إذا كان الشعر هو “ديوان العرب” فإن “العديد” هو السجل الذي تواطأ الجنوبيون دون قصد منهم علي تدوين مغامراتهم في الوجود وتجاربهم وخياراتهم الجماعية من خلاله، عندما حدث ذلك، كانوا يعرفون أنهم إنما يكتبون مراراتهم شعرًا، وهذه امرأة حزينة تطلب امرأة مثلها تقول القصائد لتبكي هي علي ايقاعاتها:
شوفوا لي حزينة متلي.. هي تقصِّد وأنا أبكي!
إنه الشعر لولا أنه ركيك ومباشر، ربما لأنه كان يقال ارتجالاً في ذروة اللحظة الحزينة ثم يعلَّب للاستعمال في المآتم القادمة دون محاولة منهم لترقيته أو تهذيبه، من هذه الناحية يمكن القول بأن معظمه خواطر حزينة، مع ذلك، يضاهي بعضه الشعر الراقي رقيًا، كهذه البنت التي تشكو من أن البيت بعد غياب أمها أصبح مسيجًا لا يعرف الزائر كيف يدخله، كأنما يحرسه عبيد يتكلمون لغة مجهولة، تلك الوحشة وذلك السور مع تضارب اللغات يأخذ “العدودة” إلي مرتفعات حسية شاهقة:
يا بيت أمي زرَّبوه (سوَّروه) داير.. تخشُّه منين يا اللي تجيه زاير؟
يا بيتها ياما زربوه قرطم.. حطّوا علي بابه عبيد ترطن!
ومن المؤسف أن الجنوبيين الجدد توقفوا عن التدوين واكتفوا باستخدام تراث أجدادهم، حتي مظاهر الحزن نفسها شحبت جدًا، لا لأن دواعي الحزن قد انخفضت، بل لأنه بات أليفاً، لقد نجح القهر المنظم في أن يدفعهم إلي الإيمان بأن السعادة بعيدة المنال، وبأنها ليست متاحة إلا للأغنياء لا لأمثالهم:
الفرح غالي ماهوش لكل الناس.. جوَّه مدينة,, وقفولها نحاس..
الفرح غالي في صناديقه.. وأش جسّر (جرّأ) الفقري يمد ايده!
ولربما لو لم تنضج جلودهم الداكنة تحت أشعة الألم لما تمكنوا من الصمود حتي الآن في بلدٍ يعمل حكامه المتعاقبين علي نبذهم وتهميشهم وإغراقهم في صراعاتٍ أهلية أسباب بعضها من شأنه أن يُهيِّجَ الضحكات، برغم هذا، وربما بفضله، لم تفارق أعماقهم مفردات الوطن الذي يطمحون إلي الحياة فيه أبدًا!
من الواضح طبعًا أن مجتمعات الجنوب غير سليمة في تفاعلها كعادة كل المجتمعات القبلية، مثل هذه المجتمعات الراكدة من الصعب أن تصاب بالشيزوفرنيا لأن هذه تستهدف الأصحاء فحسب، مع ذلك، كل من عايش الجنوبي يعرف جيدًا أنه المصري الأكثر انصياعًا للحزن وإخلاصًا له، وكل من تعرف علي شعراء الجنوب، كـ “أمل دنقل”، و”صلاح عبد الصبور”، و “عبد الرحيم منصور”، أو حتي “عبد الرحمن الأبنودي”، اكتشف بالضرورة أن أشعارهم ما هي إلا فصول أضيفت حديثاً إلي “كتاب الموتي” الذي ألَّفه آباء الجنوب الأوائل، مفردات حبلي بأصداءٍ لأحزان قديمة، ونفوس ممزقة يثقلها القهر، وأرواح مرتعشة تبحث عن ملاذ مراوغ، وأعماق مكدسة بمشاعر الإحساس بالغربة، وعناقيد الحنين المؤلم تتدلي من كل حرف!
مثل هذه المجتمعات أيضًا في بلد لا يطال القانون فيه إلا الضعفاء من الضروري أن تمجد القوة، فهي الطريقة الوحيدة للدفاع عن النفس، وليس غريبًا أن يكون الوصف بالطول أشهر الصفات التي يكيلونها للمتوفي:
اتنين والغاسل، دخلوا له.. أبو طول وافي، كيف عملوا له؟
وفي السياق نفسه، لأن معظم معارك الجنوب قديمًا كانت تدور بالعصي، استحوذ طول عصا الميت وغلظها، وقوة ذراعه تحديدًا، علي مساحة لا بأس بهم من مراثيهم، وهذه معددة تطلب من عائلة الميت الذهاب إلي صانع الشوم والزان شمال البلدة ليختاروا أثقلها للميت:
بحري البلد خرَّاط يخرط زان.. نقوا (اختاروا) الرزينة (الثقيلة) لابو دراع عجبان
بحري البلد خراط يخرط شوب.. نقوا الرزينة لابو دراع منصوب
ويصل توقع المهانة بالمرأة بعد موت فقيدها أحيانًا إلي اختزاله في ذراع فحسب:
يا دود كُلْ منُّه وخلِّي لي .. خلي دراع السبع يحميني
للشارب الجهم أيضًا حضوره القوي في مراثيهم لاعتقادهم أنه من أمارات القوة:
دود البلا يلعب علي شنبك.. ما اسرع تراب القبر ما طلبك!
ولا يزاحم الوصف بالقوة في المآتم كالوصف بالكرم، فالميت دائمًا كان كريمًا لم يحاسب زوجته علي مئونة البيت يومًا، ولم يغضبها:
عاش عمره ما كيَّل المونة.. ولا ست بيته جات مغبونة (مظلومة)
من الجدير بالذكر أن الجنوبيين متهمون بالغفلة، ونحن الجنوبيون بوصفنا المعنيون نضحك كثيرًا من الذين يرجموننا بهذه التهمة، ويقول الواحد منا لنفسه: دعهم فإنهم لا يعرفون أننا برغم قسوة الجغرافيا علينا وابتعادنا عن العاصمة نسبقهم وعيًا بمئات السنين، لا يعرفون أن هذا اتهام يروجه المستعمر ويوقظه كلما هدأ لنصدق نحن أننا هكذا، وبالقدر نفسه، ليبقي وشائج التوتر بين المصريين متصلة، ونصيب الجنوب من هذه الوشائج هو النصيب الأكبر، فقلما تنطفئ معركة في الجنوب قبل أن تقطع وعدًا بمعركة قادمة، وربما معارك، وما أكثر الذرائع وأتفهها، وهذه مكيدة كل الأنظمة!
نقول أيضًا لأنفسنا: يكفينا فخرًا أننا نعرف أن شعار “يسقط يسقط حكم العسكر” كان يتردد في مآتم الجنوب قبل أن يتوصل غيرنا إليه بمئات السنين:
يا اولاد الحكومة يا غز يا عسكر .. ولا تمسحوا اسمي من الدفتر
هنا فقط انهارت لأول مرة تلك الحدود الفاصلة بين الغزاة والعسكر!
كما كانوا يملكون من وضوح الرؤية قدرًا جعلهم ينتبهون إلي كل مفردات الدولة العميقة، واعتبروا القضاء أهم أدواتها علي الإطلاق، وفيما بدا أنهم كانوا واثقين من صحة ما توصلوا إليه، لم يجدوا غضاضة في أن يقسموا بالله، وهذا نادر جدًا في يوميات الجنوبيين، أو من عايشتهم علي الأقل:
واللهِ النيابة سورها مخلَّعْ.. وتخشَّها الجدعان تتمنَّعْ
واللهِ النيابة قدَّامها روبة (وحل).. وتخشها الجدعان مغصوبة
لقد سردوا مفردات الدولة العميقة في وعي مدهش، وها هم علي لسان الميت الذي كان في حياته قويًا مهابًا لا يخشي السلطة فهو يخوض بلسانه في جابي الضرائب المسيحي مؤكدًا أنه هو وحده الذي بإمكانه أن يحاسبه، كتبوا هذه الخاطرة:
قال للنصاري يا كلب يا ديري.. دير الحساب لا يحاسبك غيري
وهذا كلام مناسبات، لم يكن يحدث في الحقيقة، لكنه يعكس استغراقهم في الحلم بوطن هذه مفرداته، ما كان يحدث في الواقع هو أن جابي الضرائب كان يدهم صباحاتهم في حراسة تجريدة، وكانوا يضربون بقسوة شديدة، وعندما يذهب الغزاة آخر النهار يصبح مصدر فخر أحدهم الوحيد هو كثرة عدد الجلدات التي تحملها قبل أن تسقط العملة النقدية قيمة الضريبة من فمه، ولعله كان يفتح في المساء داره لاستقبال المهنئين!
ولا تستعجل أرجوك في اتهامهم بالعنصرية والاستهانة بالأقليات قبل أن تعرف أن هذه الكلمات كانت تتردد في مآتم الأقباط أيضًا، ذلك أن الأقباط حتي وقت غير بعيد كانوا شركائهم في العجز حقيقة، وما يبدو الآن من مظاهر التوتر والكراهية بينهم مدبرة ومقصودة وللأسف حقيقية، كما أنهم برأوا أنفسهم ضمنيًا من تهمة العنصرية حين خاطبوا صراف المال بصيغة الجمع وهو مفرد، كأنه يعتقدون أن كل النصاري هو جابي الضرائب، فالميت لا يشتمه لكونه قبطيًا، إنما بوصفه صرافاً فحسب..
بمرور الأيام وعصفها بالأرواح، تسربت إلي خواطرهم أصداء تاريخية لأحداث لم يسمعوا عنها أبدًا، كيف صمدت في ذاكرة المكان؟ لا أحد يدري، فبرغم أن التوتر بين الشمال والجنوب قديم جدًا، ما زالت مراثي الجنوب شاهدةً عليه، ولعلها هي التي أمنت له سهولة الانتقال من جيل إلي جيل بأمانة، وما زالت لعبة التحطيب شاهدة عليه أيضًا، ذلك أن اسم التحطيب في لهجات الجنوبيين حتي الآن هو: (سوَّة)، وهي ليست إلا المفردة الفرعونية: “سوَّت” وتعني “الحلفا البري” وصلت إلينا محرفة قليلاً، ولهذا الاسم سبب تاريخي، هذا هو:
كان نبات “الحلفا البري” هو شعار الجنوب في حربه الظافرة علي الشمال الذي اتخذ من النحلة شعارًا، عندما قرأت هذه المعلومة لأول مرة حدثت نفسي لماذا لا تكون لعبة النحلة هي ذكري لتلك الحرب البعيدة أيضًا؟ لماذا لا يكون الشماليون قد ابتكروا لعبة النحلة ليخلدوا ذكري مقاتليهم عندما كان المقاتل الصعيدي يمسك برأس أحدهم بين أصبعيه ويديره فيظل يدور علي الأرض حتي يسقط قتيلاً؟ وأيًا كان الأمر، لقد انتهت المعركة قبل آلاف السنين، مع ذلك، ما زالت رحاها تدور في مآتم الجنوب، ولحسن الحظ، جعلنا موت بعض الجنوبيين في الغربة نحظي بالكثير من الدفقات الشعورية التي تمزق النفس، علي سبيل المثال، هذه أم تعتذر لابنها لأنها يوم موته (عدمه) لبعد المنطقة (الملقة) تناولت عشائها، وهي تلقي باللوم علي نفسها لأنها لم تشعر بموته، وهي تقسم علي ذلك بـ (حرام):
يوم عدمك فتِّيت واتعشيت.. مَلَقَة بعيدة، حرام ما حسيت!
وهي تضغط بقوة علي بعد المسافة والتواءات الطرق لاستدرار الشعور بالوحشة وتنميته:
بلاد بعيدة وطرقها ليَّة (ملتوية).. بعيدة عليَّ في الروحة والجية!
ومن رحم الوهم، بحكم شهرته في مخالطة الشعراء، ولدت أبيات كثيرة من المراثي علي ألسنة الموتي، كهذا البيت الذي يحكي آخر مشهد من حياة الميت:
هاتوا المخدة واسندوا راسي.. أكتب جواب أشيِّعه لناسي
ثم يحدث انتقال سريع من بلد الميت إلي بلد موته ويطلبون من “بنت البحيرة” أن تطلق صرخة مدوية تكريمًا لموت الغريب:
بت البحيرة يا لابسة الطرحة.. أمانة عليكي تعطي الغريب صرخة
تحتد اللهجة فجأة عندما يستدعون من ذاكرة بعيدة ذلك التوتر القديم بين الشمال والجنوب، فيتوهمون أن بنت البحيرة سوف تترك كلبها طليقاً لاعتراض الجنازة وسوف لا تقيم وزناً لحرمة الميت:
يا بت البحيرة دخلي كلابك.. نعش الغريب فايت علي بابك!
السئ، أنهم بمجئ العسكر كانوا جميعًا علي وعدٍ بالمهانة والعيون الكسيرة، والأسوأ، أنهم آمنوا أن هذا الوضع واقعٌ غير قابل للتغيير، فقرروا أن يتعايشوا معه، وصار من مصادر فخر العائلة أن ميتها جلس ذات مرة علي مقعد بجوار موظف حكومي:
داخل لقا المدير وحده.. طلب له كرسي وقعد جنبه!
أو دخل قسمًا من أقسام الشرطة دون أن يترك كرامته عند الباب:
يا رب تيجي يا راكب البيضة (المهرة).. يا داخل المركز بلا هيبة..
أو أن يذهب إليه وكيل النيابة ليستشيره، وهذا ما وكزت السينما ذكراه وهيجهتا كفيلم “الزوجة الثانية” مثلاً، لقد كانت المحاكم تعتمد علي كلام كبار القري وتقضي وفقاً له حتي في وجود أدلة تؤكد بطلانه:
أودة (غرفة) جلوسه شباكها بالياي.. وقاضي النيابة يعيد عليه الراي
الأغرب أننا نجد في مراثي الجنوب صدي كبير لديانة المصريين القدماء، كهذه الأم التي تتخيل أن ملفحة ابنها القديمة قد تآكلت أطرافها في الحياة الأخري وهي تتأسف لأنها لا تجد أحدًا يحمل إليه ملفحة جديدة أعدتها له:
الملفحة دابت حواشيها.. حدانا (عندنا) الجديدة مين يودِّيها؟
باختصار، لا توجد منطقة في الأعماق لم يكتشفها العديد، كل مستويات الموت اهتدي اليها، لم ينسوا حتي تلك المرأة التي مات جنينها، وتخشي أن تنسيها الأيام اسمه فهي تقرر الاستعانة بمعلم يكتبه لها في ورقة تحتفظ بها:
اسمك مليح خايفة يتوه ويروح.. لاجيب خطيب ينزله في اللوح!
حتي اليهود، وذلك القتيل يعاتب قاتله قائلاً بأنه لم يسئ إليه ولم يذنب في حقه:
مالك ومالي يابن اليهودية؟.. لا ليك حدايا ذنب ولا سيِّة (سيئة)!
وهذه نماذج مقتطفة من كتاب “المراثي الشعبية” لـ “د.عبد الحليم حفني”، بعض مفرداتها مهجورة، ومعظمها ما زالت مستعملة:
هنا عالم يحتل السجن فيه مكاناً بارزًا، ويترهل حتي يصير وطناً يحاصر الجميع من كل اتجاه:
سجان وراه وسجان قدامه.. وسجان يحل زرار قفطانه!
وهذا الميت أيضًا كان سجينًا، وكان قبل سجنه عزيزًا في بلده، يأكل اللحم في حموة النهار، وهذا يبدو غريبًا لمن لا يعرف أن الجنوبيين يفضلون تناول اللحم علي العشاء، ولقد أصبح في السجن يستلذ ما كان يعافه خارجه:
عيال المعزة والدبح في الحموة.. صبحوا يقولوا الماسخة حلوة!
تحاوروا أيضًا مع الموت الذي اصطاد امرأة في ذروة توهجها وشرخ شبابها:
غزالك مليح.. منين يا صياد؟.. صدتها وفانوسها منقاد (مشتعل)
وللرجل التقي عديد خاص به:
طريق الجوامع تبكي عليه وتنوح.. فين المُصلِّي اللي يجي ويروح؟
وهذه أم أدركت أن ابنها مات وانتهي الأمر، وهي تطلب من القاتل أن يصوب بعد ذلك إلي أعلي ليمر الشباب من تحت الرصاص سالمين:
يا ضارب أم زناد (البندقية) علِّيها.. خلي الشباب يفوت تحتيها
ومن اللافت جدًا أنهم يجمعون علي موازاة القاتل بـ “ابن الحرام، كهذه الأم التي تتمني لو كانت رأت قاتل ابنها فثأرت له:
ابن الحرام يا ريتني ريته.. لاجْريت وراه بالنار وأديته
ابن الحرام حضر سكاكينه.. لا خاف علي عقله ولا دينه
يا بن الحرام ما زقيتني (سقيتني) كاسه.. والدم نازل من صميم راسه
يا بن الحرام ما زقيتني همه.. والدم نازل من صميم فمُّه..
وما زال الموت قائمًا، وما زالت أحواض الصباح الجنوبي لا ينبت فيها إلا الحنظل، وعند المساء يبتكر الجنوبيون نمائمهم الخاصة، وتتساقط الأعمار أمام أعينهم كحبات شعير تنمو بعد ذلك في موضع جلوسهم داخل السجن الكبير أعواد شعير بشري علي وعد متواصل بالألم والعزلة والهامش، تمامًا، كالشعير الذي ينمو في الموضع الذي كان الميت يضع فيه الحبوب لفرسه:
قدّام باب داره والشعير خضَّر.. مطرح عليق المهرة ما اتبعتر!
محمد رفعت الدومي