لقب «ابن …».، يطأطئ الرأس أمام السجان، يشكر مسؤول التعذيب، وأحيانا ينقل نعال رفاقه من مكان إلى مكان لزوم الترتيب: بفمه.
وهناك نوعية الخطاب: «قرر حضرة الرقيب الأول في البداية أننا ضباع غدارة، ولم يلبث أن تدارك بأننا صراصير غدارة. هذا أنسب. كان واحدنا، وهو محني الظهر، رأسه يكاد يلامس قدميه، يشبه الآخر، تماما شبه الصرصور بالصرصور. الضبع حيوان كريه وشرس، لا يستغرب الغدر منه، وربما ينتفع منه. أما وضاعة شأن الصرصور انعدام شخصيته التام واستحالة أن يجني شيئا من غدره، فتجعله أشد إثارة للاحتقار والسخط. «مجرد التفكير في أن كائنا قذرا مقززا كهذا يقف في مواجهة الحضرة (الرقيب الأول) إهانة لا تطاق، لا يمحوها إلا سحقه».
يتحول طالب الطب (أو الهندسة أو سواها) في السجن إلى حائك خرز لكي يؤمن مصروف السجائر، أو الكتب، بعد مضي ثلاث سنوات من منعها، وتقوم ألفة في السجن بين أهل اليمين واليسار، ويتساوون أمام الرقيب الأول وخطابه وإهاناته. وأما السجينات وهن أيضا شيوعيات أو أخوات، وربما بعض بعثيات العراق، لم يسلمن من الشتائم المقززة. وأعمار تمضي في التوقيف «الاحترازي».