دخلت الثورة السورية عامها الرابع. تضاعف عدد الضحايا وبات الموت عادياً. اللاجئون أيضاً ازدادت أعدادهم ولم يعد مرحّباً بهم كما في السابق. نسينا طائرات الميغ وصواريخ السكود في زحمة البراميل والكيماوي والكلور والغازات السامة الأخرى.
نسينا التعذيب وبات الموت بغير طريقة هو الاستثناء. نسينا البيت لأن بيوت الكثيرين باتت مدمّرة وحياتهم مفتوحة على كل الاحتمالات. وتحقق الأمر الذي كان ضرباً من الخيال بالنسبة إلى معظم السوريين المؤمنين بالثورة، لقد رشّح بشار الأسد نفسه لولاية جديدة من القتل والدمار وكل البشاعات التي قرأنا عنها في الأدب والتي لم نقرأ عنها بعد، لأنها لم تحصل في التاريخ. من يعرف رئيساً أو زعيماً أو ملكاً أو سلطاناً مارس قتل شعبه لسنوات ثلاث، وها هو يرشّح نفسه لإكمال القتل للسنة الرابعة وربما الخامسة والسادسة..
كل ذلك القتل والدمار والتنكيل والتهجير، لم يقنع الشاعر الكبير أدونيس بأن ثمة ثورة في بلاده. وبأن ثمة جلّاداً يسكن في دمشق لا يعرف الرحمة. وبأن “العصابات الإرهابية” لم تكن موجودة على أي رقعة سورية عندما أعلن النظام على لسان الناطقة باسمه، وجود تلك العصابات. وربما يخيب أمل أدونيس إذ إن العلماني الذي خرج من الجامع بداية الثورة، لا يزال علمانياً ولم يتأسلم. لا بل وظلّ مؤمناً بالثورة ويعمل لأجلها. كثيرون ممن خرجوا من الجوامع، لا يزالون في سوريا. ربما لم يعد باستطاعتهم ممارسة حراك واسع كما حصل بداية الثورة، وربما تكيّفوا مع إيقاع الحياة هناك، وربما أصبحوا أكثر براغماتية في التعامل مع الآخر السفّاح والشبيح والضابط وعنصر المخابرات، إلا أنهم لم يتخلوا عن أفكارهم ولم يصبهم اليأس. إنهم يسكنون هناك، تحت القصف (حتى وإن باتت هذه العبارة ممجوجة ومضجرة)، لكنهم يعيشون هناك. ردود أفعالهم باتت مرتبطة بالأصوات المحيطة بهم، هدير الطائرات والقصف، وأعينهم تتسع لأعمدة الدخان التي باتت جزءاً لا ينفصل عن سماء معظم المدن السورية. وحركات أجسادهم مبرمجة على الوقوف عند الحواجز. صاروا خبراء في النظر بعيني الضابط وهو يتفحّص هوياتهم الشخصية “القاتلة”. إبن إدلب الذي ولد في دمشق وعاش فيها، يتجنّب المرور أمام حواجز محدّدة خوفاً من الاعتقال. إبن دوما وداريا وحرستا والحجر الأسود.. أبناء سوريا.
كم سورياً يجب أن يقتل ليقتنع الشاعر السوري العالمي أدونيس أن ثمة جلّاداً وضحية؟
“مأخذي على الثورات العربية أنها شوّهت الثورة وجمالها وحقيقتها… وهي بالنسبة لي في نفس الموقع مع النظام”. كيف يمكن للثورات العربية أن تشوّه الثورة وجمالها وحقيقتها؟ هل كان على السوريين أن يقوموا بثورة فرنسية مثلاً؟ وعن أي جمال يتحدّث أدونيس؟ هل رأى جمال عيني غياث مطر؟ هل لمح تلك الابتسامة التي تتدفق من نظراته؟ هل رافقه في جولته لتوزيع الورود على عناصر الجيش؟ هل يعرف أن الجيش يقابل الوردة برصاصة حرفياً؟ من يقتل جمال الثورة؟ من الذي أطفأ بريق أعين أكثر من 160 ألف سوري؟
بداية الثورة، تداول مقرّبون من عائلة الأسد أن أهل “السيدة الأولى” ينصحون “رئيس” البلاد، بعدم التهاون مع السوريين لأنهم “رعاع” والحذاء العسكري وحده يليق بهم. مع بداية السنة الرابعة للثورة، يرى “شاعر السوريين”، أن “مشكلة تغيير النظام، مشكلة ثانوية في حين أن المشكلة الجذرية التي نحتاج إلى حلّها هي تغيير المجتمع”! نحتاج؟ نون الجماعة؟ من نحن؟ من أنتم الذين تحتاجون إلى حلول؟ وهل بات المجتمع الذي هدر دمه أمام أعين وآذان الجميع، غير لائق بكم؟ أنتم العائلة الحاكمة بالدم وأصدقاؤها والمؤمنون بها وب”شرعيتها”. ألم تصف بشار الأسد بالرئيس المنتخب في بداية الثورة؟ الرئيس “المنتخب” قتل حتى اليوم، أكثر من 160 ألفاً وشرّد الملايين. ماذا كان سيفعل لو أنه غير منتخب!
المشكلة الجذرية تكمن في تغيير المجتمع، ليليق بكم. وهذا ما يحصل في كل الأحوال. الشعب السوري يقتل ويصفّى مع كل شهيق تتنفّسه. إنهم يبيدونه بكل ما تحتمل الكلمة من قسوة وخيال. يستخدمون الكلور لإبادته وكل ما توفّر من مواد سامّة. إنهم يطهّرون سوريا لتصبح جديرة بكم. الشعب السوري لا تليق به الحضارة، فدمّروا الآثار وأحرقوا الجوامع وقصفوا القلاع والمدن الميتة في ريف إدلب باتت ميتة بالفعل.
تليق تلك الأنقاض وبقايا العمارات الأثرية وركام الأبنية، بالطاغية “المنتخب” وبمن يقف في صفّه، إلى جانبه، ضدّ شعب ينتمي إليه، ويعاديه ويتعالى على أوجاعه وقهره وفقره.
ديمة ونوس – كاتبة سورية , روائية وقاصة – المدن