تدور التراجيديا المارونية منذ أوّلها، حول الإقطاع والمشاركة، حول الحرية والتبَعية، الشرق والغرب، الاستقلال والقَيد، العرب والغرب. كل قرية كانت مشروع نْقار، لذلك كان لكل قرية “شيخ صُلح”، باعتبار أن الخناقة هي طبيعة الأمور، وتالياً، الصلح سيد الأحكام.
يُستعاد المشهد السياسي الماروني كاملاً عند المفارق والمقاطع وصفّارة السباق. الرئاسة حياة أو موت. بلسَم وعلقَم. الوجود والعدم. ينشقّ حولها الموارنة كأنها المُلك ويتقاتلون عليها كأنها المَلَكوت. لا يهمّ ماذا بقي منها وعلى ماذا أبقوا. فالرئاسة هي العهد. ولبكركي مَجدها.
المشهد الماروني مؤلم ومرير. دعت بكركي أربعة من الزعماء السياسيين للبحث في أمر الرئاسة التالية: الشيخ أمين الجميل، الجنرال ميشال عون، الدكتور سمير جعجع والوزير سليمان فرنجيه. لم تشرح بكركي معايير الدعوة، لكنها في هذا الانتقاء، كبَّرت، عفواً أو عمداً، الصورة التقليدية للتراجيديا المارونية. في كل عائلة سياسية مأساة. في كل تجمّع فِرقة، غالِبها دموي. سليمان فرنجيه هو الناجي الوحيد من مقْتَلة العائلة في إهدن. أمين الجميل هو الذي انتُخب رئيساً بعدما لم تدُم رئاسة شقيقه سوى بضعة أيام. ميشال عون هو قائد الجيش الذي واجه بالدبابات الجانب الشرقي من الجبهة. وسمير جعجع هو الذي شهد تخريج 300 ضابط ردفاء للجيش.
كانت الدنيا حرباً. لكن الحرب الكبرى دارت في قطاع الموارنة. والهجرة الكبرى قامت – كالعادة – من مرافئهم. لم يحققوا ذراعاً واحداً خارج القطاع. أما في داخله، فتكرّرت المآسي وكثُرت المعارك وتعدّدت الولاءات وتنوّع التحالف المضاد وتعمّقت الاستعانات بأهل الخارج وذوي النفوذ وحاملي مفاتيح السطوة.
ذهب الموارنة إلى الطائف، ضعَفاء مجرّدين من المناعات، يعطون صورة مخالفة تماماً لواقعهم. صورة توحي بأن الرئاسة مكتظة ظلماً بالصلاحيات، والطوائف الأخرى حزينة، وأن الجيش “الفئوي” يحتلّ القصر الجمهوري ويحاصر النواب، وأن الموارنة فئة معادية للعرب، تريد ضرب الفلسطينيين وطردهم، وأن جماعة منهم، سمّيت في العالم “الميليشيات المسيحية”، هي التي ارتكبت مجزرة صبرا وشاتيلا بإشراف شخصي من أرييل شارون.
انتهت الحرب على “المارونية السياسية” وجمهورية الميثاق الوطني، من غير أن تنتهي حرب الموارنة. خسر الموارنة الوجود السياسي بكل أشكاله السابقة، كما فقَد المسيحيون معظم وجودهم الحسّي في المناطق المختلطة. وذهب قائد الجيش منفيّاً بقرار رسمي إلى باريس على طريقة الفرَمانات السلطانية التركية، بينما ذهب الرئيس أمين الجميل إلى المنفى نفسه بموجب تبليغ من الكتائبيين السابقين. وكان ريمون إده قد سبق الجميع، لا يسمح لأحد أن ينفيه سوى نفسه. قبل يوم من وفاته قال لطبيبه: “أنا مفارق غداً”. فاعترض الطبيب، فنهرَه العميد: “قلت لك غداً، يعني غداً. أنا العميد لا أنت”.
كان ريمون إده اللون المرح في الصورة المارونية التي كثيرٌ قُتومها. من منفاه كان يُظهر الخوف والكآبة فقط عندما صارت الحرب على أبواب بكركي. مرة عندما عُثرَ على أسقف مرمي على أبوابها، كرسالة من رسائل الطاعون، ومرة عندما دخلت الصرح نسوة فاجرات، غليظات، سوقيات، وهن يضعن أقفيتهنَّ مكان وجوههنَّ. أي أفضل ما لديهنَّ. أصررن على تبليغ نصرالله صفير مسطرة عن الخُلُق الجديد.
تُرتكب في الحروب ارتكابات فاحشة. السقْط منها لا يُنسى ولا يُغفر. وأما البطريرك، فقد رفض أن يسلّم نتْفة من أمانة بكركي إلى مرسلي الجثة أو إلى زمرة الفاجرات. طوى المسألة في الدفاتر على أنها مجرد مقطع آخر في مَغْناة الدراما المارونية. مؤلمة، مريرة، ولا يمكن استيعاب تماديها، التراجيديا المارونية. لا يمكن أن تفهم كيف أن هذه الفئة الضاربة في العلم، المؤسِّسة للمعاهد، الخازنة الثقافات، الرائدة في المطابع، المُرسلة أبناءها إلى المشانق من أجل الحرية، الفالحة الصخور بحثاً عن الخصْب، المرتضية الجرود ضنّاً بالكرامة، التي يغنّي رعيانها للجبال ويحْدٌون للوعر والعِزلة والخواء، كيف لها أن تعيش في حرب دائمة ضد نفسها.
الزعماء الأربعة الذين قرّرت بكركي أنهم يمثّلون حق الرئاسة بين عموم الموارنة، علامتهم المشتركة، أنهم مختلفون عميقاً على معنى لبنان، في وجهيه الداخلي والخارجي. ومن خلالهم الحرب المارونية مستمرة بدرجات متفاوتة، وذات أبعاد متناقضة ومتعادية تماماً. والمشكلة في الصورة أن الحرب لم تكن سياسية رمزية تنتهي بانتهاء السباق، بل كان فيها عنف وكان فيها دم كثير. وكان، ولا يزال، فيها عبث لا يُصدَّق. يتحدثون عن “إنقاذ المسيحيين العرب” فيما داعش (كرمز اختصاري للآخرين) على الأبواب. وفيما يصرِّحون صار العدد الرسمي لطوفان البؤس السوري مليون إنسان.
لا تحاولوا الشكوى وإلاَّ عرضوا عليكم مؤتمراً آخر، كامل الميكروفونات والمنشورات. صلّوا في قلوبكم من أجل رجل لا يريد أن يُبعد أحداً أو أن يَلغي أحداً أو أن يُحاسب أحداً. لم نعد نحتمل هجرة أخرى، وكل ما نحتاج اليه حكمة تتسع لمدارك ومفارق هذا الزمن الشائك، الحاد، الشديد العصف والعسف، المُثقل بعلامات الهلاك.
يقدّم الموارنة، في هذه المحنة الضريرة، فصلاً سياسياً مكرراً، ولكن بغير أسلحتهم. الجنرال والحكيم يتنازعان الأفئدة وحناجر النساء. وبعيداً بعيداً في خلفية الصورة مشهد لا سابقة له في عصور التمزّق، مشهد سامي الجميل يتحدث عن المودّة القائمة مع سليمان فرنجيه. غريبة هذه الظاهرة وأرجو ألاّ يضمّوها إلى تفسير الدستور أو مراتب الجلوس في القداديس.
يُولد الماروني ثائراً من أجل أن ينتهي إقطاعياً. بالمال وبالرجال وبالعائلة وبالأنساب والأزلام. لا تذهبنَّ مخيّلتكم بعيداً لأن لا استثناء في الأمر. الضائع في هذه المتاهة هو البلد الوحيد الذي أُعطي في الشرق الوجه المسيحي. ارتضى المسلمون الأولون أن تصير مدن الساحل في كَنَف الجبل وتحت رايته، خلافاً للمعهود في الوطن وفي الجوار. هوَت الثقة سريعاً. يُنسب لبنان الكبير إلى حصة فرنسا في تقسيم الشرق، ولم يُظهر العقوق لفرنسا أحد مثل لبنان الكبير. أولاً وأخيراً، وبيْن بيْن، على ما قال فؤاد كنعان في حكِّه للعقلية المارونية.
عندما تُعطى الجوهرة يجب أن تثبِّت أمرين: الأول، أنك تستحقها، والثاني، أنك قادر على الحفاظ عليها. لم يحصل. لم يُقدّم الموارنة دائماً أفضل مَن لديهم. أبعَدوا عن السياسة الطبقات البورجوازية والمنتجة ونخبة المفكرين واحتكروا الخَيار، يؤرجحونه هنا وهناك، حتى فقَدوه. يجب ألا ننسى أبداً أن الهجرة الكبرى من شباب العلم والإنتاج والحداثة، كان سببها الضغينة والخوف والقطيعة داخل البيئة الحاضنة التي صارت بيئة طاردة. لم تُقصف منطقة آهلة بالدبابات كما قُصفت “المنطقة الشرقية”. لم تُقصف المستشفيات في مكان، إلاّ هناك.
لا ندري كيف ولماذا، لكن واقع الأمر أن البطرك الراعي دعا إلى بكركي أربعة من الأقطاب الذين القاسم المشترك الوحيد بينهم هو الخلاف. خلاف قديم ومُستدام. بعضه كان بالمدافع. بعضه بالمأساة. وأما الرئاسة نفسها فلم يبقَ مَن يُطالب لها بشيء من الرِّفق سوى الدكتور خالد قباني. ويُفهم من جدل الموارنة أنهم في صدد البحث عن رئيس لا عن رئاسة. عن رئيس قوي يعيد للموارنة شيئاً من وَجاهة الماضي، لا عن رئاسة للبنان ترعى عودته إلى صف الدول ومعاني الأوطان. رئيس الحوار لا المَحاور. الذي مناعته في حكمته ودرايته ومفهومه للتراحم بين الناس والتفاهم بين الدول والتلاقي بين الشعوب. لسنا في محنة عابرة. ما نحن فيه ليس محنة عابرة. لسنا على أبواب الفتنة بل نحن فيها. ولسنا قاب قوسين من الطوفان بل نحن فيه. جرّبوا مرة واحدة أن يكون المرشح هو لبنان. المرشح الذي من بعده البلد لا الطوفان. الرجل الذي في حقيقته ليس مرشّح نفسه ولا مذهبه ولا طائفته، بل تلك الطائفة الوحيدة التي لا طائفة لها سوى الإلفة والعدالة وراحة البال.
لقد تعب اللبنانيون. لم يعودوا يريدون أن يعجقوا الكون، وأن تبسُط صيدا وصور أمجادهما على سائر الأرض. يريدون أن يناموا بغير مهدّئات، وأن يذهبوا إلى العمل بغير مسكّنات، وأن يشعروا أنهم بلَغوا طريق بناء الدول.
*نقلاً عن “النهار” اللبنانية