جورج كدر – كاتب وباحث وإعلامي من سوريا: التراصوت
لاقت بعض الأساليب اللغوية التي كتب بها القرآن الكريم، والتي كانت معروفة بين العرب، سجالات وآراء مختلفة ومتباينة منذ بدايات الدعوة، كان على رأس تلك الأساليب السجع، وقد دخل القوم في اختلافات شديدة وصلت حد الصدام، فبعضهم لم ير في “قرآن محمد (ص)” أكثر من سجع كهانيّ، فيما نفى الآخرون ذلك بشكل قطعي.
كان لسجع الكهان فوائد لهم فهي تحيط نبوءاتهم بهالة من العظمة والخفاء، فتكون أنفذ وقعًا
حفل التراث العربي بأسماء عشرات الكهان وأسجاعهم التي يشبه إيقاع تلاوتها الآيات القرآنية، وقد جمعها الدكتور ياسين جمول في كتابه “أسجاع الكهان الجاهليين وأشعارهم”، وفيه أن الكاهن لم يكن صفة لكل من يشتغل بأمور الغيب والتنبؤ بالمستقبل، بل كانت العرب تسمي كل من يتعاطى علمًا دقيقًا حيث يعرف أسرار صنعته: كاهنًا.
وكان الكهان لا يلقون نبوءاتهم إلا مسجعة، كما يقول الدكتور إلياس بلكا في كتابه “النظرية الإسلامية في الكهانة”، وغلب ذلك على كلامهم، وعرفوا به، كما كان لسجعهم فوائد لهم فهي تحيط نبوءاتهم بهالة من العظمة والخفاء، فتكون أنفذ وقعًا، ويكون للكلمات أثرها السحري في النفوس، ولذلك قال النبي لما سمع خطبة التميميين وأعجبته: “إن من البيان لسحرًا”.
السجع والنص الديني
إذن، السجع بحد ذاته من جماليات اللغة، وله فوائد كبيرة في إيصال الرسالة للناس، وفي الحقيقة لا أدري لماذا كل هذا الخوف والقلق من فكرة السجع القرآني هل هو سجع كهاني أم شعري؟! وطالما أن القرآن نزل بلسان عربي مبين، والسجع شكل من أشكال التعبير العربي، واشتهر بينهم بأثره الواضح على تلقيهم فطبيعي أن يخاطب الله المؤمنين بلغتهم.
حسم القرآن الكريم جدل الناس واتهامهم للرسول بكونه كاهن أو شاعر أو ساحر
وبكل الأحوال فقد حسم القرآن الكريم جدل الناس واتهامهم للرسول بكونه كاهن أو شاعر أو ساحر نتيجة هذا السجع في سورة الحاقة 38-43: “فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون، إنه لقول رسول كريم، وما هو بقول شاعر قليلًا ما تؤمنون، ولا بقول كاهن قليلًا ما تذكرون، تنزيل من رب العالمين”.
الإله المقه
ما أريد قوله هو أن استخدام السجع في القرآن حتى لو كان سجعًا كهانيًا، أدى إلى التهاء الفقهاء والعلماء بتفاصيل سخيفة لن يضيع عن القرآن الكريم قيمته في التاريخ البشري؛ سيما أن الأدب الديني القديم عرف هذا الأسلوب قبل مئات السنين من نزول القرآن الكريم، وبين يدي اليوم دراسة غاية في الروعة للعالم اليمني الراحل مطهر الأرياني نشرها في العدد 41 صيف 2005 من مجلة “ثوابت” اليمنية بعنوان “أنشودة من محرم بلقيس”، وهي أنشودة سبئية رائعة موجهة للإله السبئي الأعظم “المقه”، هذا الإله الذي لا يزال اسمه إلى اليوم واضحًا بشكل لا لبس فيه في اسم مدينة “مكة”، بإبدال “القاف والكاف”، هذه المدينة التي حار العلماء في معرفة معنى اسمها، وسيكون لنا وقفة مطولة معه.
لبيك تعالى وبورك اسمك
اكتشف نص هذه الأنشودة المسندية، وهي “السمدة أو السمودة بلغة اليمن القديم” في معبد الإله المقه “أوام-بمأرب” في العام 1952 أثناء عملية التنقيب الأولى التي قامت بها المؤسسة الأمريكية لدراسة الإنسان برئاسة المسكشف ويندل فيلبيس، مع تمثالين من البرونز لثورين وتمثال الأيل والثور يرمز إلى الإله المقه، وهذه الأنشود هي أنشودة دينية عسكرية وطنية مكرسة للإله المقه، كهبة قربانية، يرجح العالم اليمني المخضرم وأحد أهم المؤرخين والباحثين في تاريخ اليمن القديم مطهر الأرياني أن تاريخها يعود إلى النصف الثاني من القرن الثالث الميلادي، ولكن هناك دلائل قوية تقدر تاريخه لفترة أقدم بين 90 ميلادي و170 ميلادي تقريبًا.
السجع مهمة المنشدين
يتكون النقش من 23 سطرًا ومن 8 فقرات، وديباجة وسبع رباعيات، وهي أنشودة ذات طابع فني كتب لتغنى بلحن فني أو هي نص أدبي من النثر الفني المسجوع أو من الشعر. كتبها “رنعم.. السبئي” ورنعم يعني في لغة المسند “المنشد”، وهذ يؤكد أنه كان هناك طبقة من الكهنة المنشدين في معبد آوام وغيرها من معابد الآلهة، سيما أن هناك تشوهًا في مكان الاسم يعيق قراءته كاملًا.
وهنا أرى أن الحرص على استخدام السجع في النص الديني كان له أثر واضح في التلاوة، ليحقق انسابية النص بين قلوب المؤمنين، ويتيح للمنشد إيصال الفكرة الدينية بأعلى حالات التأثير الروحي. وهذا النص المسندي الهام يؤكد لنا أنه كان هناك طبقة منشدين في معبد الآلهة تعتمد صياغة النص بأشكال مختلفة -كما كان حال هذه الأنشودة- التي كتبت على شكل ديباجة، ثم صيغت بشكل رباعيات، أي أنه كان لكل شكل من أشكال كتابتها مهمة دينية وجمهور مستهدف من المؤمنين.
الحرص على استخدام السجع في النص الديني كان له أثر واضح في التلاوة، ليحقق انسابية النص بين قلوب المؤمنين
يقول الأرياني الذي قدم ترجمة فريدة لهذا النقش: تفاعل الإنشاد الديني أو اندمج في الحالة الدينية المهمة، التي كانت تؤمن أن الإله (المقه) هو ذات إلهية كلية كبرى، وأن أسماءه وصفاته تتجلى في ذات إلهية صغرى “مثل كهل، إله النصر، ذو المطافات.. لأن الحجاج كان يحجون لمعبده زرافات، وثهوان “القائد المحارب”، كل واحدة من هذه الصفات قائمة بذاتها، ثم تخيل المنشد هذه الكيانات الإلهية المتعددة وكأنها إذا حل أمر مهم، تتنادى إلى الاجتماع وتوزيع الأدوار في هذه المهمة، وخاصة إذا كانت حربًا كهذه التي يتحدث عنها النقش، يضيف الأرياني “لعل القصد المتوخى، الذي أراد المنشد أن يبرزه، هو أيضًا ما يتصف به الإله (المقه) من القدرات الخارقة والصفات الكاملة، وقدرته مع صوره المتعددة وصفاته، على عدد من الأعمال العظيمة بتعاون داخلي منسق بين الذوات، ومتلائم مع الموضوعي الخارجي زمانًا ومكانًا. ويبدو أن صاحب السمودة أو الأنشودة ، قد اختار من حالات تجلي (المقه) حالته الكهلية، لتكون في الصدارة، ولعله وقف أمام المجسم الذي يمثل الإله (كهل) فوق الجوب الصلل في معبد أوام وأدى له هذا النشيد غناء، إما بترتيل المتدين الوقور، وإما بحماس المنتصر القوي؛ على حد تعبير الأرياني.
وقد اخترت من هذه رباعيات الأنشودة هذه الآيات؛ ويمكن الاطلاع عليها كاملة فهي متوفرة على الإنترنت:
لبيك يا كهل، إله النصر، ذا “الجوب الصلل”
وبورك اسمك الأجل
هلك في أوم، عن كينونة منذ الأزل
وأمرها سرّ عَضل
لبيتك العظيم لم يجد نظيرًا من سأل
ودو أسيك من مَثل (لم أجد مثيلا لك)
لا في قديم أو حديث أو بناء محتمل
ما كل من جاء فعل
بوركت يا كهل البهي ليس عبدّ بَجّلك
بصانع الشروق لك
ولا الذي صد عن الخضوع والطاعة لك
بخاسف منازلك
لك الشروق والغروب ومدارات الفلك
وكل شي هو لك
من عصاك ناله من ضَركِ الحال الهَلَك
فعاد كي يخضع لك
ثهوان كم خصمًا أزاله وكم ضُرًا حسل
وكم عزيزا قد أذل
مِن كل مَن علا من الناس ومن منهم سفل
ثهوان سيف لا يُفل
ملكُك يوم النصر يا كهل تعالى في شمم
ومجد جيشك استتم