«نيويوركر» الأميركية:إعداد منال نحاس- الحياة
الإحباط في وزارة الخارجية الأميركية بلغ مبلغاً كبيراً. وليس عادياً أن يكتب الناس (ديبلوماسيون) مذكرة اعتراض ويودعونها في قناة الاحتجاج الديبلوماسي (أو في «ديسنت شانل»). فالتهدئة في سورية انهارت. وقصف مستشفيات حلب وادلب هو انتهاك لكل المعايير الإنسانية، ناهيك بالقصف بالبراميل المتفجرة والسلاح الكيماوي. ومساعي الحل السياسي تراوح مكانها. فحكومة الأسد ترفض تقديم أي تنازلات. ولا تسمح بالإغاثة الغذائية ولا تلتزم قرارات مجلس الأمن. والأميركيون هم شهود على كل ما يجرى. والسياسة الراهنة أخفقت والإخفاق ينتظرها لا محالة على الدوام. ولا تخرج رسالة الاحتجاج الديبلوماسي الأميركي على الهدف الاستراتيجي الأميركي، أي التفاوض على اتفاق ينهي الحرب الأهلية السورية. وأرى أن الرسالة تعارض فحسب تكتيكات الإدارة الأميركية، تلك التي تتوسل بها أو تحجم عن التوسل بها. وتوجه مذكرة الاعتراض رسالة مفادها أن الاتفاق السياسي وطي الحرب متعذران من غير ضغط أكبر على حكومة الأسد. فالإدارة الأميركية تحتاج الى تكتيكات جديدة لضغط ناجع على النظام السوري.
وفي العراق، تعلمنا أن تغيير النظام ليس السبيل الى تغيير سياسي إيجابي. ففي حرب أهلية، تمس الحاجة الى مفاوضات بين المعارضة والحكومة. ومدار المسألة على سبل تحريك عجلة المفاوضات. ومنذ توصلت وزيرة الخارجية كلينتون ونظيرها الروسي، سيرغي لافروف، الى إعلان حزيران (يونيو) 2012، لم تفلح سياسة الإدارة في توفير فرص النجاح. ولا أرغب في إلقاء لائمة هذا الإخفاق على أحد، سواء كان الرئيس أم غيره. فثمة خلافات قديمة في الإدارة الأميركية حول كيفية التعامل مع الأزمة السورية. وليس الرئيس وحده من يتردد في اللجوء الى كل ما في الإمكان للضغط (على الأسد). والإحباط في رسالة الاحتجاج مرده الى بقاء دعاة الهدف الاستراتيجي على دعوتهم من غير التوسل بأدوات لبلوغه (الهدف). والأمل ليس سياسة. ولا يجوز أن يكون ركن السياسة اليتيم إذا كانت ثمة نتائج سياسية كبرى تبلغ دول الـ «ناتو». ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تنتهج الحكومات الأميركية سياسة تدعو الى وحدة أوروبا ودرء النزاعات الداخلية. وهذه السياسة تعود الى عهد هاري ترومن (1945-1953): التحلي بالقوة، ومقاومة ضغوط موسكو وتفادي الانزلاق الى مزيد من الحروب العالمية. واليوم، يطعن في وحدة أوروبا. ومشكلة اللاجئين من سورية هي عامل بارز في الطعن هذا. وهذا الجانب من المسألة يتجاوز سورية، ولم نتوقعه في 2012. ولا أخالف جون كيري (وزير الخارجية الأميركي) الرأي. فهو يدرك أن الحاجة تمس الى ضغط أكبر على الأسد.
ولا أرى أي مؤشرات الى تغيير في السياسة الأميركية في سورية في المقابلتين الطويلتين، الأولى مع أوباما، والثانية مع (نائب مستشار الأمن القومي) بن رودس. ولن تخلف الرسالة الديبلوماسية أثراً عظيماً. وعصفت دوامة الحرب بانتفاضة شعبية تطالب بالتغيير في المؤسسة الأمنية السورية، وتحولت الى نزاع دولي تشارك فيه قوى اقليمية ودولية، ودمرت شطراً كبيراً من سورية. وزعزعت الحرب هذه استقرار دول اوروبية وولدت أشد أشكال التطرف الإسلاموي الخبيث. وفي 2012، توقعنا في وزارة الخارجية أن تتفاقم الحرب وتنزلق أكثر الى قاع الطائفية، ولكننا لم ندرك قدر تمسك الحكومة السورية بالسيطرة على دمشق وما هي مستعدة للإقدام عليه للحفاظ على الحكم. ولم يتوقع أحد أن نصف السوريين سينزح عن منازله، ولا تحول سيل اللاجئين الضخم الى مشكلة تتهدد الحلفاء الاوروبيين. ولم نتوقع كذلك أن ينقسم «القاعدة»، ويلد تنظيماً أكثر تطرفاً يسيطر على شطر من شرق سورية يمتد الى داخل العراق.
وأدعو الى سعي حثيث الى مفاوضات على حكومة جديدة والتزام صبر استراتيجي في مكافحة «الدولة الإسلامية». والإدارة الأميركية تعتمد على الكرد في استعادة أراض من «الدولة». وهذا أمر جيد ولكن سينثر بذور نزاع إتني بين السوريين العرب والسوريين الكرد. وتسلط مذكرة الاحتجاج الضوء على مسألة بارزة: لا يسع قصر المساعي على مكافحة «الدولة…» استمالة عدد كاف من السوريين السنّة العرب وإرساء حل مستدام لجبه تحديات «الدولة…» في سورية. فالسوريون السنّة العرب يرون أن حكومة الأسد هي مشكلة أعظم من مشكلة «الدولة…». وتشير منظمات حقوق إنسان سورية الى أن الحكومة قتلت من السوريين سبعة أضعاف ما قتل «داعش». وفي 2018، يتوقع أن تستعاد الرقة من «داعش»، وقد يخسر التنظيم السيطرة على دير الزور. ولكن «الدولة…» لن تزول (أو تأفل)، بل ستتحول الى حركة تمرد.
ولا شك في أن الخطر هو انهيار النواة السنّية الوسطية المعتدلة، على نحو ما انهارت نواة الفلسطينيين الوسطية. ومغزى رسالة «قناة المعارضة أو الاحتجاج» (الأميركية) هو: لا غنى عن استمالة السنّة العرب لإلحاق الهزيمة بـ «داعش». والأسد غير راغب في حل انتقالي سياسي طالما هو يحسب انه قادر على نصر عسكري، ولو بعد عشرين عاماً. وقبل 11 شهراً، في تموز (يوليو) 2015، كانت الأمور مختلفة. فالأسد يومها أعلن في خطاب الى الأمة أن الجيش منهك، وأنه لا يملك عديداً كافياً من الجنود، وأن عدداً كبيراً من الجنود لم يلتحق بالخدمة. وقال أن الجيش غير قادر على استعادة كل المناطق وأنه مضطر الى الانسحاب. وكانت قواته تنسحب من شمال غرب سورية وجنوب سورية وتتراجع أمام قوات المعارضة المعتدلة و «جبهة النصرة»، وليس أمام «الدولة…». وكان مركز بلاد العلويين في مرمى النيران. وأشار الخطاب الى إدراكه أنه يخسر. ولكن التدخل الروسي بدأ بعد 5 أسابيع على الخطاب هذا، فتغيرت موازين القوى وانقلبت رأساً على عقب. فأعلن الأسد في خطابه الأخير: «لن نفاوض الإرهابيين وكل المعارضة المسلحة إرهابية…». والتحدي اليوم هو العودة الى مزاج تموز (يوليو) 2015، لنبرم وقف إطلاق نار دائماً.
ولكن هل يسع قوى المعارضة التوحد واقتراح مشروع بديل ومقنع ووازن؟ ثمة مؤشرات كثيرة الى أنها قادرة على رص الصفوف. ولكن وحدة المعارضة تقتضي كذلك إجماع الرعاة الاقليميين لمجموعات متباينة على عمل القيادة الموحدة. ولا ترتجى فائدة من زيادة الدعم المالي لبعض المجموعات، في وقت تمول دول أخرى مجموعات مختلفة للحؤول دون التنسيق بينها. والى اليوم، ليس تفكك الدول هو المآل الراجح. ولكن سبل حفاظ دول، مثل سورية والعراق، على وحدتها، عسيرة وغامضة. ويتوقع بروز دولة كردية مستقلة. والسياسة الذكية تقضي بالتفكير في كيفية تحويل هذا الاستقلال الى عملية ايجابية، من طريق المفاوضات وليس النزاع الإتني.