د. ميسون البياتي
قلق فقدان الهويه لا يعرفه غير من عاش فترة طويله في غير بلده الأم , فلا هو حمل هوية الوطن الجديد , ولا هو احتفظ بهوية البلد الأم , إحساس بالإنقطاع يشبه اليتم حيث لا يمكن شراء أب جديد أو أم جديده
نُشرت رواية الغريب لألبير كامو في فرنسا باللغة الفرنسيه عام 1942 عن دار غاليمار وكانت فرنسا وقتها واقعة تحت الإحتلال الألماني فلاقت نجاحاً محدوداً الى حد ما في موطنها بسبب الحرب والمقاومه الشعبيه الفرنسيه وشح الدعايه وأزمة الورق المتفاقمه مع أزمات كثيره بالمواد تقع بسبب الحروب
لكن الحرب انتهت والإحتلال الألماني انتهى ليعقبه الإحتلال الأمريكي العسكري المباشر الذي ألقى بظلاله على مختلف أشكال الأدب والفن الفرنسيين وظهرت ملامحه في كتابات واعمال فنية كثيره بأساليب مختلفه رمزيه وعبثيه ووجوديه وفي ادب اللا معقول رغم أن الحديث عن الإحتلال الأمريكي لفرنسا تم تحاشي الحديث المباشرعنه في كثير من الأدبيات وتجاهله باحثون تاريخيون كثر رغم وضوحه وسهولة الإستدلال عليه
اثناء حرب التحرير الأمريكيه وبسبب الكراهيه التقليديه بين الفرنسيين والإنكليز قام لويس السادس عشر بالتطبيع مع الولايات المتحده وأمدها بالمال والسلاح وكتائب فرنسيه قاتلت الإنكليز على الأراضي الأمريكيه لمساندة الأمريكان ومعاهدة دفاع عسكري مشترك تم توقيعها بين البلدين , وجاليه كبيره متبادله بين البلدين كانت تعيش على اراضي البلدين وتمد نفوذها المالي والإجتماعي . انتهت الحرب بإستقلال الولايات المتحده التي رفعت شعار تصدير الثوره الأمريكيه الى العالم لتدك ممالك اوربا العتيده وتنتزع منها مستعمراتها اينما تكون
وهي ليس أكثر من 10 سنوات لتقع الثوره الفرنسيه التي اشعلتها الجاليه الأمريكيه في فرنسا وتولى الفرنسيون الباقي فأعدموا آلافاً بالمقصله كان من بينهم ملك وملكة فرنسا . ومن بين الضجيج ظهر نابليون بونابرت الأول الذي هاجم دول اوربا واحتل اجزاء من ايطاليا وعيّن عليها أخاه جوزيف نابليون ثم احتل اسبانيا ونقل جوزيف ملكاً عليها تحت اسم خوسيه الأول الذي سرق ثروات التاج الإسباني وهرب الى الولايات المتحده ليتم حياته فيها بعد تدهور وضع اخيه نابليون الأول إثر فشل حملته على روسيا . بعد سنوات عاد ابن جوزيف الى فرنسا كنابليون بونابرت الثالث لتمتد حقبة الحكم النابليونيه حوالي 70 عام
في العام 1845 وصلت سفينتان امريكيتان محملتان بدرنات بطاطا فاسده معده للزراعه الى آيرلندا انتجت محصولاً تالفاً اشاع المجاعه في آيرلندا التي عم منها الجوع الى اوربا فضرب الطبقات الفقيره . بالوصول الى عام 1848 اشتعل ربيع الثورات الأوربيه الذي لم ينتهِ الا في 1872 بعد وصول غاريبالدي الى توحيد ايطاليا كبلد قومي للإيطاليين وبسمارك الى ألمانيا كبطل قومي قام بتوحيد الأمه الألمانيه فعمت النعره القوميه وإعلاء قيمة العسكر في اوربا ومن اوربا انتقلت الى مستعمراتها فعمت النعره القوميه في العالم لتبدأ مرحلة الإنقلابات ( التحرريه ) العسكريه في العالم
حفرقناة السويس كطريق يربط الشرق بالغرب كان وبالاً على مصر والشرق الأوسط . في العام 1882 جاءت بريطانيا واحتلت مصر. 1897 تم عقد المؤتمر الصهيوني الأول للبحث عن وطن قومي لليهود. 1902 اعاد الأمريكان آل سعود اللاجئين في الكويت الى الدرعيه ليحتلوا بهم الساحل الشرقي من خليج العقبه والبحر الإحمر . عام 1933 تم تأسيس ارامكو في الولايات المتحده لتنتقل لاحقاً الى الظهران لتشرف عن قرب على نفط السعوديه والعراق والكويت وايران
إشعال حرب بحجم الحرب العالميه الثانيه كان الهدف الرئيس منها هو تدمير عصبة الأمم التي أسستها بريطانيا ورفضت الولايات المتحده الدخول فيها أو التوقيع على أي من مقرراتها لأنها كانت تبحث لنفسها عن سطوة أكبر للسيطره على العالم وقد نجحت في ذلك بنهاية الحرب حيث تدمرت العصبه البريطانيه وقامت على انقاضها هيئة الأمم المتحده الأمريكيه
لكن السواحل الجنوبيه للبحر الأبيض المتوسط كانت هدفاً آخر لتلك الحرب . تم دفع هتلر وتحويله من مجرد يهودي مشرد ينام على الأرصفه ولا يمتلك قوت يومه الى فوهرر بواسطة البنوك الأمريكيه العامله في اوربا منذ ربيع الثورات الأوربيه . قام باضطهاد اليهود لدفعهم الى الهجره الى ارض الميعاد
ولتفعيل معاهدة الدفاع العسكري المشترك الأمريكيه الفرنسيه تم دفع هتلر الى احتلال باريس , استنجد الفرنسيون بالمعاهده العسكريه فنزل الجيش الأمريكي الى اوربا لتحرير فرنسا , وكان أول ما قامت به فرنسا وقتها هو الإنسحاب من سوريا ولبنان كعربون لثمن التحرير
بنهاية الحرب وبسبب ديون بريطانيا الكبيره للأمريكان انسحبت من الهند درة تاجها ثم وافقت على تقسيم فلسطين ليتأسس الوطن العبري الركيزه الأمريكيه الرئيسه في الشرق الأوسط
لم تتمكن الولايات المتحده من الحصول على موطيء قدم في شمال افريقيا حتى عام 1945 عندما قامت بالإستيلاء على قاعدة الملاّحه الجويه الإيطاليه غرب طرابلس ليبيا , حولتها في العالم 1954 الى قاعدة ويلوس الجويه على اسم الطيار الأمريكي الذي قتل في سماء ايران أثناء انقلاب مصدق على حكومة الشاه , ولم تتمدد هذه القاعده سوى الى تونس عندما عزلت محمد الأمين باشا باي تونس عام 1957 واعلنتها جمهوريه تحت حكم الحبيب بورقيبه
شارل ديغول وهو ضابط مشاة فرنسي عمل تحت الإمره الأمريكيه كقائد للمليشيا الفرنسيه المقاومة للإحتلال النازي تم تعيينه رئيساً على فرنسا فقام بالتنازل عن العديد من مستعمرات فرنسا حول العالم قام بتسليمها باليد للأمريكان تحت مسمى : منحها استقلالها وكانت الجزائر واحده من هذه المستعمرات
نعود الآن الى ألبير كامو وإحساسه بإنعدام الهويه . كامو ولد في الجزائر عام 1913 من أب فرنسي وأم اسبانيه صماء . مات والده في احدى معارك الحرب العالميه الأولى . عاش مع والدته في العاصمه الجزائر حياة فقر مدقع . تخرج من جامعة الجزائر من قسم الفلسفه في كلية الآداب . كان كامو جزائري المولد والنشأه بغض النظر عمن كان والداه , لكنه لم يعتقد ذلك في نفسه لأن والده فرنسي وأمه اسبانيه
عمل كامو في العديد من الصحف الجزائريه مثل : ( صدى وهران ) و ( الجزائر الجمهوريه ) محرراً في أقسام الحوادث فيها , ومن حكايات هذه الحوادث استمد الكثير من شخصيات أعماله الأدبيه
وقعت باريس تحت الإحتلال الألماني فقام كامو كفرنسي بالإنضمام الى مليشيا المقاومه التي يرأسها ديغول تحت إمرة الأمريكان , كانت المقاومه تصدر نشرتها وكان ألبير كامو وجان بول سارتر اثنان من كتابها , بعد اخراج الألمان من البلاد تحولت نشرة المقاومه الى صحيفة الكفاح الفرنسيه : كومبات
الحزب الشيوعي الفرنسي حزب مليء بالمشاكل , بعد ان نقل ماركس امميته الأولى الى الولايات المتحده قام الشيوعيون الأوربيون بتأسيس الأمميه الثانيه في باريس التي قدمت الكثير من الإنجازات وكان من بين أبرز أعضائها لينيين وروزا لوكسمبورغ , حين اندلعت الحرب العالميه الأولى تدمرت الأمميه الثانيه وتقطعت الى اوصال عديده . لكن لينيين حين قام بانقلابه البلشفي في روسيا بمساعدة الأمريكان ( لأن البلاشفه لا يتحالفون ولا يتعايشون مع برجوازية أوربا ) وهم الذين سيقومون ببناء الستار الحديدي بين شرق اوربا وغربها فيما بعد , وينهون الى الأبد الوفاق البريطاني _ الروسي الذي تم توقيعه عام 1907 والذي من اهم بنوده غير المعلنه تطويق اوربا من الشرق والغرب ومنع تغلغل النفوذ الأمريكي فيها
بعد نجاح الإنقلاب البلشفي قام لينيين بتأسيس أمميته الثالثه ( الكومنترن ) فتأسست على أثرها أغلب الأحزاب البلشفيه في العالم بما في ذلك الحزب الشيوعي الأمريكي . في فرنسا قام فرع فرنسا في الأمميه الثانيه ( العماليه ) بإقالة أعضائه ليقوموا بتأسيس الحزب البلشفي الفرنسي 1920 الذي عرّف عن نفسه بكونه ثورياً ديمقراطياً دخل في مشاكل عقائديه كثيره بين اهدافه وواقعه ومبادئه , وخلافات جوهريه مع العديد من التنظيمات الإشتراكيه والشيوعيه التي مازالت قائمه في البلاد وبين الإلتزام بتعليمات يتلقاها من الكومنترن
ألبير كامو مؤكد كان يعلم بكل ذلك مع هذا انتمى الى الحزب الشيوعي الفرنسي عام 1934 لمساندة الأوضاع في إسبانيا التي افضت الى حربها الأهليه , لكنه كجزائري شارك عام 1936 بنشاطات تطالب باستقلال الجزائر عن فرنسا فوصمه الحزب بصفة : تروتسكي مما باعده اكثر عن الستالينيه ودعاه الى ترك الحزب . ساهم في نشر الروايه المهربه من روسيا _ دكتور زيفاجو _ عام 1958 نكاية بالإتحاد السوفييتي الذي انتقده لقمعه إنتفاضة المجر التي وقعت عام 1956
في عام 2013 قام صحفي جزائري يدعى كامل داوود بنشر روايه : مورسو، تحقيق مضاد , وهي لم تكن أكثر من رؤيه ( وطنيه جزائريه ) للرد على ما يعتقده هو ( فكراً إستعماريا ً) في الوقت الذي ترى كاتبة المقال رواية الغريب هي رواية سيره ذاتيه لألبير كامو نفسه , كما هي رواية آلام فيرتر سيره ذاتيه لغوته . ومدام بوفاري سيره ذاتيه لغوستاف فلوبير
عام 2016 أصدرت الباحثه الأمريكيه أليس كابلان كتابها : البحث عن الغريب , تحدثت بها عن عمل ألبير كامو في اقسام الحوادث في الصحف الجزائريه , وتلبيس افكاره على شخصيات استقاها من تلك الحوادث ثم توصلت بالبحث في ارشيف الصحف الجزائريه الى القصه الحقيقيه لجريمة قتل المورش ( مسلم من دول المغرب العربي ) توصلت الى اسمه الحقيقي المنشور في الصحف وهو ( قدور بلطويل ) اما قاتله فهو اليهودي ( راؤول بن سوسان ) . والقصه الحقيقيه ليس فيها قاتل ولا قتيل منشوره في صحيفة صدى وهران 1939 . القصه الحقيقيه أن راؤول كان يمشي مع أخيه على شاطئ وهران حين التقيا شابين عربيين يمشيان هنالك , وسرعان ما راح أحد العربيين يستفز الشقيقين اليهوديين، وسرعان ما اندلع العراك بين الأربعه تمكن خلالها أحد العربيين من إخراج سكين طعن بها راؤول الذي ركض إلى كوخ قريب ليداوي جرحه ، ثم عاد ومعه مسدس , حين وصل رجال الشرطه إلى المكان اعتقلوا أحد الشابين العربيين فيما هرب الثاني
اذا كان ألبير كامو قد استوحى رواية الغريب من هذه الحادثه فعلاً ثم تلاعب بنهايتها فمن رأي كاتبة السطور أن ذلك يعزز كون الروايه سيرة ذاتيه لكامو نفسه , عاش في الجزائر يتيم الأب لأم صماء علاقة التفاهم معها شبه مقطوعه بحكم صممها , واليتم شكل من أشكال فقدان الهويه . أماً عن هويته الجزائريه كولد ولد وتربى وعمل في الجزائر فكانت شبه مقطوعه بحكم كونه فرنسي _ اسباني مولود في مستعمره . وحين عاد الى فرنسا كان مثل بطله مارسيل ميرسو عائدأ في يوم جنازة أمه فرنسا التي ماتت بالإحتلال النازي , لكنه يأكل ويشرب ويمارس حياته دون اهتمام بذلك لأنه بحكم ولادته وعيش طفولته وبداية شبابه في الجزائر فهو لم يعد فرنسياً صرفاً
احداث الروايه تدور في الجزائر في خلطه زمانيه مكانيه فكريه عبثية فعلاً , يخرج ميرسو مع صديق عنده عشيقه مورسكيه فيقابلان أخاها, ودون سبب قاهر يقوم ميرسو بقتل ذلك الأخ ليتم اعتقاله ويحكم عليه بالإعدام كغريب اعتدى على حياة مواطن .. أليس هذا اعتراف ضمني من كامو بأن فقدان الهويه يشكل قلقاً جوهرياً يرافق المرء حتى الموت ؟ ويدفعه الى افعال لاتكون مبررة لدى من لا يحملون ذلك القلق , أفعال كعدم الإهتمام بموت الأم , أول قتل شخص آخر دون مبرر كافي ؟؟
بعد نهاية الحرب العالميه الثانيه ولكي تحسن الولايات المتحده وجهها القبيح أمام العالم بسبب كل الجرائم المرتكبه خلال الحرب طرح السيناتور جيه ويليام فولبرايت مشروعاً لما سوف يصبح برنامج فولبرايت عام 1946 وكان واحداً من أبرز مشاريع التبادل الثقافي مع الشعوب لإظهار وجه أمريكا الحسن كجزء لا يتجزأ من سياسة أمريكا الخارجيه , من ضمن تطبيقات هذا البرنامج قامت دار النشر الأمريكيه العائده للناشر الأمريكي ألفريد كنوبف بترجمة رواية الغريب ونشرها 1957 والدعايه المكثفه لها وترجمتها الى 60 لغه ودعوة ألبير كامو الى جوله مطوله في الولايات المتحده ألقى خلالها العديد من المحاضرات واجرى العديد من اللقاءات الصحفيه لكبريات الصحف والإذاعات , ثم تم منحه جائزة نوبل في نفس العام عن مجمل أعماله وأهمها نشاطاته الصحفيه المناهضه لعقوبة الإعدام وليس عن أعماله الأدبيه . من على المنصه التي تسلم منها كامو جائزته أهداها الى لويس جيرمان معلمه الفرنسي في الجزائر وهو يقول : إنني أهدي هذه الجائزة إلى لويس جيرمان .. دونك .. دون تلك اليد الداعمه التي مددتها الى الطفل المسكين الذي كنتُ عليه ، ودون تعليمك ، ودون الاقتداء بك ، لما أصبحت ما أنا عليه
ربما كان لويس جيرمان هو اليقين الوحيد في حياة ألبير كامو بعد مأساة ضياع هويته مع والديه .. ووطنيه , وايمانه بعبثية الحياة وعدميتها ولا معقوليتها , هو الذي قال ذات مره : إن أكبر عبثية في الحياة أن يموت المرء بحادث سياره . وكأن العبث له بالمرصاد فبعد 3 سنوات من حصوله على نوبل وكان في 47 من العمر كان برفقة ميشال غاليمار ابن غاستون غاليمار صاحب دار النشر برحله في سياره , اصطدمت السياره بجذع شجره فمات كامو في الحال .. عثر في جيبه على تذكرة قطار كان ينوي بها زيارة حبيبته الممثله الإسبانيه ماريا كازاريس . رسائل حبهما ال 865 رساله تم نشرها في كتاب بحجم 1300 صفحه
د. ميسون البياتي
شكرا للاسلوب الجميل في ربط تسلسل الوقائع
الذي يمكنني تسميته:
المختصر المفيد
مع تمنياتي لك بالتوفيق ودوام العطاء