محمد سامي الكيال
لم يركز الكثير من المهتمين بالجماعات الجهادية التي نشأت في سوريا أخيرا، على دراسة الآيديولوجيا والفكر المعلن لهذه الجماعات، ومحاولة تحليله، وقياسه بالظرف الاجتماعي والتاريخي الذي نشطت وتفاعلت ضمنه، بل كانت أغلب تحليلاتهم تنصب على سرديات شبه بوليسية لظهور وعمل هذه الجماعات، مما أخر كثيرا ظهور دراسات تعنى بدراسة هذه الجماعات من الداخل، وجعلت معرفتنا عنها تقتصر على تحديدات سطحية، ركزت على الغرائبي والشاذ فيها، ضمن معايير مرهونة بآيديولوجيا المحلل ورؤاه السياسية الأحادية.
وإذا كان لنا أن ندرس الفكر المعلن للجهادية في سوريا، فسنصطدم في البداية بأن التشكيلات الأولى للجهاديين لم تعلن لنفسها فكرا محددا، مكتفية بخطاب إعلامي شديد الاحترافية، ركز على الكفاءة العسكرية منقطعة النظير في مواجهة جيش النظام، مع غموض متعمد حول المقاصد السياسية والاجتماعية لقتالها، والاكتفاء بدمدمة مبهمة عن مبدأين مترابطين عضويا؛ هما «الغربة» و«النصرة».
لفكرة «الغربة» امتداد معروف في التراث الإسلامي، خاصة الصوفي منه، ودلالاتها القديمة تنصب أساسا على الهجرة الروحية (وقد تتبعها هجرة مكانية) عن ماديات العالم القائم على الفساد والشرك، إلى فضاءات الإيمان والصلاح الأخلاقي، وعرفت الفكرة تطورا مهما مع ظهور «الرباط» على الثغور الإسلامية، وهو تجمع عسكري – صوفي للمقاتلين المسلمين الذين هجروا ملذات الحياة للدفاع عن حدود بلاد الإسلام، واندمج تنظيمهم العسكري مع تنظيمهم الديني في حلقات صوفية. ورغم العداء الشهير بين الصوفية والسلفية، فإن السلفية الجهادية مع ظهورها استعادت مفهوم الغربة بكل أبعاده، فباتت الغربة الروحية ومن ثم العسكرية، غربة جهادية لأفراد شبه منبوذين من مجتمعاتهم «الفاسدة»، تركوا كل شيء وراءهم وهبوا لنصرة المسلمين المضطهدين على امتداد العالم.
مع نشأة جبهة النصرة في سوريا، بدا أن الجهادية بنسختها السورية قد استعادت أفضل ما في أرشيف «الغربة»، فأولئك المقاتلون المحترفون، رغم كل ظلال الشك التي تحوطهم، أعلنوا بشكل غير مباشر أن هدفهم «النصرة» وليس «السيطرة»، عاشوا على أطراف البلدات والمدن، ولم يتدخلوا بشكل مباشر بشؤونها، وعرفوا بانعزالهم وأخلاقياتهم العالية إذا قيست بأخلاقيات بقية الكتائب، وبعدم تورطهم بأعمال السلب والخطف، قاتلوا النظام بكفاءة عالية، وإمكانات لوجيستية معقولة، مما دفع الكثير من مقاتلي الجيش الحر إلى ترك كتائبهم والانضمام لـ«النصرة»، بعد الخضوع لتدريب عسكري متقدم وإعداد آيديولوجي غامض، يسمح بالحفاظ على «نخبوية» الحركة.
فضلا عن هذا لعبت «النصرة» في بعض المناطق دورا اجتماعيا هاما، من حيث الإغاثة والدعم والإدارة الحياتية البدائية، وساهمت في إحداث تغييرات اجتماعية هامة، كما حدث في مدينة بنش الإدلبية، التي عُدَّت في إحدى الفترات عاصمة النصرة في سوريا، حيث ساهمت «النصرة» بشكل خفي في رفع عناصر قيادية جديدة من الفئات الشعبية الأكثر فقرا والعائلات الصغيرة، وحطمت التسلط الاجتماعي والعسكري للعائلات الكبرى المتنفذة التي هيمنت على المدينة بعد تحريرها، وكادت تدخلها في معمعة صراعاتها البينية الصغيرة.
وعلى عكس فصائل جهادية سلفية أخرى كـ«أحرار الشام»، لم تصدر «النصرة» أي منهجية فكرية أو سياسية مكتوبة، واكتفت بالدعاية لنشاطها العسكري، واستغلت بذكاء جملة الاتهامات والتساؤلات التي طرحها الآخرون حولها لإكمال نسج هالة الغموض المثير المطلوب حولها، مستثمرة مبدأ مهما في سردية الغربة، وهو أن الغرباء مظلومون من الأغلبية، يساء فهمهم، ولكنهم لا يأبهون ما داموا مصرين على اغترابهم عن حيثيات هذا العالم.
باختصار أجابت «النصرة» بكفاءتها العسكرية، وتيمتها الأثيرة حول «النصرة» و«الغربة»، وبتعاملها الاجتماعي مع البشر، عن الكثير من متطلبات الفئات الثائرة، والأكثر تهميشا وتضررا في المجتمع السوري، وأمدتهم بآيديولوجيا براقة ضمن حرب وجود دموية قاسية، مما أكسبها قاعدة بشرية قوية نفذت إلى مفاصلها القيادية وأعطتها سمتا محليا واضحا، دون التضحية بـ«نخبويتها». هذا الدهاء في التعامل يجعلنا نتساءل عن حقيقة «الغربة» التي طرحتها «النصرة»، هل هي فعلا صفاء صوفي عميق منزه عن الغرض، أم استثمار آيديولوجي سياسي واع، شديد النجاعة والربحية؟!
حدث شهير كان بمثابة القطيعة مع هذه السيرورة والتطور الطبيعي لها في الآن ذاته، وهو إعلان البغدادي لدولة العراق والشام الإسلامية، ودمج «النصرة» في بنيان دولته، والاعتراض المهذب للجولاني زعيم «النصرة» على هذا الإعلان، واستعانته بالسلطة الرمزية لأمير الجهاد الظواهري ومبايعته له، ومن ثم إعلان هذا الأخير حل الدولة.
كان استثمار حيثية «النصرة» وتقدمها في سوريا أمرا متوقعا، فـ«الغربة» المغرقة بتاريخيتها حقا، والعاملة بذكاء ضمن معادلات الواقع الاجتماعي وتعقيداته، والمسيطرة على الكثير من الخطوط والمفاصل، كان لا بد لها يوما أن تصل إلى إنتاج سلطة مكرسة وواضحة المعالم، ضمن حدود الممكن والظرف العام. هنا يكمن الاختلاف الأساسي بين البغدادي والجولاني، فتوقيت إعلان الأول وفجاجته، وسعيه للهيمنة دفعة واحدة على ما عمل أمراء «النصرة» على بنائه بصمت وصبر طيلة شهور مريرة، وعدم التفاته إلى الخصوصيات المحلية وتعقيداتها، جعل إعلانه تسلطيا أرعن، ومغتربا في عمقه!
لم يمنع هذا دولة البغدادي من اجتياح الأرض السورية، ومن قيام الكثير من المقاتلين الأجانب والسوريين بتغيير ولائهم من «النصرة» إلى الدولة، إلا أن دولة البغدادي بقيت غريبة عن وسطها مهما حصلت من مبايعات شكلية، كما أن أسلوبها التسلطي في التعامل مع الناس وقعودها عن حرب النظام وانشغالها بتثبيت أسس سيطرتها وتوسعها في الأرض المحررة، جلب عليها الكثير من النقمة والعداء. موضوعيا قدمت دولة البغدادي للنظام كل ما يحتاجه في حربه الإعلامية ضد الثورة، سواء على الصعيد الداخلي بين المؤيدين والمعارضين، أو دوليا في الأوساط التي تمتلك حساسية خاصة من الإسلاميين. لم يتورط أنصار «النصرة» المخلصون بحرب معلنة ضد الدولة، وصبروا على ابتلاعها لمواقعهم ومقاتليهم، ولكن إلى حين، فتدريجيا تنحط دولة البغدادي وتعزل، وتأخذ مكانا غير مستحب في المقاولات السياسية الإقليمية، في حين تمضي «النصرة» بتحالفاتها ومنهجها العسكري القديم لتحاصر الدولة من جانب خفي، وإن كانت في إطار هذه الحرب شبه الباردة قد اضطرت للكشف عن الكثير من أوراقها ومطامحها الحقيقية.
ضمن هذا السياق، وعلى العكس مما يبدو للوهلة الأولى، تبدو دولة البغدادي مغرقة في «غربتها» في حين يظهر منهج «النصرة» أقرب لطموح «الدولة». ولكن مع استفحال الخراب الاجتماعي السوري، وغرق قادة الحرب في مناكفاتهم السلطوية المحلية، دون عميق التفات إلى تماسك قاعدتهم البشرية المفترضة، لم يعد من الممكن الحديث كالسابق عن إجابات على متطلبات اجتماعية ما، فلعبة الحرب والسلطة ضمن هذا الوضع، لن تجعل من قادة هذا الصراع أكثر من أمراء حرب من ورق على أرض يباب.
* كاتب سوري
منقول عن الشرق الاوسط