هذا النص كتب لإحياء المناسبة الأربعينية لوفاة الصديق الكبير الدكتور صادق جلال العظم، في ندوة برلين في المانيا التي توفي بها، ولقد وجهت الدعوة لنا بشكل متأخر من قبل الأصدقاء الذين نظموا هذه الفعالية مشكورين، موجهين دعوتهم بصيغة اعتراضية- عتابية لماذا لايشارك عبد الرزاق عيد في هذه المناسبة لصديق قديم وعزي، سيما أن الراحل (العظم) لم يحاور ويساجل أحدا –وهم كثر- بتقدير ومن موقع إبجابي مرحب وودود، بقدر ما حمله حواره مع عبد الرزاق عيد حول آيات شيطانية في كتابه ( ما بعد ذهنية التحريم)، وحول العولمة في كتابه مالعولمة ، والمنشورة في كتابنا (ذهنية التحريم أم ثقافة الفتنة) الصادر في دمشق والقاهرة في طبعتين ..!!!
الدكتور عيد استغرب العتب لأنه لم توجه له دعوة بالأصل، ولا يعرف عن الندوة ومنظميها شيئا، وبعد توجيه الدعوة من قبل أصدقاء يعزهم، وافق على المشاركة بالندوة ، تحت فتوى ( إذاكنا وافقنا على المشاركة من قبل على ندوات قسم الفلسفة في جامعة الأسد، فليس علينا اثم وطني إذا شاركنا بندوات دول صديقة لنظام الأسد والمعارضة كقطر، أو شخصيات مقبولة من المعارضة والنظام الأسدي كعزمي بشارة أو أيمن أصفري!!! )….
وقد قامت لجنة المنتدى بنشر الجزء الذي قدمه المحاضرون في ندوة برلين على اليوتوب، على أن تنشر الأبحاث في عدد خاص من مجلتهم ، لكنا لم نرسل بحثنا إلى المجلة التي اعترضنا على برنامجها الافتتاحي لتقديم نفسها عبر إعلان جائزتين باسم كاتبين سوريين هما ( ياسين الحافظ وحسين العودات …)، واعتراضنا أن صديقفنا الراحل حسين العودات كان معنا قي بدايات تشكل (لجان إحياء المجتمع المدني، ولا اعتراض لدينا على تبنيه سياسيا، لكن اعتراضنا على تبنيه (فكريا ومعرفيا بالتوازي مع عملاق كياسين الحافظ ) الذي كان أولى معرفيا وثقافيا وعقلانيا أن تكون الجائزة الثانية باسم (الياس مرقص أو صادق العظم) الذي قررت المجموعة أن تنظم ندوة فكرية عن فكر الياس مرقص على غرار ندوة صادق العظم، لأن صديقنا الراحل(العودات ) لو كان حيا لكان أكثر تواضعا فكرياوانتاجا معرفيا في أن يحسب نفسه إلى جانب الثلاثي (ياسين الحافظ والياس مرقص وصادق العظم ) ولاعتبر عملية الخلط هذه مضرة أشدالضرر الرمزي بالثورة السورية وفكرها ورموزها الفكرية، وهي أشبه بعمليات (الزعبرة الإعلامية الأسدية المبتذلة)، لكون الرجل (الراحل العودات) ببساطه كان ناشطا كناشر ومسوق للكتاب وليس منتجا له …
ولهذا لم نرسل بحثنا لهذه المجلة ( التسويقية برخص سياسي)، وقررنا أن ننشر بحثنا هذا على منابرنا الخاصة …. ………….
مدخل إلى البحث ….
لعل خير مدخل للتعرف على شخصية مفكر أو اي مبدع، هو اللحظات الأخيرة التي آلت لها تجربته مع الحياة، بعد أن عاش ثمانين حولا ولم يسأم… حيث ظل حتى للحظة الأخيرة في ساحة المعركة من أجل الحرية والتنوير والحداثة…
ظل صادق كمفكر وطني ديموقراطي مستقل من القلة من (16) الذين وقعوا على وثيقة (لجان إحياء المجتمع المدني أو ماسمي وثيقة الألف)، وهو على يقين أننا نبدأ ربيعا ثوريا للحرية قد يطول انتظاره، لأن صانعيه الحقيقيين هم جيل الشباب (جيل المعلوماتية وعولمة الثقافة ما بعد الايديولوجيا)، الذين لا يقبلون بالمساومات والتسويات وأنصاف الحلول والمصالحات والمحاصصات أو المشاركات في تقاسم نفايات نظام الاستبداد مع ما سماه صادق نظام السلالة العلوية الطائفية (الأسدية)، وذلك وفق تقزيم الثورة السورية إلى حرب أهلية تارة، أوتحجيمها وتصغيرها إلى مستوى (معارضة) للتفاوض مع النظام الأسدي الطائفي بوصفه دولة، والذي ظهر لاحقا اجماع المجتمع الدولي على بقائه بعد صناعة داعش والجهادية السلفية بوصفها الأكثر سوءا شيطانيا من النظام الأسدي… ولهذا كان راحلنا قادرا برؤية معرفية استبطانية تحليلية أن يرى أن هذه الثورة غير قابلة للانكسار إلا بانكسار ظهر المجتمع، لأن المجتمع الذي صبر كل هذا الصبر الاسطوري على اتاوات تاريخ الاستبداد فإن الله يعاقبه اليوم على استكانته وفق تأويل الإمام الكواكبي، فمن صبر على عقود من الوحشية سيصبر إلى الأبد أو يحقق الخلاص الأبدي… حيث وحشية السلطة الأسدية لن تشكل مفاجأة جديدة في وحشيتها بعد خمسين سنة في جهنم بلد يسكنها العذاب المقيم… فهي والأمر كذلك معركة وجود بالنسبة للشعب السوري مع نظام خارج على كل المعايير التي تحكم منطق الوجود، وهي ليست معركة سياسية قابلة للحلول السياسية الوسطى، فليس في سوريا دولة ناتجة عن مجتمع لكي يتوازنا حتى وفق معادلة الدولة الامبراطورية في العصور الوسطى (إذا شد الناس رخى معاوية كما يقول…)، في سوريا عصابة تأخذ بلدا اسمه سوريا كرهينة تطالب المجتمع الدولي أن يكون ولي أمرها ليفك أسرها…
ولهذا لم ترعب صادق لعبة النظام الأسدي في تمويه الثورة وتلويثها بالظلاميات القروسطية التي عاش عمره في حرب متواصلة كرائد من رواد التنويرية العلمانية السورية والعربية فلسفيا ومعرفيا وليس ديماغوجيا شعارية بعثية طائفية أسدية، إذ كان أكثر راديكالية واندماجا عضويا في الثورة السورية، من كل أولئك (اليساريين الشيوعيين)، الذين اهتبلوها فرصة لمصالحة النظام والارتداد عن الوقوف مع ثورة شعبهم في سبيل الحرية للالتحاق برفاقهم الشيوعيين الجبهويين البكادشيين كحزب العمل الشيوعي أو حزب الشعب (الشيوعي -الترك)، الذي كان يعيش ارهاصات انشقاق، ومن ثم قيام هذا الانشقاق اختلافا حول دعم الثورة الشعبية أو دعم النظام الأسدي كنظام ممانع مقاوم في المحور الإيراني، بمثابته نظاما طغيانيا طائفيا تابعا سياسيا ومذهبيا لإيران كحليف للشيعة اللبنانيين والعراقيين وقيادة الأقلية الشيعية إسلاميا في العالم الاسلامي، في ذات الوقت الذي بدأ يتبلور خط ثورات الربيع العربي على يد حركة الشباب والمثقفين المستقلين الوطنيين الديموقراطيين خارج التشكيلات الحزبية السورية التقليدية المفوته يسارا ويمينا مع تفتح أزاهير الربيع العربي، التي أدرك جيل الشباب العربي والسوري أنها إذا أخفقت في وجه هذه الحرب الدولية التي شكلتها الأسدية ضد الشعب السوري، فلن تقوم قائمة لحرية الشعب السوري والعربي بل ولشعوب العالم على مدى عقود وقرون من الطغيان المضاعف، هذاما دام عالم المركز الأوربي والأمريكي قد قر قراره على أن الحرية والديموقراطية هي حكر على المنتج الغربي الأوربي وصناعته لها تاريخيا، أي أنه هو صاحب الحق في حيازتها بوصفها منتجا (سلعيا) من منتجاته، ومن ثم حقه في تملكها والتصرف بها وفق حاجاته ومصالحة… ولعل ذلك هو الذي يفسر نظريا مأزق الربيع العربي والسوري تجاه موقف الغرب الصادم في خذلانه لتطلعات الشعوب في الحرية، إذ تجاوز المجتمع العالمي أفق توقع شعوب الأرض في درجة ادارة ظهره لتطلعات شعوب الربيع العربي للحرية والديموقراطية…
ولأن صادق يعرف العالم جيدا مثلما يعرف بيت أبيه، كان آخر علماني يمكن أن ترعبه ممكنات تحويل الثورة الديموقراطية السورية إلى إمارة داعشية أو أصولية، إنه آخر علماني يمكن أن يقتنع بممكنات ذلك في بلد كسوريا أنجز ثورته الوطنية الديموقراطية مع الاستقلال وما بعده من خلال قيام نويات مجتمع مدني ديموقراطي برلماني تعددي فكريا وسسياسيا وحزبيا…
فقد كان صادق ثاني مفكر علماني مع ياسين الحافظ سوريا وعربيا اللذين ارتقيا بالعلمانية من مستواها السياسوي (العلمانوي اليساروي القوموي “علمانية السطح” إلى علمانية معرفية تطال كل جوانب بنية الحياة السياسية (سلطة ومجتمعا)، حيث إرتقى بها إلى مستوى ابيستمولوجي، إي إلى سؤال معرفي فلسفي، ولذا كان الراحل (صادق) من أوائل المتحمسين لتشكيل رابطة (أصدقاء ياسين الحافظ )، وليس بتسمية جائزة لمركز حرمون باسم ياسين الحافظ مع أسماء ناشرين تجار كتب وليس كتابا لخلط الأوراق بين الثورة والمعارضة…
ولذا كنا قد نوهنا في مقدمة كتابنا (ذهنية التحريم أم ثقافة الفتنة في الطبعة الثانية المصرية) في سياق حواراتنا مع الراحل التي كان قد نشرها في كتب له (ذهنية التحريم وما بعد ذهنية التحريم) حول آيات شيطانية وما هي العولمة، حيث أشرنا في هذه المقدمة إلى أننا توخينا في كتابنا ذاك، على تأطير هيكل يضم “الحضور الفعلي أو الطيفي الدلالي لأربعة ممن سميناهم حينها (رواد الهرطقة اليسارية (قوميا، ماركسسيا)، في الستينات ليس على المستوى السوري فحسب، بل كانوا هراطقة لليسار على المستوى العربي أيضا (هم ياسين الحافظ، الياس مرقص، صادق جلال العظم، جورج طرابيشي)، فكانوا طريديى المؤسسة و السياسية (سلطة ومعارضة، يسارا قوميا ويسارا شيوعيا).
حيث ساهم الهراطقة الأربع في التأسيس لفكر يساري علماني تنويري نقدي جديد، من خلال استدعاء التنوير الليبرالي كضرورة تاريخية لا غنى عنها لاية ممارسة فكرية، ومن خلالى هذه الأطروحة التي كانت تتناوس فيى درجة حضورها الظاهري والباطني، في نصوص كل واحد منهم على حدة، كان يولد وعي يساري تنويري حداثي طامح لإنتاج مصفوفة نظرية يتحقق فيها الكوني بالوطني، والوطني في الكوني من خلال عقل جدلي طليق ومبتكر، لانتاج وعي مطابق بالواقع فيما هو عليه وما يمكن أن يكون عليه بالنسبة للحافظ أو في منطق الواقع العياني، بالنسبة لالياس مرقص، أو خوض معركة العقلانية ضد البنية الذهنية السحرية الميثية للعالم، أي (اللوغوس في مواجهة الميتوث) بالنسبة لصادق جلال العظم، اي تبييء العلمانية النقدية في جوانية الذات الثقافية العربية، من خلال الانكباب على الخاص الثقافي العياني، والتي تمثلت عند جورج طرابيشي بهذال النشاط المحموم لترجمة الفكر الماركسي (الهرطوقي) النقدي المشبع بميراث التنوير الأوربي ومن ثم ترجمة الفرويدية، في مواجهة علمانية ماركسية ذات ميراث أو توقراطي روسي، أو استبداد شرقي عربي… لكن تجربة الياس مرقص وجورج طرابيشي، توقفت عند حدود التنوير الليبرالي الحداثي، دون الانتقال إلى البراكسيس الغرامشي، في الاندماج العضوي بحركة القوى الفاعلة بالتاريخ ودفع الضريبة للحاكم المستبد كما كان الأمر مع ياسين الحافظ ومن ثم صادق جلال العظم…
حواراتنا مع الراحل صادق :
وفي هذا السياق سياق تطرقنا للحوار الذي طال بيننا وبين الصديق الراحل صادق
(حول آيات شيطانية والذي بلغ حوالي (170 ) في كتابناالصادر في طبعتين في دمشق والقاهرة تحت عنوان (ذهنية التحريم أم ثفافة الفتنة )، بالإضافة إلى حوارنا حول مالعولمة الذي بلغ (70 صفحة)، لا بد من التنويه إلى أن هذه الحوارات كانت تستحق أن تستقل بكتاب خاص، نظرا لما انطوت عليه هذه الحوارات من نزعة سجالية معتدلة هادئة ليس كما هو معهود عن كتاباتي ووكتابات الراحل صادق، خاصة في حواراته مع ادوارد سعيد، وأدونيس التي اتسمت بالحدة بل وفي حالات أخرى بالنزق… لا نريد أن نتوقف طويلا عند هذه السجالات، لإن المحاور المساجل العزيز (صادق) قد غادرنا ونحن على مغادرته لمحزونون، ولم يبق لنا من نحاوره ونناقشه في الموضوعات الطويلة التي ناقشناها، لكنه رغم خلافنا، كان حوارا هادئا وعقلانيا حول هذه الموضوعات، إذ كان اختلافي مع صادق أن رشدي صدم الموروث الوجداني للدين الوطني الشعب، وليس التراث الفقهي السلطاني الاستبدادي كما فعل طه حسين أو نجيب محفوظ…
أما بخصوص العولمة، فإن الإحتلال الأمريكي للعراق لم يثبت النظرية المتفائلة لصادق القائلة بأن (ظاهرة العولمة هي بداية عولمة الانتاج والرأسمال الانتاجي وقوى الانتاج الرأسمالية، أي أن العولمة سترسم العالم على مستوى العمق بعد أن كانت رسملته على مستوى سطح النمط ومظاهره في مرحلتها الامبريالية… أي عولمة الانتاج التي ستحل محل عولمة التبادل، ولو صحت نظرية صادق كما روج لها تيار من الباحثين الأميركيين، لكان العراق بما يتوفر عليه من بنية تحتية مناسبة، وتوفر قوى وسطى مؤهلة فنيا وتقنيا، وأمشاج ثقافة قومية ويسارية حديثة تؤهله لأن يستوعب موجة عولمة الانتاج وفق تعريف صادق، لو كانت تلك هي وظيفة العولمة بحق …
ومع ذلك فضلنا أن لا نتوقف طويلا عند هذا الموضوع السجالي (حول آيات شيطانية أو ما العولمة) مادامت نصوص (صادق) الراحل ونصوصي متوفرة في كتبنا، أي في كتبه وكتبي…
كان صادق يدرك بحس تاريخي معرفي عميق أن نظام سلالة الأسد قد سقط تاريخيا وانقلبت صفحته إلى الأبد كنمط سياسي ولو بقي بقوة الخارج كهيكل لحفظ مصالح الخارج، وذلك لأن ثمة ثورة شعبية لا يمكن أن ترضى بأنصاف الحلول الثورية، أي نصف ثورة من أجل نصف حرية، ولهذا لم ترعب العلماني الأول عربيا تهديد النظام الأسدي والنظام الدولي بأن الثورة (تأسلمت) لأنه يعرف جيدا أن (داعش) ليست إلا من نثار غبار صحراء تتار التاريخ التي تنتهي وتتلاشي بالزوابع وليس بالفصول بعد أن أدت الوظيفة الفاعلة لصناعها وأصحابها الأصليين الأسديين والمؤيدين الخارجيين …
ولهذا قال العظم: “الثورة السورية هي ثورة، سواء “تأسلمت أو “تعلمنت”، هي كاشف أخلاقي وإنساني وثقافي لكل البديهيات القديمة. هي ثورة ضد التبرير والقبول الكاذب لواحد من أكثر الأنظمة الشمولية تفسخاً وعنفاً. كل من هو منخرط في جوهرها لا يخشى منها ولا يخشى عليها. كل من هو جالس على حافتها… سيصيبه الرعب منها. أصلا الرعب واحد من أهم سمات الثورات. الثورة السورية هي من أعمق ما قامت به جماعة بشرية في منطقة جغرافية على امتداد العالم. إيقافها مستحيل، ببساطة لأنها نضجت بفعل الزمن، ولا أحد يستطيع إيقاف الزمن. وانا العبد الفقير لله وحرية الإنسان سأبقى معها… حتى لو التهمتني، حتى لو كنت من ضحاياها… حتى لو دفعت الثمن غالياً جداً لا يقل عن حياتي… سأبقى منحازاً لها ما دمت قادراً على التنفس…
العظم اعتبر أن ثورات الربيع العربي هيأت لوجود جيل جديد يقوم بتصفية فكرة إنشاء سلالات حاكمة لبلدانه عبر نقل السلطة بشكل مباشر إلى أبناء الحاكم أو إخواته وأقاربه. ووصف هذا الثورات بأنها “العودة الربيعية للناس إلى السياسة” التي دشنت ثلاث صيحات مدوية “لا تجديد لا تمديد لا توريث”.
ورأى أن أهم ما تميزت به ثورة الربيع السوري “عفويتها الشعبية وتنسيقياتها الشبابية وابتعادها الحميد بالتالي عن التعلق بشخصية قيادية كاريزمية واحدة، كما جرت العادة العربية، وتكون بذلك قد كسرت تقاليد الزعيم الأوحد والقائد الملهم والحزب الواحد والرأي الواحد والتنظيم الواحد”، معلقاً أنه “ربما يكون في ذلك تمهيد لمستقبل أكثر ديمقراطية وحرية مما عرفناه حتى يومنا هذا”.
صادق العظم (كشخص/ بوصفه نص كينونة بشرية– اجتماعية قابلة للقراءة والتحليل والتأويل)، هو نص حداثي بذاته، فهو بسلوكه صريح مباشر تلقائي بلا عقد الازدواجيات الشرقية والطبقية بين الظاهر والباطن وبين الفكر والسلوك ثقافيا واجتماعيا وحياتيا، حتى أن ملبسه يتعارض مع الموروث الارستقراطي الشرقي كابن لعائلة ارستقراطية عريقة من جهة، كما ويتعارض مع الموروث الغربي للأناقة الكلاسيكية الغربية (البدلة الرسمية وربطة العنق) من جهة أخرى، حيث اننا لم نر فيها صادق إلا ببعض الصور وهو يستلم جوائز دولية رسمية… بينما هو في حياته العامة في الشارع والعمل دائما ما يلبس الببنطال وقميص (سبور)، وحتى سيارته القديمة الشعبية، فهي رمر صاعق للحداثة العقلية والثقافية والاجتماعية التي لا تأبه للثانوي الشكلاني العابر، التي يتحدى من خلال (شعبيتها) البسيطة تاريخه (النبيل)، وحاضره المريف المزيف برمزيته الريفية السلطوية الرعاعية (المرسيدس) في مطعم النبلاء بدمشق، حيث تمنع سيارته (الشعبية) من الاصطفاف مع سيارات (مرسيدس) من قبل الشرطة وفق تعبير منظمي السير في المطعم، بأنه في مطعم نبلاء المرسيدس، فقال لهم مداعبا وفق الطرفة الشهيرة عنه، بأن سيارته هي الوحيدة التي يقودها شخص من شريحة النبلاء بينما جميع سيارات المسؤولين (المرسيدس) يقودها، مسؤولون فلاحون من أبناء رعاع الريف وحثالات المدن البعثيين الأسديين… وهو سيؤسس لهذه الحداثة التنويرية فكريا بكتابه الشهير لذي أثار في زمنه زوبعة فكرية وثقافية (نقد الفكر الديني)، ونقد الفكر الديني لا يعني نقد الدين ذاته بالضرورة، بل هو أس الأساس في تاريخ الفكر النقدي الحداثي التنويري بتاريخه الكلاسيكي العالمي…
لعل هذه الحادثة اليومية الطريفة، تكتنز العمق الدلالي لمعنى سيرورة الثورة السورية بوصفها ثورة تطال كينونة المجتمع السوري اجتماعيا وثقافيا وسياسيا ورمزيا بمثابتها ثورة كاشفة أخلاقيا وإنسانيا وثقافيا لكل البديهيات القديمة، وليست مجرد معارضة تريد الضغط من أجل المشاركة في السلطة والمحاصصة، وهو أمر قائم منذ أكثر من أربعة عقود خلال مايسمى (الجبهة الوطنية التقدمية التي تضم اليسار القومي والشيوعي)، بعد سحق الحركة الأخوانية وتتويج ذلك بتدمير مدينة حماة، ومن ثم اختراق واحتواء الساحة الإسلامية عبر رموز شيطانية من وعاظ السلاطين كـ(البوطي وخطه الذي يصل إلى المفتي أحمد حسون)، من قافلة وعاظ السلاطين اللقامة على موائد السلطان…
بل ربما بدأ بعد الثمانينات علنية ما اصطلح عليه صادق لاحقا (العلوية السياسية) التي ركبت انقلاب البعث الشعبوي، فيما سمي بثورة آذار التي ستمهد لحكم (العسكر) وقيام (الأسدية) كذراع طائفية (عسكريا وأمنيا) للطائفية العلوية السياسية… وذلك تدشينا لمرحلة العضوية في تاريخ السيرة الفكرية لصادق، وبداية انخراطه في الشأن العام السياسي الشعبي، من خلال التأسيس لربيع دمشق الذي شارك عضويا في محطاته الثلاث (بيان 99 – بيان لجان إحياء المجتمع المدني تحت اسم (وثيقة الألف) – وأخيرا إعلان دمشق…)، الذي كان تمهيدا للربيع العربي حسب توصيف صديقنا الراحل صادق، وذلك حتى قيام الثورة، التي احتوتها الأحزاب السياسية (الأصوليات الإسلامية أخوانية ويسارية شيوعية، بعد أن التحق التيار القومي (المحافظ والشيوعي) بما يسمى معارضة الداخل التي توحدت في (همروجتها) الفكرية والسياسية مع السلطة ومحور الممانعة والمقاومة الإيراني (فرسا وعربا)، ورفض أي تدخل خارجي في الشان السوري ما عدا روسيا وإيران وملحقاتها الطائفية التي كانت ذات أصول عربية (عراقية ولبنانية)… وكان ذلك بداية لاقصاء النخبة التنويرية الديموقراطية صانعة المحطات الثلاث لربيع دمشق فكريا على الأقل، وتهميشها، ومن بين المقصيين فقيدنا الكبير صادق… وكان ذلك ايذانا بفتح الأبواب أمام الهمجية السلفية (الداعشية والقاعدية ) …
حول بدايات اللقاء والتعارف مع الراحل :
حول مداخلتنا هذه عن صادق العظم: بين الحداثة التنويرية… والثورية العضوية… كنا نريد أن نقدم مفردات مصفوفة العنوان من خلال علاقتنا الشخصية مع صادق عبر أربعة عقود، منذ زيارته لنا إلى حلب في أوائل الثمانينات ودخوله المفاجي على مثقفي حلب، عندما دخل إلى قاعة اتحاد الكتاب التي كنت أحاضر يومها فيها، حيث دعوته لحضور المحاضرة لكنا لم نتفق على أنه سيحضر فكانت المفاجأة…
عندها عرفني على السيدة فوز طوقان زوجته أم أولاده، بوصفها ابنة أخ الشاعر الفلسطيني الكبير ابراهيم طوقان، دون أن يشير إلى أنها حينها كانت ابنة وزير أردني، فاعترضت الراحلة (فوز) بدماثة ومشاغبة وعتاب مداعب، لماذا يقدمها باسم عمها وليس باسم أبيها، فربما أني لا أعرف أهمية وقيمة عمها ابراهيم طوقان كشاعر!! فاجابها بذات الروحية المداعبة والظرافة: بأن عبد الرزاق بالتأكيد سيعرف عمك الشاعر أكثر من أبيك الوزير، لأنه يعرف المبدعين العرب، أكثر مما يعرف أباك الوزير وكل الوزراء العرب ….!!!
تجولنا في أسواق حلب وأحيائها القديمة وقلعتها الشهيرة خلال يومين من إقامته… وبعد أن أطفأ اشواقه للبسطرمة (الحلبية الأرمنية ّ!!!) ..
في هذه الفترة طلبت مني مجلة النهج (مجلة الأحزاب الشيوعية العربية) في دمشق، الإشراف على اجراء ندوة على صفحاتها بتفويضي باختيار الضيوف، فكانت النوة حول (المجتمع الاستهلاكي والبلدان العربية النامية ،الانعكاسات الاجتماعية والفكرة والثقافية)، فدعوت للمشاركة في هذه الندوة : حنا مينة– سعد الله ونوس– صادق جلال العظم- خضر زكريا – رزق الله هيلان– عبد الله حنا…) وقد نشرت هذه الندوة في كتابي (ذهنية التحريم أم ثقافة الفتنة… حوارات في في التعدد والتغاير والاختلاف…) ص389 – وقد اعتمدنا النسخة الثانية الصادرة بالقاهرة 2009- بعد النسخة الأولى في دمشق…
قبل الندوة كنت أقدر أن جميع المشاركين في الندوة سيكونون متحمسين للتعاون مع مجلة تمثل أحزاب الحركة الشيوعية العربية، إلا صادق العظم الذي كان يبدو لي أن هامش ليبراليته التنويرية النقدية الحداثية، لن يسمح له بالموافقة على المشاركة بحوار على منبر شيوعي رسمي عربي معظم أحزابه شمولية ستالينية… لكن مفاجأتي أنه كان الأكثر حماسا والتزاما وصرامة من الجميع في الالتزام بمحاور الندوة وتوقيتها… الأمر الذي فسرته يومها أنه نابع من عيشه الطويل في شبابه بالأوساط الأكاديمية الأمريكية العملية حيث بدأ من الجامعة الأمريكية في بيروت… لكن اليوم بعد الانخراط العضوي لراحلنا صادق في ثورتنا السورية المباركة، تكشف لنا أن حماس صادق للاندراج العضوي في حراك مجتمعه السوري كان منذ بدايته في الستينات (مع كتابيه نقد الفكر الديني، والنقد الذاتي بعد الهزيمة)، لكنه ترجم اندراجه العضوي سوريا عمليا منذ منتصف الثمانينات، تاريخ انعقاد ندوة مجلة االنهج ممثلة الأحزاب الشيوعية العربية، وفي ذات الفترة التي دعوته فيها إلى ندوة فكرية أهلية في حلب، في بيت أهلي غير رسمي، حيث كان يدرك حينها حساسية مثل هذا اللقاء أمنيا بعد مجزرة حماة واطلاق الأسدية لكل كوامن وحشيتها… وعلى هذا فإن البعد الوطني العضوي في الاندماج بمسيرة الحرية والتحرر لسوريا كان يتغلب في المآل على حرصه على استقلالية هوامشه الليبرالية النخبوية وتحفظاته على شمولية الشيوعية العربية الستالينية (المسفيته) كما كان يسميها ياسين الحافظ الذي ترجم له صادق مقدمته لكتابه (الهزيمة والايديولوجيا المهزومة) إلى الانكليزية، ودرسها في الجامعات الأمريكية التي كان طلابها منبهرين بنص الحافظ حول سيرته الذاتية التي قدم عبر نبذتها أغنى قراءة سوسيو– سياسية لمجتمع الفرات الشرقي الشمالي السوري من خلال سيرة ذاتية لا تتعدى العشرين صفحة…
لا أعرف حتى الآن الموقف السلبي للشيوعيين السوريين خاصة نحو صادق، حيث لم يرحبوا أبدا بجهودي لمشاركته الفلسفية والفكرية، إن كان في مشاركاته الأهلية في حلب أوفي ندوة النهج، هل لأسباب طبقية كونه ابنا للارستقراطية السورية؟؟ أم لأنه ذكرهم في حواراته الصاخبة التي قادته إلى السجن بأن نظريتهم الفكرية والسياسية لا بد لها أن تكون علمانية، وهو يريدون أن يتناسوا أولوية العلمانية بالنسبة لترسيمتهم الفكرية المفترضة أنها الماركسية، وقد أجبرهم بذلك على أولوية العلمانية في المصفوفة الشيوعية الكلاسيكية، في حين أنهم كانوا حريصين على (علمانية سرية)، ولا يريدون أن يحسب عليهم اسم اشتهر بعلمانيته الراديكالية الجهيرة، في حين كانت فلسفتهم هي (السكوت عن المسألة الدينية)، وهذا ما صرخ به قائدهم الفكري والسياسي والحزبي الستاليني المعروف خالد بكداش في مؤتمرهم الخامس، بأنه لا يمكن لبرنامج حزب شيوعي أن ترد فيه كلمة (الاسلام)، وذلك تجنبا للتورط في مثل هذه النقاشات التي يمكن أن تتصل بالعلمانية، وربما هذا ما يفسر-على الأغلب- تجنب بكداش من لقاء الراحل صادق الذي كنت قد نقلت رغبته للحزب الشيوعي بالتعرف على بكداش…
اطلالة على نقد الفكر الديني:
يقول فيورباخ في كتابه اصل الدين “كان شغلى دائماً قبل اى شىء آخر أن أنير المناطق المظلمة للدين بمصباح العقل حتى يمكن للإنسان فى النهاية ألا يكون ضحية للقوى المعادية التى ستستفيد من غموض الدين لكى تقهر الجنس البشرى وكان هدفى هو أن أبرهن أن القوى التى ينحنى أمامها الانسان خاضعاً متذللاً هى مخلوقات من عقله المحدود الجاهل الجبان الذى تعوزه الثقافة لكى ابرهن خصوصاً على ان الكائن الذى يضعه فى موضوع أعلى منه ليصبح خصماً له كوجود خارق للطبيعة، مستقل، إنما هو فى الحقيقة الانسان نفسه والغرض من كتاباتى هو أن أجعل الناس انثروبولوجين بدلاً من أن يكونوا لاهوتين. أن يحبوا الانسان بدلاً من ان يحبوا الله ، أن يكونوا طلاباً لهذا العالم بدلاً من أن يكونوا طلاباً للعالم الآخر . أن يكونوا مواطنين معتمدين على أنفسهم فى هذه الارض بدلاً من ان يكونوا كهنة مراوغين خاضعين لحكومة كهنوتية وأرضية وعلى هذا فإن هدفى ممكن ان يكون اى شىء إلا ان يكون سلبياً هادماً فهو هدف ايجابى فأنا أنكر لكى اثبت . أنكر أوهام اللاهوت والدين حتى يمكننى أن أؤكد الكيان الجوهرى للانسان”.
لعل حديث فيورباح عن أصل الدين يفسر لنا حقيقة أن نقد صادق للدين لم يكن ترفا أرستوقراطيا نخبويا سلبيا، بل هو نقد وظيفي له هدف إيجابي، فهو ينكر لكي يثبت، ينكر اللاهوت والدين حتى يؤكد على الكيان الجوهري البشري للإنسان… وعلى هذا فإن نقطة الانطلاق لم تكن مسألة ذهنية بل مسألة واقعية كارثية تتمثل بهزيمة حضارية، تتطلب تغييرا ليس للواقع المهزوم فحسب، بل تغيير الكيان الانساني بجعل الناس “انثروبولوجيين بدلا من أن يكونوا لاهوتيين”… طالبين للعالم الواقعي بدلا من طلب العالم الآخر، مواطنين لا كهنة مراوغين، يحبون الانسان بدلا من أن يحبوا الله…
وعلى هذا فدعوة صادق لم تكن دعوة سلبية هدامة، بل دفاع عن مواطنه السوري والعربي والمسلم، وهو ليس دفاع (“هوياتي جوهراني” بل هو دفاع حضاري مشبع بالتنوير ومنظور الحداثة الذي لم يكن مصطلحا متداولا في تلك الفترة عربيا، إلا في المجال الأدبي (الشعري)، حتى شاع استخدامه فكريا وثقافية في التسعينات من قبل رابطة العقلانيين العرب في بيروت المهداة إلى ادوارد سعيد بالذكرى السنوية لوفاته…
أي وفق تعبير فيورباخ (انارة المناطق المظلمة للدين بمصباخ العقل)، التي ترى الانسان بعيون الانسان (الانثربولوجية)، وليس عيون السماء الغيبية اللاهوتية، أي ما كان يسميه راحلنا مصطلح الصورة الكونية لعصر ما، ولهذا فإن صادق كان صاحب مبادرة طليعية مع ياسين الحافظ الذي ترجم مقدمة كتابه (الهزيمة والايديولوجيا المهزومة) إلى اللغة الانكليزية ودرسها كنص نقدي حضاري لطلابه الأمريكيين كما أشرنا، وذلك عندما عزا هزيمة حزيران إلى كونها (هزيمة حضارية) وليست مجرد نكسة أو هزيمة عسكرية أو قومية، حيث عاد إلى الرؤية الأصلية للبنى الفكرية والنظرية للمجتمع العربي، ليس كبعد ايديولوجي واحد، بل بعد انثربولوجي حضاري تاريخي الذي سيصفه ياسين الحافظ لاحقا بـ(التاخر الحضاري)، وليس التخلف التنموي فقط) الذي يمكن حله في الخطط الخمسية. ولعل محاولة صادق ستشكل ريادة في فهم الهزيمة العربية الحزيرانية على أنها هزيمة كيانية كلية للمجتمع والدولة أو السلطة، وليست هزيمة عسكرية مثلتها الايديولوجيا القومية التي لم تر فيها سوى نكسة، كما سيوصفها الخطاب اليساري القومي لاحقا، بل وهي هزيمة حضارية للايديولجيا لدينية ذاتها، التي أرادت أن تعتبرها هزيمة العلمانية والابتعاد عن الله كما وصفتها تيارات الفكر الديني السياسي والمشيخي التقليدي الرسمي السلطوي… حيث صلى الشيخ متولي الشعرواي صلاة الشكر لهزيمة جمال عبد الناصر الشيوعي… بل هي هزيمة حضارية ايديولوجية لفكر وثقافة السلطة والمجتمع معا…
يقول الراحل الدكتور صادق جلال العظم في كتابه الذائع الصيت: (تبين بعد هزيمة 1967 أن الإيديولوجية الدينية هي السلاح النظري والأساسي والصريح للرجعية العربية في حربها ومناوراتها على القوى الثورية والتقدمية في الوطن… كما أن بعض الأنظمة التقدمية العربية وجدت في الدين عكازا تتكئ عليها في تهدئة الجماهير عن طريق مماشاة التفسيرات الدينية والروحانية للانتصار الإسرائيلي والخسارة العربية وصمتها حول انتظار النصر الجديد من عنده تعالى…)
إذن ستكون نقطة انطلاق السيرة الفكرية النقدية الجذرية لراحلنا، من أرض الواقع العربي المهزوم هزيمة شاملة، هزيمة فاقعة مادة لسانها سخرية وشماتتة وعقوبة للمجتمع العربي ببناه التحتية والفوقية، حيث كانت ترجمتها متمثلة في الصورة العسكرية القيامية المرعبة وهي تعلن امكانية السقوط العسكري لثلاثة عواصم عربية (القاهرة ودمشق وعمان) لو أرادت إسرائيل يومها ذلك.
وعلى هذا فإن حجم كارثة حزيران على وعي الشاب الثلاثيني في تلك الفترة، ملك عليه كيانه العاطفي والعقلي، فجعل من كتابته فعلا نقديا دائما حيثما توجهت مساراته الثقافية فلسفة وسياسة وتراثا وأدبا، حيث تتداخل العناوين الأربعة (الحداثة التنويرية والثورية العضوية) في سيرورة تجربة راحلنا الفكرية والسياسية…
فالحداثة في فكر صادق اقترنت بالتنوير وقادت إلى عضوية البراكسيس الغرامشي، حيث العلمانية لم تختزل في شكلانية خارجية لفظية مع أمشاج انخطافات سديمية برزخية عرفانية وشعبذات غنوصية كما عبرت عنها التجربة الحداثية لمجلة (شعر)، فقد تحايثت وتخالطت الحداثة عند صادق مع العقلانية والتاريخانية التي سيكتب عنها أهم كتاب فلسفي في العربية في بداية التسعينات تحت عنوان (دفاعا عن المادية والتاريخ)، هذه الرؤية للعقلانية والتاريخية للحداثة تمثلت في فهمه المميز لتجربة الديموقراطية العلمانية الاسلامية التركية، رغم أنه هو الأشد رمزية في الثقافة السورية والعربية لتيار العلمانية… سيما أن هذا الموضوع سيتهيكل كرؤية للحياة والمجتمع، مع تلازمه مع الديموقراطية واحترام حقوق الانسان، وبداية دخول الجماهير مسرح التاريخ، وهذا ما عبرت عنه شخصية (شامشا) في رواية آيات شيطانية التي توافقنا الراي مع الراحل باستعادته الرمزية الروائية لكائنيته الاجتماعية بعد أن حولته الغربة في لندن إلى
(تيس) لمقارعة الخطوب!! وذلك بعودته إلى صديقته الوطنية اليسارية زيناتي وكيل (الداعية إلى محبة الوطن كما هو عبر الاندماج فيه عمقا حتى الجذور…، ولعل ذلك يشكل جذور مصدر اختلاف صادق في موقفه غير المشروط من الثورة السورية (إن تأسلمت أم تعلمنت)، وذلك احتفاء بدخول الجماهير مسرح التاريخ، وليس بوصفها صراعا سياسيا بين (سلطة/معارضة) غير موجودتين إلا في صيغة عصابة/ميليشيات تتصارع على الغنيمة، وموقفه المؤيد الحاسم للثورة بدون تكتكتات وتدوير زوايا وتنازلات للأسدية، ستكون مثار خلاف في الراي بيننا منذ مؤتمر باريس لرابطة العقلانيين العرب سنة 2007، حيث تقاطع موقفي مع موقف الراحل صادق في المراهنة والتعويل نظريا على التجربة التركية في احداث المصالحة التاريخية بين الاسلام والديموقراطية والاسلام والعلمانية، وذلك بالتعارض مع موقف صديقنا الراحل أيضا جورج طرابيشي وبعض أعضاء المؤتمر من المثقفين الرسميين سوريين وتونسيين علمانويين قابلين للمصالحة مع أنظمتهم الديكتاتورية…
وهذا مثال يعزز راينا بالمسار الفكري للصديق الراحل (صادق) على طريق البراكسيس العضوي بالمعنى الغرامشي، في عملية التداخل التي وسمت ترسيمته الفكرية، بأن البداية التنويرية الحداثية ذات النكهة الليبرالية، كانت أرضيته الراسخة وهو ينتقل إلى مواقع الثورة السورية ، حيث الانتقال إلى الثورة الديموقراطية لا يمكن أن يتم على أرضية (قروسطية)، فلابد من الاندماج العضوي الذي ينتمي للثورة كمفكر جذري وليس هاويا أو محترفا سياسيا معارضا يجيد فن الصفقات والمراوغات، سيما أنه كان أكبر على المستوى الشخصي والفكري من أية تسويات شخصية فردية أو جماعية تؤمن له حيزا أو مكانا وامتيازا في حظيرة حكومات انتقالية مباركة أسديا باسم شعار لا غالب ولا مغلوب… وكأن الشعب السوري بإبادته الأسدية الجماعية يمارس هواية الانتحار الجماعي، وليس القتل الممنهج مع عدو خارجي استعماري (روسي أو إيراني)، في شكل قرابين تقدم نفسها أضاحي وفداء لمستوزري المعارضة، بعد أن غدت (موارضة: وهذا نحت لغوي من كلمتي موالاة ومعارضة).
هذا المسار كان يسير بخط متوازي بالتضاد مع ابن جيله (الحداثي الشعري الغنوصي أدونيس) الذي رفض ثورة شعبه السوري لكونه خرج من (الجوامع) على حد تعبيره، هاتفا للحرية وسقوط الاستبداد والطغيان العسكري الأمني الطائفي الأقلوي، في حين أنه أيد الثورة الدينية الخارجة من الحسينيات في ايران… حيث انحدر إلى مستوى الشتيمة لصادق في فهمه للحداثة عقلانيا معرفيا، وليس عرفانيا غنوصيا، وفق ما كانت تبشر بها مجلة (شعر) من خلال إحياء باطنية غنوصية طلسمية أقلوية انعزالية تجزيئية، والتي نال صادق الكثير من خمشاتها على يد أحد رموزها الأقلويين الباطنيين (أدونيس)… ولعل ذلك هو الذي يفسر تمايز الرؤيتين بين مثقفين من جيل واحد، حيث الحداثة الغنوصية ذات الجذور الريفية الغنائية ترحب بالثورات المذهبية (الطائفية الإيرانية)، والأنظمة الطائفية الأمنية العسكرية (الأسدية)…
في حين أن الثورية العضوية المندمجة في مشروع الحرية والتحرر كان مترابطا مع هذه الحداثة التنويرية من خلال التعويل على فضاءات المجتمع المدني، وليس العصبوي الأهلي الأقلوي الطائفي، وذلك من خلال تمثل الوظيفة السوسيولجية العصيانية لخطاب الحداثة بروحها الفولتيرية، حيث لا يزال ميراث الخطاب السياسي اليساري العربي مهيمنا على نظام الخطاب لدى المثقف الليبرالي العصياني (صادق)، خاصة في بدايات انطلاقته الفكرية في الستينات، عندما يتحدث عن الايديولجية الدينية بوصفها سلاحا نظريا وصريحا للرجعية العربية في حربها على القوى الثورية والتقدمية في الوطن…
اطلالة تاريخية خلدونية على مصطلح الحداثة:
لعل بداية علاقة تواصل الحداثة (الكونية) مع فكر النهضة الحديثة تراثيا كانت عبر محطات علاقة الفكر العربي الحديث بابن خلدون وتعرفه عليه واعتماده التدريجي كمنهج في الفهم والتحليل، حيث ابن خلدون هو أول من استخدم مصطلح (عالم محدث)، إذ كانت محطات تعرف العقل العربي الحديث إلى ابن خلدون مؤشراً دلالياً على بداية استئناف دخول العرب في التاريخ بوصفه تاريخا بشريا يصنعه البشر في علاقاتهم اليومية المعاشية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، وليس تاريخا فقهيا غيبيا لا هوتيا من جهة، وليس تاريخا سياسيا يصنعه الحاكم، بعد أن رثاه ابن خلدون وهو يعيش على انقاض خاتمته، وعلى هذا عاينا في أبحاث عديدة خط سير الحداثة الفكرية العربية، في مسار تعاطي الفكر العربي الحديث مع مقدمة ابن خلدون. وإذا كانت اللحظة الأولى هي لحظة الطهطاوي الذي نشر المقدمة عام 1857، فإن اللحظة الثانية هي لحظة محمد عبده الذي درس وشرح هذه المقدمة عام 1878 بعد عشرين سنة على نشرها، أما اللحظة الثالثة فقد كانت لحظة طه حسين الذي وضع رسالة دكتوراه عن فكر ابن خلدون في عام 1918، أي بعد أربعين سنة من تدريس محمد عبده لها في الأزهر.
إن ابن خلدون الذي رصد لحظة الانهيار والاضمحلال والضمور والانقباض كان يستشعر أن ثمّة عصراً جديداً ينبثق، وهو عصر النهضة والتنوير والعلم والصناعة، فوصفه متنبئاً به: “خلق جديد، ونشأة مستأنفة، وعالم محدث”.
ولهذا فنحن نستطيع أن نضع علاقة فكر صادق بالحداثة، عبر نسق العقلانية السوسيولوجية والتاريخية والثفافية لابن خلدون والتنوير النهضوي العربي (الطهطاوي– محمد عبده– طه حسين)، لكن بانعطافة نوعية أكثر جذرية حداثية تجاه فلسفة البراكسيس بمستواه العضوي الاندماجي، والرؤية الغرامشية الطامحة لتجديد شباب الإنسانية على حد تعبير غرامشي…
نقد الفكر الديني كاستمرار للنسق الخلدوني :
في العام 1969 نشر الدكتور صادق جلال العظم كتابه الشهير “نقد الفكر الديني” الدي أثار وما يزال عاصفة كبرى من النقد المؤيد أو المعارض في العالم العربي والإسلامي. وتعرض كاتب الكتاب وناشره إلى المحاكمة والملاحقات القانونية في بيروت، بحجة إثارة النعرات الطائفية والمذهبية والعنصرية، أو الحض على النزاع بين مختلف طوائف الأمة أو تحقير الأديان، بالرغم من أن الكتاب كما جاء في حيثيات الحكم الصادر بحق العظم يضم مقالات ما هي إلا “أبحاث علمية فلسفية تتضمن نقداً علمياً فلسفياً”.
وكاتبنا الراحل اليوم هو حالةٌ قل نظيرها في المنتج الثقافي العربي، فنادراً ما قام الفكر العربي الحديث بالتصدي الصريح للبنى الفكرية، وللإيديولوجيا الغيبية السائدة في مجتمعاتنا، لأن اقتحام هذا المجال يمس أكثر المناطق حساسيةً في العالم العربي “المسألة الدينية”، وهو تعبيرٌ صارخ عن مرحلة عاشها الفكر العربي بعد هزيمة العرب في حرب العام 1967 وقد تجلت هذه النكسة بشكل واضح في نقد الذات، إن لم نقل في جلد الذات، وسواء اتفقنا مع العظم أو اختلفنا معه، فهو أراد البحث بشكل علمي وفلسفي عن الأسس التي ترتكز عليها هذه الذات وخصوصا في بعدها الديني الذي يشكل نخاعها الشوكي، ومحاكمة هذه الأسس على أساس أن هذا العمل لابد منه من أجل تأسيس ذات علمية، إلا أنه بالرغم من حرصه على المنهج العلمي إلا أنه لم يستطع أن يتجرد من ذاكرته العربية الإسلامية، فمقاربته لموضوع “إبليس” في الفصل الثاني من الكتاب، هي رجع الصدى لما تناقلته الكثير من المدارس الصوفية الإسلامية والديانات الشرقية القديمة، (لكن العنصر الحداثي التنويري في الممارسة النظرية لصادق على طريق اندماجه العضوي بالمشروع الثوري لمجتمعه في كتاب “نقد الفكر الديني” تتمثل بفكرة تمرد ابليس من جهة، والقبول والتسامح الالهي في الاعتراف بالآخر ولو كان خصما عصيا…
يطلق العظم مصطلح الصورة الكونية لعصر ما، للدلالة على جملة آراء ونظريات على درجة واسعة جداً من التعميم والشمول والشيوع يسلم بها العصر تسليماً بديهياً لا شعورياً، حول أصل الإنسان ومصيره وحول الطبيعة والمعرفة والمجتمع والأخلاق والعمل والإنتاج، وبطبيعة الحال ترتبط محتويات الصورة الكونية لعصر ما، بحياة الإنسان في المجتمع وتعكس لحد كبير نوعية العلاقات الاجتماعية القائمة فيه وترتبط ارتباطاً جدلياً بنوعية العلوم السائدة في ذلك العصر وفق التأسيس الخلدوني، وهدف هذا البحث هو دراسة الصورة الكونية التي صاغها الإنسان الحديث منذ بداية القرن السابع عشر. فقد أدت الثورة العلمية إلى بروز صورة كونية جديدة تبلورت وتكاملت عناصرها على يد نيوتن، حيث اقتلعت المادية الساكنة (المادية الميكانيكية) من حيث المبدأ والأساس، الصورة الكونية الدينية السابقة عليها.
في الفصل الأول يحدد العظم ما يقصده بالدين، فهو لا ينظر إليه بوصفه ظاهرة روحية نقية خالصة وإنما من حيث هو “قوة هائلة تدخل في صميم حياتنا وتؤثر في جوهر بنياننا الفكري والنفسي وتحدد طرق تفكيرنا”، فالدين هو “مجموعة من المعتقدات والتشريعات والشعائر والطقوس والمؤسسات التي تحيط بحياة الإنسان”. هذا ويرى العظم أن الظاهرة الدينية في حوض المتوسط هي في انحسار دائم، ويحاول أن يحدد أسباب هذا التراجع في النقاط التالية:
“حركة النهضة الأوربية، الانقلاب العلمي ابتداءً من “كوبرنيكوس وانتهاءً بنيوتن”، الثورة الصناعية.، صدور كتاب أصل الأنواع لداروين وكتاب رأس المال لماركس، امتداد هذه الحركات الأربعة إلى خارج القارة الأوربية”
يرى العظم أن الموقف الديني القديم في طريقه إلى الانهيار التام لأن هناك تعارض أساسي وجوهري بين الدين والعلم وهناك نزاع واضح بينهما وما “محاولة طمس معالم النزاع بين الدين والعلم ليس إلا محاولة يائسة للدفاع عن الدين، يلجأ إليها كلما اضطر الدين أن يتنازل عن موقع من مواقعه التقليدية”.
ثم ينتقل صادق جلال العظم إلى معالجة موضوعه الثاني في كتابة وهو دراسة مأساة إبليس كما يسميها. طبعاً هذه الدراسة لا تدل بأي حال من الأحوال بأن صادق جلال العظم يؤمن بوجود إبليس أو الملائكة أو كل المقولات الدينية إذ يقول: “إن كلامي عن الله وإبليس والجن والملائكة والملأ الأعلى لا يلزمني على الإطلاق بالقول بأن هذه الأسماء تشير إلى مسميات حقيقية موجودة ولكنها غير مرئية.” وذلك وفق مقولة طه حسين في كتابه في الشعر الجاهلي أن ورود بعض الأسماء في الكتب المقدسة ليس حجة على وجودها الفعلي …
حيث أنه يدرس قصة إبليس بوصفها رمزاً يمكن وضعها في إطار الأسطورة، وهي محاولة تستعيد بمهارة (ماكرة) وفق نصيحة بريخت (قول الحقيقة بدهاء و بطريقة ماكرة)، وذلك كما كان قد فعل من قبل شيخنا المؤسس طه حسين لنقد الفكر الديني بتظاهراته الميثية الفانتازية كما في كتابه الشهير (على هامش السيرة)، الذي خلط الواقع بالمتخيل بجاذبية فانتازية ساحرة… ولهذا فإن راحلنا الكبير صادق حاول أن يوارب ويجمجم على طريقة التوحيدي، وليس طريقة المعري السافر الصريح… فيلجأ إلى التمييزات التصوفية بين (الأمر الإلهي والمشيئة الالهية)، حيث رفض ابليس كان للأمر الاهي وليس للمشيئة الالهية التي انصاع إليها، وعلى هذا فإن صادق يستعير لسان الإمام المقدسي في تأويل القول العصياني المتمرد للشيطان: “خلقني كما شاء، وأوجدني كما شاء، واستعملني فيما شاء، وقدر عليّ ما شاء فلم أطق أن أشاء إلا ما شاء، فما تجاوزت ما شاء، ولا فعلت غير ما شاء، ولو شاء لردني إلى ما شاء، وهداني بما شاء ولكنه شاء فكنت كما شاء… فمن يكون على القضاء عوني، ومن يطق من القدر صوني. ولكن كل ما يرضيه مني، رضيت به على رأسي وعيني، يا هذا ما حيلة من ناصيته في قبضة القهر، وقلبه بيد القدر، وأمره راجع إلى حكم القدم، وقد قضي الأمر وجف القلم”. لذلك واستناداً إلى ما تقدم يقول صادق، يجب علينا إحداث تغير جوهري في تصورنا لشخصيته ومكانته وأن نرد له اعتباره بصفته ملاكاً “وأخيراً يجب أن نكف عن كيل السباب والشتائم له وأن نعفو عنه ونطلب له الصفح ونوصي الناس به خيراً بعد اعتبرناه، زوراً وبهتاناً، مسؤولاً عن جميع القبائح والنقائص”
من الواضح أن راحلنا في هذا الكتاب كان يتغيا فعل الصدمة للعقل الراكد المستقيل على حد تعبير الراحل الدكتور محمد عابد الجابري… وهو يرتكز على وظيفة (تنويرية تحديثية/حداثية) بمعنى (الموديرنيتيه والمودريرنيزم )، أي في تشابكهما كمفهومين يشيران إلى تعالق بين البني الذهنية والبنى والسوسيولوجية وفق المنظور الانثربولولجي…
أي أن وظيفة الخطاب ليس في هذا الكتاب(نقد الفكر الديني) فحسب، بل وفي الكتاب النقدي الثاني (النقد الذاتي بعد الهزيمة)، تتحرك في اطار تنويري يرصد لا عقلانية العقل العربي عبر (صيانة الايديولوجية الغيبية بمؤسساتها المختلفة، وثقافتها النابعة من العصور الوسطى وفكرها القائم على تزييف الواقع وحقائقه)، على حد تعبير صادق، حيث هذا النقد سيهيء لتحولاته الثورية نحو العضوية السوسيوجية الوطنية المندمجة مع إحلام شعبه ووطنه في الحرية والكرامة من خلال التركيز على وظيفة الفكر ليس كتجريد فكري عصياني سباق فحسب، بل كوعي مطابق بواقعه من خلال انتاجه الفكري والثقافي في فترة الثورة السورية، بل وبواقعه الكوني من خلال كتابه النادر في الفلسفة العربية على حد تعبير الراحل الكبير محمود أمين العالم، الذي اعتبر هذا الكتاب (دفاعا المادية والتاريخ) بوصفه أهم كتاب في الفكر الفلسفي صدر في بداية التسعينات، وذلك من خلال الدفاع عن المنظور التاريخي المادي في زمن الهزيمة السياسية للاشتراكية الدولية الشيوعية عبر الحوار مع أرقى التيارات الفكرية العالمية في الفكر والفلسفة وهو ما سنعود إليه لاحقا…
أي رصد حالته الانتقالية للاندماج العضوي بالثورة التي مر صادق في جميع محطاتها المنتجة لربيع دمشق بل وللربيع العربي قاطبة، وذلك حسب توصيفه النابه والمميز على أن ربيع دمشق كان شرارة الربيع العربي قكريا ونظريا من خلال دور الفكر النظري السوري الذي حملته الصحافة اللبنانية إلى جميع أنحاء الفضاء الثقافي والسياسي العربي، من حيث بلورة مفهوم الثورة المدنية الديموقراطية بمعناها الجذري التي تطال عمارة المجتمع ذاته التي يؤسس عليها النظام الأسدي قاعدته الوراثية السلالية الطائفية، وهي عمارة طائفية عائلية عسكرية أمنية، وعلى هذا فإن التاريخ العلماني لفكر وعقل صادق لم يجعله يتردد في وصف الثورة بأنها ثورة تحرر وحرية (إن تأسلمت أو تعلمنت)، بعد أن حاول النظام وحلفاؤه دوليا على استدراجها إلى ساحته (العسكرية لعسكرتها وأسلمتها داعشيا وقاعديا)، وذلك لأنها ستخدم قضية المستقبل إذا استطاعت اقتلاع هذا السرطان المدمر لنظام (عدماني قابل أن يحكم ولو بمسوح الشيطان، كما هي الصورة التي آل إليها في هيئة (الولي/ الرفيق)… أي وحدة الكهنوت الباطني الطائفي الإيراني، مع الناسوت البعثي الأسدي الطائفي الذي لا يتردد بيت الأسد (الأب والابن) عن إعلان أنفسهم (عائلة إلهية مقدسة “علمانيا باطنيا”)، وهذا ما يعرفه صادق ليس عبر الكتب، لكن عبر الواقع اليومي في صورة رئيس مخابرات (أقلوي طائفي رعاعي قن)، يفرض على قسم الفلسفة الذي يراسه صادق أن يمنحه لقب الدكتورا بالفلسفة (الابستمولوجيا)…
النقد الذاتي بعد الهزيمة من نقدالسلطة إلى نقد المجتمع: تنوير/اندماج
النقد الذاتي بعد الهزيمة، هو نقد ينتمي للتنوير والحداثة في سياق الاندماج العضوي بالأسئلة الكلية المتصلة ببنى السلطة والمجتمع معا، مما يمكن أن ينتج وعيا سلطويا عربيا يستند إلى موروث ثقافة السلطة وثقافة المجتمع التقليدي، حيث الرئيس العراقي عبد الرحمن عارف، يوصي جيشه بنموذج القيم البدئية الاسطورية القابلة أبدا للتكرار والعود الأبدي، حيث يضع للجيش أهداقا بدئية أسس لها الصحابة في حروبهم اللاحقة (لا تقطعوا شجرة… ولا تقتلوا امرأة)… فالشجرة رمز استمرار الحياة الطبيعية، تتمازج متماثلة مع نماذج مستمدة من الأساطير البدئية لفهم الخلق والعالم حول وحدة الشجرة كرمز لأنوثة الطبيعة، مع رمز أنوثة الحياة الانسانية (المرأة)، حيث (الشجرة والانثى تمثلان الأنوثة الطبيعية، بينمكا الذكورة تمثلان الفعل فيها، (الاختراق) القضيبي، في حين أن المقاتلة في الجيش الإسرائيلي تحولت إلى جزء مهم من جيش الذكور، لعلى صديقنا الراحل جورج طرابيشي، لو واصل نص العظم لفسر بها حالة (الاخصاء العربي) بعد حزيران، بدءا من (العنينية القومية) الناصرية إلى (الإخصائية الأسدية) التي تحولت إلى حالة انتقام (إخصائي) من شعبه السوري بل والفسطيني واللبناني، قبل الاستسلام الحريمي لفحولة الولي الفقيه (الممانعة والمماتعة)، والبحث لديه عن أبطال من خلال زواج (الاستبضاع)، عبر التأليه الفحولي للجنرال سليماني…
فالنقد الذاتي بعد الهزيمة الذي طال الوعي الغيبي السحري الميثي للمجتمع وقابليلاته للوعي الخرافي قدم خدمة للسلطة التي سمت هزيمتها نكسة ، كما سمى أباؤهم هزيمة 1948 (نكبة)، ولهذا لم يكن غريبا على عبد الناصر صاحب النهضة القومية العربية الذي دخل حربا دموية مع السلفية الغيبية، أن يدخل لعبة سحر الأفيون الديني المسيحي حتى ولو كان ضد أفيون الأغلبية الشعبية المصرية، أي تصديقه لظهور السيدة العذراء واستبشاره بالنصر لظهورها…
هذا النقد للنسيج الخرافي للثقافة العربية من منظور حداثي تنويري لدى راحلنا الكبير، لم يشوش الرؤية لديه كما لدى الكثيرين من العلمانيين واليساريين السوريين، ناهيك عن مثقفي الطائفة العلوية الذين خلصوا فكريا ونظريا جماعيا إلى أن الاستبداد سمة فارة في أسيويتنا الشرقية، بل وهناك من (المثقفين الموارضين الطائفييهن) اعتبر أن مذابح النظام الطائفية الإبادية، ليست إلا نتاج دستور (1950 ) الذي تحدث عن دين رئيس الدولة، حيث أن الأحكام العرفية والحرب الأسدية الطائفية والاقليمية والدولية ضد الشعب السوري ليست إلا نتيجة لدستور 1950… فمصيبة سوريا وكارثتها وخرابها كانت بسبب الدستور وليس بسبب العرفية الأسدية وتألهها واستعبادها للشعب السوري، وذلك بسبب طليعية العقيدة العلوية (الفلسفية) حسب بعض الموارضين العلويين، وليس بسبب غنوصيتها السطحية الحسية الوثنية التي تفتقر إلى ميثيولوجيا وفانتازيا سحرية خيالية (كما لدى الفرق الباطنية السورية الأخرى كالدروز والاسماعيلية…) بل والاستعداد الوثني في الملة العلوية الأسدية وسحريتها وتأليهها للبشر من الامام علي حتى الإمام سلمان المرشد، انتهاء بأئمة بيت الأسد… وعلى كل حال فإن وثيقة النخبة العلوية التي تطالب ببقاء العلويين تحت الانتداب الفرنسي، كانت قبل دستور 1950… ودعوة النظام الطائفي الأسدي لاحتلال سوريا روسيا وإيرانيا، لم يكن بسبب منع بيت الأسد الذين حكموا نصف قرن لسوريا بهمجية ووحشية استثنائية بشريا، حيث رفض الأسديين ليسوا بوصفهم غير مسلمين كما وصفوا أنفسهم بعريضة الدعوة لبقاء الاحتلال الفرنسي لجبال العلويين خوفا على أنفسهم من المسلمين الذين يضطهدون اليهود في فلسطين على حد تعبير الوثيقة الشهيرة… وعلى هذا فسبب الثوة السورية ليست حربا دينية أو طائفية ضد العلوية كما تزعم النخبة العلوية (الموارضة)، بل بسبب همجيتهم المتوحشة الخارجة على السنن البشرية…
وعلى هذا فلعل أهم اكتشاف عربيا في هذا السياق (سياق صنمية السلطة الأسدية البدائية الحسية)، كان اكتشاف سمير أمين الذي كان صادق قد دعاه إلى ندوة قسم الفلسفة في جامعة دمشق، هذا القسم الذي أعطى مسحة مدنية حداثية حيوية للجامعة الأسدية (الغابية) في زمن رئاسة صادق له في المنتصف الثاني للتسعينات من القرن الماضي العشرين…
سمير أمين قام بأهم استعارة (فيبرية) مجازية من الماركسية، عندما أحل كلمة سلعة الواردة في عبارة ماركس (السلعة وثن)، بجملة موازية عربيا، أنه يمكن عربيا استبدال عبارة ماركس (السلعة صنم) بالقول: (إن السلطة صنم ) اعتمادا على فكرة (ماكس فيبر) بتقدم البنية الفوقية على البنى التحتية في مجتمعات ما قبل الأسمالية…
السلطة صنم، حسب سمير أمين، وإشكالية التأخر هي اشكالية استمرارية وأبدية مصفوفة هذه الدول العربية (الصنمية : جمهورية أم ملكية)، حيث البنى الثقافية والاجتماعية التقليدية ظلت بمنأى عن أية ضغوطات، بل وفي أمان وحصانة وحماية من قبل الدولة إن كانت (تأخرالية)-راسمالية أو (تأخراكية)- اشتراكية…
حيث أن النظام العربي (تأخرالي أم تأخراكي)، حافظ على البنى الذهنية التقليدية للمجتمعات العربية التي يحكمها، توافقا وتآلفا حول صلابة (نوياتها الاستبدادية، القارة والممثلة لروحيته وأصالته وخصوصيته كـ (استبداد شرقي)… وهو ما سينعاه صادق العظم على ادوارد سعيد ما سماه (الجوهرانية) التي حكمت منظور ادوارد للاستشراق، كوجه آخرة (للجوهرانية) التي تحكم نظرة أدبيات الاسلامانيين للكل الإسلامي بوصفه قيما قدسية متعالية عن الواقع والتاريخ، كوجه آخر لـ (جوهرانية) سلبية تشكل فحوى تركيبة الاسلام الحضارية واستقلاليتها الذاتية التي يسبغها المستشرقون على الكل الاسلامي بشيء من الازدراء، بمواجهة ما يعتبره الإسلامانيون (فضائل عظمى)…
الاستشراق والاستشراق معكوسا :
ففي القسم الأول من كتابه ذهنية التحريم ينتقد العظم مسألة الاستشراق لدي ادوارد سعيد ويعتبر أن الأخير (ادوارد) يرى العالم العربي تابعاً فكرياً وسياسياً وثقافياً للولايات المتحدة، لكنه يعترض فقط على شكل التبعية ويسعى إلى تحسين شروط علاقة التبعية وليس الدعوة إلى تحطيمها… هذه الفكرة سيتوقف عندها راحلنا صادق متهما راحلنا الثاني أيضا ادوارد سعيد بأنه يريد أن يقدم مشورة للأمريكان، مما سيغضب المثقف الفلسطيني العضوي الكبير الآخر الذي يحق له أن يفخر، بكونه من خلال ممارسته الفكرية ارتقى بالهوية الفلسطينية إلى مستوى العالمية الثقاقية، سيما وأنه كان شديد الاخلاص لقضية شعبه الفلسطيني، لا يتردد مع نجوميته العالمية أن يحاكي أطفال الحجارة بأن يرمي إسرائيل بالحجارة من الحدود الجنوبية…
ويرى العظم أن سعيد في كتابه الاستشراق أكد على مفاهيم المستشرقين تجاه الإسلام باعتباره تركيباً حضارياً متمايزاً وفريداً ويتمتع باستقلالية واستمرار في ذاته وأنه يتطلب نظاماً معرفياً خاصاً به لتحليله، ولا يمكن أن تطبق عليه أدوات الحداثة مثلاً أو التحليل الطبقي.
وفي هذا السياق يقول العظم: “إن نظرة سريعة لأدبيات الإسلامانيين تبين أنهم يستعيدون، بصورة شبه حرفية، التصور الاستشراقي للكل الإسلامي المتماسك دوماً عبر العصور، ولكن مع فارق واحد يتلخص في قلبهم للخصائص الثابتة التي يسبغها المستشرقون بشيء من الازدراء على هذا الكل، إلى فضائل عظمى”.
كنا نتمنى على المفكرين الراحلين الكبيرين (صادق وادوارد) أن يغنيا أفق انتظرنا المعرفي، بمدى ممكنات الاستفادة من أطروحة ماكس فيبر: إن التطابق بين البناء الفوقي والتحتي لم يتحقق إلا مع الأسمالية، وأن الايديولوجيا يمكن أن تسبق وتتقدم بل وتؤثر على نمط الانتاج في النظام ما قبل الرأسمالي… وهو الأمر الذي أخذه صادق على ادوارد ناقدا منهجيته التي تظهر وكأن الاستشراق الأكاديمي سابق على الاستشراق كمؤسسة، وهو مااستثمرة مفكر اقتصادي كسمير أمين في صيغة فكرته أن صنم العقيدة يحل محل صنم السلعة عربيا وإسلاميا، ولعل ذلك يساعدنا على فهم وتحليل ظاهرة الاسلام الرعوي الصحراوي البدائي (الداعشي القاعدي) في مجتمعاتنا ما قبل الرأسمالية المنتجة، أي زمن الرأسمالية الريعية التابعة، وذلك عندما استعار أمين عبارة ماركس (السلعة صنم بالسلطة صنم… أو ما سيفسر به ماركس “الاغتراب” بهيمنة “صنمية السلعة ” في مجتمع الرأسمالية… بينما مفهوم اغتراب (صنمية السلعة) في الرأسمالية العالمية، يأخذ شكلا (اغترابيا حسيا) في عالم ما قبل الرأسمالية عربيا وإسلاميا وعالمثالثيا، أي اغتراب الكائن داخل وطنه، بل وتغريبه بتهجيره فيزيائا جسديا وحسيا من وطنه أو الانتحار في المحيطات والبحار بحثا عن انقاذ الذات حسيا (صنميا).
دفاعا عن المادية والتاريخ / تقاطع التنويري الحداثي، مع العضوي الثوري
إذا كانت معالم العضوية الثورية لراحلنا تبرز في مرحلة الشباب في ارتباطه بالقضية الفلسطينية ليس فكريا وتنظريا بعد (النقد الذاتي للهزيمة) فحسب، بل وعمله الوظيفي في المؤسسات الفلسطينية، بل إن الكاتبة ليانة بدر الفلسطينية التي كانت طالبته في الجامعة الأمريكية، حدثتنا عن تجربته الريادية كأستاذ يصطحب طلابه إلى المخيمات الفلسطينية…
ومن هنا فإن حازم صاغية قد جانب الصواب عندما قرر (أن ثقافية العظم كانت تقترب من السياسي تدريجيا) بعد موقفه المؤيد للثورة السورية…
وكذلك يقع في ذات الخطأ بعض المثقفين اليساريين ممن كانوا معتقلين في سجون النظام من أعضاء الأحزاب اليسارية (حزب العمل الشيوعي الذي غدا اليوم حليفا للنظام، وحزب الشعب الشيوعي الذي انقسم بين معارض ومؤيد لخط اسقاط النظام الأسدي)، بأن صادق كان ساكتا سياسيا قي عقدي الثمانينات والتسعينات، وهذه الملاحظة طالما رددها اليساريون الشباب الذين دخل معظمهم السجن وهم طلاب جامعيون في العشرينات من العمر ناقدين صادق، بل كان النقد موجها نحونا جميعا نحن بعض مثقفي اليسار المنتجين للثقافة، وقد طال هذا القدح ليس صادق ونحن معه فحسب، بل وبدرجة أشد الراحل سعد الله ونوس الذي شاءت له الأقدار الأسدية أن يلتقي بمؤسس سلالة الزواحف الأسدية (حافظ )، ورغم فشل اللقاء كما حدثنا الراحل سعدالله، فإنه تلقى الكثير من ادانات المعتقلين السياسيين الشباب الذين أصبح معظمهم اليوم أسديين!!! بأن سعد الله لم يتطرق إلى مشكلتهم كمساجين… حيث ثمة اعتقاد لدى هؤلاء الشباب بأن صادق ورعيله جيل مساومة ومصالحة وصمت، وكان عليهم أن ينتفضوا ثوريا وراء قيادة رياض الترك أوفاتح جاموس ونخبهم الطلابية القيادية، التي كانت مبكرة وفجة وشعبوية شعارية منافسة للبعث في ايديولوجياه القومية، وهي لا تشابه أبدا ثورات الربيع العربي السوري سنة 2011، والتي كانت المساهمة الأساسية في بلورتها فكريا ونظريا تعود إلى المثقفين المستقلين الذين كان صادق أحد فاعليهم الأساسيين من خلال وثيقة لجان إحياء المجتمع المدني التي لم يشارك بها تمثيل حزبي واحد (علمانيا أم إسلاميا)، قبل القفز على ثورة ربيع الشباب العربي والسوري وركبه لا حقا من قبل الحزبوية اليمينية واليسارية الشمولية… في هذه الفترة السديمية الرمادية التي أعلن بها بوش ولادة النظام العالمي الجديد على أنقاض العراق وتسليمه لآيات وملالي فقهاء الفتنة الطائفية الشيعية الإيرانية كنواة لمستقبل الفوضى الخلاقة في الشرق الأوسط، وحرب الجميع ضد الجميع في خدمة المشروع الأمريكي عن الشرق الأوسط الجديد، دون أي تدخل أو خسارة أمريكية بانتظار يوم الحصاد الأكبر…
في هذه اللحظة التاريخية الفاصلة، حيث استشعار مراراة الهزيمة بعد سقوط بغداد، وإعلان روسيا الولاء للنظام العالمي الأمريكي الجديد، حمل المثقف (العصياني) المتمرد قنبلته اليسارية الماركسية الجديدة الصلبة دون اية مهادنة للجانب الليبرالي المتساكن فيه داخليا مع هذه الماركسية في فكر وسلوك ووممارسة الراحل صادق… فكان لا بد له أن يرد على مقولة (فوكوياما) نهاية التاريخ، أو نظرية (هنتنغتون) عن حرب الحضارات… بالدفاع عن المادية والتاريخ بوصفهما منهجا علميا معرفيا لا يسقط بسقوط الحاكمين باسمه سياسويا وشموليا ومن ثم المآل مافيويا بوتينيا، فيعود إلى أصول تكونه (الفلسفي الكانتي) مؤسس فلسفة التنوير، لاحياء مقولات (العقل والتقدم) التنويرية الحداثية، لكن من موقع المفكر العضوي الذي لم يرفع راية الاستسلام أمام يقظة مد الفكر السلفي: القوموي والاسلاموي واليساروي الشمولي الستاليني المسفيت.
سيما بعد أن تفككت القوى اليسارية الشيوعية إلى أصولها الأولى عموديا: دمويا، قرابيا، عائليا، وأصولها أفقيا، في العودة إلى ثقافة الهويات المللية والنحلية، وفي أحسن حالاتها إلى القوموية الشعبوية (الصدامية العروبية، أو الاسلاماوية الجهادية الشعبوية الشعارية الإيرانية، أو الكردوية التي راحت تصدق وتصادق على أن آدم وحواء أكراد (بيكيكي)… أو أن أغلبية الحزب الشيوعي اللبناني تلتحق بحزب الله الذي لا يختلف عن داعش والقاعدة سوى بحنكته التكتيكية أنه يسب أمريكا دون أيذائها فعليا…
لقد تفككت هذه القوى تفككا يظهر مدى الهشاشة الفكرية والتصدع المعرفي التي تكونت فيها هذه الأحزاب، بوصفها تكوينات سياسوية رخوة وليست تأسيسا فكريا ومعرفيا صلبا.
عندما صدر هذا الكتاب (دفاعا عن المادية والتاريخ) في بداية التسعينات التي يعتبر فيها صادق ونحن رعيله من الجيل الثاني صامتين بالنسبة لسجناء اليسار الأكثر شمولية من السلطة الأسدية ذاتها في شعاراتها المفخفة لفظيا وبلاغيا، كان هذا الكتاب هو الصوت اليساري الديموقراطي التنويري الأعلى على المستوى العربي معرفيا في الدفاع عن التقدم التاريخي للبشرية بوصفه قانونا انسانيا وطبيعياـ وأن الراسمالية البوشية ليست نهاية العالم، وذلك ليس عبر لغو السجال السياسوي الفارغ المتخشب، بل عبر أرقى الحوارت الفكرية والنظرية والفلسفية مع التيارات الفكرية والنظرية للحداثة وما بعد الحداثة في الغرب الأوربي والأمريكي ، دفاعا عن الحداثة الديموقراطية التنويرية العقلانية، ومن موقع المثقف العضوي العالمي المقاتل في سبيل كرامة وحرية العالم باسره عبر تفنيد كل التيارات الفكرية التي أنتجنتها أساطين إعلام الغرب الأوربي والأمريكي والرسمي، ولذلك يمكن القول أن صادق في كتابه النظري الرفيع عربيا وعالميا، كان آخر من يصر في كتابه هذا على رفع راية التنوير والتقدم والحرية عربيا بل وعالميا بعد إعلان النظام العالمي الجديد.
وعلى هذا نفهم راي شيخنا الراحل محمود أمين العالم، عندما اعتبره أهم كتاب فكري فلسفي صدر باللغة العربية في فترة صدوره في بداية التسعينات من القرن الماضي العشرين… وعلى هذا فسابقى مدافعا عن فكرتي التي كتبتها غب ظهور هذا الكتاب، أنه إذا كان العرب في ما قبل الاسلام يحتفلون بميلاد شاعر المعلقة كفخر لقبيلته بأنها أنجبت شاعرا ، صوتا لها، فإنه فخر لقبائل العرب اليوم أنها مع كتاب صادق (دفاعا عن المادية والتاريخ) أن تقيم احتفالات كرنفالية بميلاد فيلسوف عربي سوري في العصر الحديث اسمه صادق جلال العظم… لروحه النبيلة الرحمة والغفران