رسالة من مسلم الى مسيحي يدعوه بها الى الاسلام (الجزء الاول)
ثم قلتَ: أدعوك إلى سبيل الله الذي هو غزو المخالفين والكفرة المنافقين وقتال المشركين ضرباً بالسيف وسلباً وسبياً، حتى يدخلوا في دين الله ويشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، أو يؤدوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون. فهل أردت أن تدعوني إلى فعل الشيطان المنزوعة منه الرحمة، الذي أفرغ جسده لآدم وذريته في شر ذمةٍ منهم جعلهم سلاحاً له وأولياء ينقادون لإرادته في القتل والسلب والسبي؟ فكيف أجمع بين قولَيْك وبين تباعدهما: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (سورة آل عمران 3:104) ثم تكتب: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ (سورة البقرة 2:272) ثم تزيد في هذا شيئاً: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ (سورة يونس 10:99 ، 100). أفلا ترى كيف يناقضك هذا القول، ثم تكتب: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ واتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ واصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (سورة يونس 10:108 ، 109).ثم تكتب أيضاً في موضع آخر: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ (سورة هود 11:118 ، 119). ثم تكتب تأكيداً لهذا القول عن صاحبك أنه بُعث بالرحمة للناس كافة فأي رحمة مع القتل والسبي والسلب؟
أسألك أن تخبرني عن سبل الشيطان، هل هي إلا القتل والسفك والسلب والسبي والسرقة؟
فحاشا لله أن يكون هذا سبيله، أو يكون أحد أوليائه قد اقترف شيئاً من هذه المآثم، لأن الله لا يحب عمل المفسدين. وكيف أقول في تناقض هذا الأمر إذ تكتب لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ (سورة البقرة 2:256) وتزعم أن الله قال: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ والأُمِّيِينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ واللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (سورة آل عمران 3:20) وأنت الذي تقول: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (سورة البقرة 2:253) وأنت الذي تقول قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ,,, لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (سورة الكافرون 109:1 ، 6) وتقول وَلاَ تَجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (سورة العنكبوت 29:46) ثم أنت تحثّ على قتل الناس ضرباً بالسيف وسلباً وسبياً حتى يدخلوا في دين الله كَرْهاً وقهراً. فهل آخذ بقولك الأول أم الثاني، فندخل على قولك إنه ناسخ ومنسوخ؟ لأنك لا تدري أيهما الناسخ ولا أيهما المنسوخ. فلعل الناسخ هو الذي عندك المنسوخ، لا تقدر أن تقيم فيه برهاناً صحيحاً عند مَنْ يطالبك بالبرهان الصحيح.
فهل قرأت في شيء من الكتب المنزلة أن أحداً من الدعاة استجلب الناس إلى مقالته ودعاهم إلى الإقرار بما جاء به قهراً وكرهاً أو ضرباً بالسيف وتهديداً بالسلب والسبي غير صاحبك؟ فقد عرفت قصة موسى وما أتى به من المعجزات، وقرأت قصص الأنبياء بعده وما فعلوا، وكان ذلك شاهداً أن ما جاءوا به هو من عند الله. فهل تجد أحداً من الدُّعاة الذين دعوا إلى حقٍ أو باطلٍ إلا وقد جاء بحجَّة أو دليل صحيح، فحينئذ يتبيَّن عند العيان صحَّته من خُبثه. وكذلك فعل كل ذي دعوة بأهل دعوته. غير صاحبك، فإنّا لم نره دعا الناس إلا بالسيف والسلب والسبي والإخراج من الديار، ولم نسمع برجل غيره جاء فقال: من لم يقرّ بنبوَّتي وأني رسول رب العالمين، ضربته بالسيف وسلبت بيته وسبيت ذريته من غير حجة ولا برهان. فأما المسيح سيد البشر ومحيي العالم فيتعالى ذكره ويجل قدره أن تُذكر دعوته في مثل هذا الموضع. وأنا أتلو كلام سيدي يسوع المسيح ليلي ونهاري، وهو شعاري ودثاري، وأسمعه يقول تفضلوا على الناس جميعاً وكونوا رحماء، كي تشبهوا أباكم الذي في السماء، فإنه يشرق شمسه على الأبرار والفجّار ويمطر على الأخيار والأشرار (قارن متى 5:43-48). فكيف يظن بمثلي، والمسيح يخاطبني بمثل هذه المخاطبة، أن يقسو قلبي حتى أصير في صورة إبليس العدو القاتل، فأضرب وأقتل أبناء جنسي، وذرية آدم المجبول بيد الله وعلى صورته تعالى، والله جلَّت قدرته هو القائل: لست أحب موت الخاطئ، لأنه اليوم في خطاياه وغداً يتوب، فأقبله كالأب الرحوم سيَّما وقد شرَّف الله سبحانه النوع الإنساني بأن كلمته الخالقة تجسَّدت منه واتَّحدت به وأعطته ما لها من الربوبية والألوهية والسلطان والقدرة، فصارت الملائكة تسجد له وتقدّس اسمه وتسبّح ذكره كما يسبّح اسم الله وذكره، ولا تفرِّق في ذلك بينهما. ثم زيد نعمة إلى النعمة المتقدمة بأن أُعطي الجلوس عن يمين ذي العزة، تشريفاً لذلك الجسد المأخوذ منا الذي هو من ذرية أبينا آدم، فهو مثلنا وأخونا في الطبيعة، وخالقنا وإلهنا باتحاد الكلمة الخالقة به بالحقيقة، ثم دفع إليه جميع السلطان في السموات والأرض، وخوَّله تدبير الخلائق وصيَّر البعث والنشور والدِّين إليه، وأن يحكم حكماً نافذاً جائزاً على الملائكة والإنس والشياطين.
أفتريد أن أضاد أمر الله وأضربهم بالسيف وأسلبهم وأسبيهم؟ إن هذا لجورٌ على الله عز وجل، وعناد لأمره، وظلم لنعمته، وكفران لإحسانه. وأعوذ بالله من خذلان الله وغضبه.
فإن قلت إننا قد نراه يميتهم ويبليهم بالأسقام والأوجاع، فما يمنعك من التشبُّه به؟ فأجيبك أن الله يبتلي ويُميت عباده، لا لأنه يريد الإضرار بهم، أو عن بغضٍ منه لهم. ولو كان الأمر كذلك لما خلقهم. لكن لينقلهم من هذه الدنيا التي هي زائلة غير باقية وفانية غير دائمة وناقصة غير تامة إلى دار الخلود الباقية الدائمة الكاملة. فلا يُقال لمن نقل صاحبه من مدينة وضيعة إلى مدينة رفيعة إنه أراد بصاحبه سوءاً بل هو مُحسنٌ متفضِّل أولاً وآخراً. وأما قولك إنه أبلاهم بالأسقام المؤلمة والأوجاع المؤذية، فجوابنا أنه متفضِّلٌ عليهم في الحالتين جميعاً، كالطبيب الماهر المشفق الذي يشفي المريض بالأدوية المرَّة الطعم البشعة الرائحة، وربما كوى بعضهم بالنار وقطع بعض الأعضاء من أجسادهم بالحديد، ويمنعهم عما يشتهون من طعام إشفاقاً عليهم، يريد بذلك صلاحهم وصحة أبدانهم. فإن قلت: كان يمكنه أن يتفضَّل عليهم ويأجُرهم من غير أن يعذبهم بالأسقام والأوجاع، قلنا لك: وقد كان أيضاً يمكنه ألاَّ يخلق الدنيا، وكان يخلق الآخرة والجنة، ويُدخل الناس النعيم من غير محنة ولا استحقاق.
فإن كان صاحبك هذا الذي دعوتنا إلى اتِّباعه يقتلهم بسيفه ويضربهم بسوطه ويسبي ذراريهم ويجليهم عن ديارهم، يريد بذلك لهم الخير لينقلهم مما هم عليه إلى ما هو خير منه، فقد تفضَّل وأحسن وتشبَّه بفعل الله تبارك وتعالى اسمه، ولكنه ما فعل الذي فعله لهذا، ولا خطر بباله ولا فكر فيه، وما أراد إلا نفع نفسه وأصحابه، وإقامة دولته في العاجل. والدليل على ذلك قوله: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (سورة التوبة 9:29). أفلا ترى أنه أراد بلوغ أربه وإنفاذ مرامه وتوطيد سلطته، وهو يقول في كتابه: قُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ والأُمِّيِينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ واللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (سورة آل عمران 3:20) ألا ترى أنه أُمر أن يقول ويبلغ بلسانه، ونُهي عن القتل والسبي، فأمعن في هذا الأمر.
[من هم الشهداء]
ثم أعجب من هذا تسميتك من قُتل من أصحابك شهداء . فهلم ننظر في أخبار الذين قُتلوا من أصحاب المسيح على عهد ملوك الفرس وغيرهم، هل كانوا مستحقين لاسم الشهادة أم أصحابك الذين يُقتلون في طلب الدنيا والمحاربة على سلطانها؟
فقد بلغنا كيف صبر أولئك، وكيف كانت مسارعتهم إلى بذل دمائهم ودماء أولادهم والخروج عن دنياهم ونعيمهم، وكيف كانت نياتهم وصحّة ضمائرهم وشدة يقينهم بما كانوا عليه من ديانتهم، وكانوا يسارعون إلى أن يقرِّبوا أجسادهم إلى الذبح والقتل وأنواع العذاب قرباناً لله، وقد كان يُقتل الواحد فيتنصَّر من ساعته في ذلك المكان المائة والأكثر والأقل. وقد قتل أحد ملوك الروم مقتلة عظيمة، فقال له بعض أصحابه: أيها الملك، إنك إنما تزيد فيهم من حيث تظن أنك تُنقِص منهم . فقال: كيف ذلك؟ فقيل له: إنك قتلت أمس كذا وكذا، فتنصَّر أضعاف هذا العدد . فقال: وما السبب في هذا؟ فقيل له: إن القوم يقولون إن رجلاً يطلع عليهم من السماء فيشجعهم . فعند ذلك أمر أن يُرفع عنهم السيف، وكان هذا القول داعياً إلى تنصُّر الملك ورجوعه عما كان عليه من الكفر وقتل أولياء الله. فانظر إلى هؤلاء الذين كان لهم البصائر بالديانة وشدة اليقين والإخلاص وجودة الإيمان، كيف لم يفتُرْ إيمانهم والسيوف تأخذهم، وكانوا يُعذَّبون بأنواع العذاب وهم على ذلك محبُّون لما ينالهم، غير ممتنعين، فرحون مسرورون جذلون متيقِّنون أنهم إذا أتوا ذلك فهم مقصِّرون عما في أنفسهم من أداء حق النعمة التي أُوتوها من الدخول في النصرانية، فيبذلون أجسادهم اختياراً كما بذلوها. وهذا دائم ثابت في من ينتحل دين النصرانية ليس يخلو في وقتٍ من الأوقات من أن يبذل نفسه للموت طوعاً واختياراً ويرغب بها عن الحياة وعن جميع ما يحويه العالم. سُئل واحد منهم وهو يُعذَّب عذاباً شديداً، وهو في حاله تلك يتلفَّت يمنة ويسرة ويضحك. فقيل له: ما سبب ما كنا نراه من تلفُّتك وضحكك وأنت في ذلك العذاب؟ أما كنت تجد ألماً؟ فأجاب: ما كنت أجد ألماً فيما كنتُ أعذَّب به، وقد كنتُ في تلفُّتي أرى رجلاً شاباً بالقرب مني وهو يضاحكني ويمسح الدماء التي كانت تسيل من جراحاتي بخرق بيض كانت معه، وكنت أرى ذلك العذاب كأنه يقع بواحدٍ من الذين يعذبونني . فعلمنا أنه كان صادقاً في قوله، وإلاَّ فما صبره على تلك الشدة من العذاب؟
وأنت تعلم أن الله لو شاء أن يجمع الناس كلهم على الإيمان به ويجبرهم عليه لكان قادراً على ذلك، غير أنه طبع جوهرهم بعدله على استطاعة الحرية ليثيبهم أو يعاقبهم على ما اكتسبوا لأنفسهم، لا على الذي يجبرهم عليه هو. فلو تابوا مقهورين لم يكن لهم في ذلك أجر، لأنهم إنما تابوا قهراً وقسراً، ولكنه تركهم حتى بلغوا إرادتهم، ولم يغفل عن معونة أوليائه.
فمن أحق بأن يُسمَّى شهيداً، ويُشهد له أنه قُتل في سبيل الله؟ مَنْ قرَّب نفسه قرباناً عن ديانته، وبذل دماءه وأمواله وحياته وأولاده، أم من خرج طالباً السلب والسرقة والغنيمة وسبي الذراري وشنّ الغارات، ثم يسمّي ذلك جهاداً في سبيل الله، ويقول من قُتل أم قَتل فهو في الجنة؟ فنقول إن لصاً نقب منزل رجل ليسرقه، فسقط عليه حائط أو وقع في بئر، أو بادره صاحب البيت فضربه ضربةً فقتله. أتوجب لهذا اللص ديَّةً؟ ما أظنك أيها القاضي تفعل ذلك! فكيف توجب الجنة لمن مضى إلى قوم آمنين مطمئنين في مساكنهم لا يعرفهم ولا يعرفونه، فسرقهم ونهبهم وسباهم وقتلهم وفجر فيهم، ثم لا يقنعك ذلك إذ فعلته وتعود إلى ربك نادماً على ذنبك مستغفراً تائباً عما كان منك، بل تقول إنه إنْ قُتل أو قَتل فهو في الجنة، وتسمّيه شهيداً في سبيل الله.
(يتبع الجزء السابع)