الأستاذ شاكر النابلسي يعرف شيئًا عن جمال البنا، ولكن ما يجهله عن جمال البنا أضعاف ذلك، وقد أوضحت كلماته الأخيرة إنه لا يعرف جمال البنا .
فمما يجهله أنني لم أقرأ ما كتبه عني، بل ــ وأرجو ألا يجد غضاضة في ذلك ــ لم أقرأ له هو شخصيًا شيئًا، ولا كلمة واحدة، ومما يجهله أنني لا أتابع ما يكتب عني، بل ولا أتابع أعمالي نفسها، فلا أعيد رؤية لقاء تليفزيوني، ولا مقال منشور، وكثيرًا ما يأتيني مندوبون عن صحف ويجلسون جلسات طويلة ويسجلون أحاديث عديدة ثم يمضوا، ولا أحاول بعد هذا أن أتعقبهم، إلا إذا اتصل بي أحدهم ليخبرني أن المقال نشر في العدد الفلاني .
ومما يجهله أنني لا أتابع الصحافة، ولا التليفزيون، ولا النت، لأنه ليس لدي وقت، وإذا تابعتها فلن أجد وقتًا للتأليف، وهو رسالتي الحقيقية، وفي كل عام هناك “كوتا” من الكتب يجب أن تصدر .
ومما يجهله أنني لا أرد على ما يقولـه الآخرون عني، أولاً لما ذكرت من أنني أصلاً لا أقرأها وفي الحالات القليلة التي أعلمها لا أرد أيضًا لأن النقد قد يعود إلى اختلاف المناهج، أو للارتباط بمصالح أو لمجرد التشويه، وكلها مما لا يتسع له، أو بما لا يستحق الرد، فلو قــال أحد الشانئين إن جمال البنــا لا يفهم شيئًا، أو أنه مدفوع من دولة ما، أو أنه غاوي شهرة، فهل أشرف مثل هذا الإسفاف برد ؟
لم أعلم بما كتبه الأستاذ النابلسي، أولاً ولا آخرًا إلا من صديقي الأستاذ سامح سامي وهو مراسل موقع شفاف الشرق الأوسط في القاهرة، فطلبت منه إرسال صورة لهذه المقالات، فأرسل لي آخر أيام رمضان 23/10 بالبريد الإليكتروني مقاله ” لا تعتـذر ” .
بادئ ذي بدء أخذ الأستاذ شاكر النابلسي مفتاح حديثه عن جمال البنا من علم النفس، ومن “عقدة” الأب والشقيق، علم النفس علم ضال، متخبط ليس له معايير موضوعية، ولكن لـه تجارب عديدة ورغم أن بعض نتائجه لـه طابع “الظاهرة” التي قد تصل إلى شاطئ المعرفة العلمية، ولكنه بكل تأكيد يصدر أحكامًا اعتباطية، ومن منطلق نظرية افتراضية لا تنطبق على كل الناس، فضلاً عن أن
الاعتماد على منهج واحد لابد وأن يصم صاحبه بنظرة أحادية .
لو أنه أخذ مفتاحه من واقعة عملية لا شك فيها، هي أن بعض أفراد هذه الأسرة يتسمون بعلو الهمة وقوة الإرادة والطموح و “الرسالية”، وهي ملكات نفسية ينعم الله بها على من يشاء وهذه كلها وقائع ثابتة، لكان هذا مفتاحًا سليما وواقعيًا .
الشيخ الوالد رحمه الله الذي فر من القرية، وتنازل عن قراريط من الأرض له لكي يتعلم وينذر حياته للمعرفة، والذي ما أن ألم بمفاتيح المعرفة الإسلامية في جامع القائد إبراهيم في الإسكندرية حتى بدأ مشروعًا لم يقم به أحد الأئمة الأعلام من المسلمين لمدة ألف عام !
ولكي يكون سيد نفسه، ولا يربطها بوظيفة تعلم تصليح الساعات، وهي حرفة لا تشغله ويمكن أن لا يمنحها من الوقت إلا ما يحقق له شيئًا من التغيير من القراءة والكتابة .
العمل الذي قام به هو تصنيف مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني الذي يضم قرابة عشرين ألف حديث رتبت على أساس الراوي وليس على أساس الموضوع، وكان هذا سببًا في عدم الاستفادة من هذه الموسوعة في استخراج أحكام فقهية .
حاول ابن كثير أن يرتبه ولكنه عجز وقال : “لا زلت أقرأ فيه والسراج ينونص حتى كف بصري” .
لم يقنع الشيخ الوالد بهذا العمل، ولكنه أضاف شرحًا لكل حديث يتناول السند، وغريب اللغة، والتخريج ثم الإحكام، وهذا الشرح يماثل المتن، ويزيد عليه .
استغرق هذا العمل من الشيخ الوالد خمسة وثلاثين سنة قضاها في مكتبه في عطفة الرسام المتفرعة من الغورية، بلا أضواء ولا شهرة، معتكفًا عن العالم بأسره .
الأغرب والأعجب أن هذا الرجل ــ المأذون الشرعي ــ الساعاتي ــ قام بطبع الكتاب على حسابه ! وأتم طبع 22 جزء، علمًا بأنه كان رجلاً فقيرًا يعول أسرة كبيرة .
هذا هو علو الهمة، أو هو الإيمان بدور يضحي في سبيله بكل ما يسعى الناس العاديين إليه، الشهرة، الثراء، المنصب .. الخ .
يماثل الشيخ الوالد في علو همته، وإيمانه بدور رسالي ابنه البكر الإمام الشهيد حسن البنا .
حسن البنا خريج دار العلوم، معلم الخط كما نبذه شانئوه، كان يمكن أن يكون معلمًا عاديًا، فما أكثر المعلمين في المدارس الابتدائية .
ولكنه كان الرجل الذي أقام “الإخوان المسلمين” وفرض بصمته على الدعوة الإسلامية في العالم أجمع، وأعاد الإسلام إلى صدارة المجتمع بعد أن وضع في ركن قصي، هنا أيضًا نجد علو الهمة والإيمان برسالة يُضحي في سبيلها بكل شيء .
جمال البنا أيضًا سار على الخط، ورزق الموهبة نفسها، وأراد لنفسه من البداية أن يكون كاتبًا، واطرح المجتمع البورجوازي بمثله المعبودة ( الوظيفة ، المنصب، المال، الاستماع،الأسرة، والأبناء .. الخ ) .
من طفولته وهو يقرأ، لأن صحته لم تكن تساعده على أن يلعب أو يكون له هواية، وكانت الهواية المناسبة والمفضلة هي القراءة، ويمكن القول أنه يقرأ من العاشرة حتى الآن، وأنه لو خيِّر بين كتاب ممتع، وعرض لملكات الجمال لفضل الكتاب، ولهذا استطاع أن يصدر أكثر من مائـة كتاب وهي وحدها شهادة لـه .
كان على الأستاذ النابلسي أن يأخذ نقطة انطلاقه عن جمال :
أولاً : الثقافة الموسوعية التي مكنته من أن يصدر كتبًا لها أصالتها في مجالات متعددة كالعمال والعمل النقابي، الدراسات السياسية، المواضيع الدينية الحركات الشعبية، عمالية أو نسائية أو جماهيرية لتحقيق العدالة والمشاركة في السلطة .. الخ، وكتبه شاهدة بذلك .
ثانياً : صفة الاستقلال، والاستقلال لا تعني بالضرورة المخالفة، ولكنها تعني بالدرجة الأولى عدم التبعية، وكان هذا في أصل عدم انتمائه إلى أي حزب أو هيئة، أو عدم ارتباطه بوظيفة، وقد تحمل صعوبات عديدة وأخذ نفسه بتقشف حتى لا يضطر ليمد يده، وأغناه الله من فضله في سنواته الأخيرة عندما تبرعت الشقيقة فوزية ــ رحمها الله ــ بثروتها التي آلت إليها نتيجة عمل أربعين عاماً هي وزوجها في السعودية، وكانت قرابة خمسمائة ألف جنيه أودعت البنك كوديعة يصرف من عائدها، وأنشأت مؤسسة فوزية وجمال البنا للثقافة والإعلام الإسلامي، وبهذا أمكننا أن نطبع وننشر كتبنا دون حاجة إلى معونة خارجية .
هذه يا أستاذ نابلسي نقط عملية كان يمكن أن ترتكز عليها في تحليل شخصية جمال البنا وهي كلها حقائق، لا أن تعود إلى فرض تخميني خاطئ علميًا ومرفوض أدبيًا .
لم يأخذ النابلسي منطلقه من هذه الحقائق الواقعية، ولكن آثر أن يلوذ بعلم النفس ويستخدم نظرياته الجدلية التي لا يمكن أن تثبت علميًا لأنها حكم على النفوس والسرائر طبقًا لقواعد وضعها فرويد نتيجة لتجاربه على المصابين باضطرابات عضوية ونفسية، وليس على الأصحاء، وبالتالي فإن كل أحكامها مشكوك فيها .
ولكن يبدو أن النابلسي آثره لأنه يمكنه من تشويه صورة جمال البنا بعد أن “فجع” فيه وظهر له أنه ليس من نـَـقـَـدة الإسلام، ولكنه من حماة الإسلام، وأن ثوريته إنما هي على حكم الفقهاء وليس على الإسلام نفسه الذي يؤمن به ويدافع عنه، وأنه ليس من الذين يصفقون لأمريكا، ولكن يحكم عليها بعملها، فادعى أن جمال البنا لم يجد سبيلاً للشهرة إلا بنقض أعمال أبيه وأخيه !!
في أي شرع يكون الاختلاف في الفكر وسيلة رخيصة للشهرة، وهل كان أرسطو عندما اختلف عن أستاذه أفلاطون يسعى للشهرة ؟، وهل أساء هذا إلى أرسطو أو أفلاطون ؟، وهل كل الفلاسفة والمصلحين الذين يعلنون آراء جديدة مخالفة لما يسير عليه الناس يبتغون الشهرة؟
الأستاذ النابلسي لا يعرف شيئًا عن العلاقة الخاصة جدًا بين الابن البكر وآخر العنقود ! كانت العلاقة بين حسن البنا وجمال البنا مشحونة بعاطفة حميمة تقوم على التقدير المتبادل، فأنا أرى في حسن البنا أحد المنظمين القلائل للجماهير، وهو في هذا يفوق لينين ــ المنظم الأكبر في العصر الحديث ـ
وقد تحدثت عن حسن البنا في كتاب “ما بعد الإخوان” بما يفي بحقه من التقدير والإعجاب، كما تحدثت عنه في كتاب “خطابات حسن البنا الشاب إلى أبيه”، وكتبت ترجمة في قرابة ثلاثين صفحة إنصافًا للشيخ الوالد وتقديرًا لعمله العظيم وهمته العالية، وبالطبع لم يقرأ النابلسي هذين الكتابين .
فهذه كانت علاقتي بالوالد والشقيق، ولم يؤثر عليها تحفظاتي على الإخوان التي كنت أدلي بها في جلسات عديدة له، فكان يسمع ويبتسم دون أن يناقش أو يقبل أو يرفض ؛ لأنه يعرف أنه هكذا جمال البنا، له رؤيته الخاصة ولا أبالغ أنه كان يقدر هذه لرؤية، وروي لي الشيخ عبد العزيز الخياط الذي كان وزير الأوقاف الأسبق في الأردن أنه عندما كان يدرس العلم في الأزهر سنة 1946م دخل هو ومجموعة من زملائه على المرشد فوجدوه يقرأ في رسالة صغيرة كنت قد أصدرتها للتو بعنوان “على هامش المفاوضات”، أي المفاوضات التي كانت تدور بين صدقي باشا رئيس وزراء مصر ومستر بيفين رئيس وزراء بريطانيا، فقال لهم “تعلموا السياسة من هذا الشاب”، فقد كتب جمال رسالة حسنة عن المفاوضات .. الخ !!
كانت هذه هي العلاقة ما بين جمال البنا وحسن البنا علاقة لا يفهمها الذين لا يعلمون إلا علم النفس الفرويدي ويصدروا أحكامًا اعتباطية تحقق مآربهم، لأن نظرية “عقدة أوديب” و “عقدة اليكترا” وغيرها من العقد لا يحكم بها إلا معقدون! ولا يقوم لها قائمة إلا في سوق العقد، أما في مجال الحياة، ولدى الأسوياء، فهناك اعتبارات، وقوى أخرى .
وعندما يقول شاكر النابلسي “وجد جمال البنا أن أسهل الطرق إلى الشهرة والنجومية هي معارضة ونقض معظم ما قاله شقيقه حسن البنا”، فإنه يقول إفكًا ويثبت أنه ليس فحسب جاهلاً بالحقيقة، ولكنه أيضًا مغرض .
* * *
ما الذي جعل النابلسي ينقلب من المعجب بجمال البنا إلى معارض له ؟
لأن جمال البنا كتب مقالة بعنوان “لا راحة لأمريكا بعد اليوم” في أعقاب ذكرى أحدث 11 سبتمبر 2001م، لم يسر فيها مع القطيع، ولا مع مستر بوش وهجومه على الفاشـية الإسلامية، ولكنه صعد الموضوع إلى ما سبق 11 سبتمبر، إلى السياسة الأمريكية التي أغرت صدام حسين بإعلان الحرب على إيران وزودته بأسلحة الدمار الشامل، وقام صدام كأي ديكتاتور غبي بالمهمة التي استنزفت ثروة العراق وأجهضت الثورة الإيرانية الصاعدة، ثم أغرت مرة ثانية صدام بغزو الكويت عندما لوحت لـه السفيرة الأمريكية بعدم وجود معاهدة مع الكويت فانطلق هذا الثور الهائج ليجتاح الكويت، وعندئذ أخذت أمريكا تحصد ثمرة مؤامرتها على المنطقة فأسرعت لنجدة الكويت والسعودية وأرسلت جنودها لتحتل قواعد في هاتين الدولتين، تقوم الدولتان بدفع تكلفتها، ولم يكن من المناظر السارة أن يشهد أي واحد عربدة الجنود والمجندات الأمريكيين، في اقدس الأماكن، ثم عمدت إلى تصفية المكاسب الهزيلة التي كانت القضية الفلسطينية قد حصلت
عليها في أوسلو وأيدت السفاح شارون وقال عنه بوش أنه رجل سلام، وساندت إسرائيل في سياساتها الوحشية وتحدت العالم كله في
ذلك .
كانت مجموعة من الشباب المسلم ترقب هذه السلسلة من المؤامرات الأمريكية التي انتهت بالهيمنة الأمريكية الكاملة على المنطقة العربية، وأرادت أن تعطي أمريكا درسًا فأحكمت هذه الخطة “المريعة الرائعة” كما ذكرت، وقلت أنها مريعة لأنها أدت إلى قتل ثلاثة آلاف مدني، وأنها رائعة لأن إخراجها ما كان يمكن لأي مخرج سينمائي أن يصل إليه .
لم يذكر النابلسي كلمة ” المريعة ” التي سبقت الرائعة، ولكنه ذكر الرائعة فحسب وفسرها كما يشاء، لا كما يوحي به السياق .
قلت بعد هذا أن حوادث 11 سبتمبر فتحت مجالاً جديدًا للمقاومات الشعبية لم يكن معروفًا ولم يطبق إلا في حالة فلسطين التي لها ظروفها الخاصة جدًا، وقدمت (أي أحداث 11 سبتمبر) مثالاً يمكن أن يتبع عندما تضيق الشعوب باستبداد حكامها، فلا تجد إلا هذه الطريقة، وبهذا فلن يكون لأمريكا ــ ولكل الدول المستبدة ــ راحة بعد اليوم .
إن أمريكا ذات التاريخ الأسود من استئصال أهل أمريكا الأصليين واغتصاب أرضهم، مرورًا باسترقاق شباب أفريقيا وتسخيرهم في زراعتها حتى إلقاء قنبلتين نوويتين افتراءً وعتوًا واستعلاءً عندما كانت اليابان على استعداد للتسليم ، إن أمريكا هذه عليها أن تراجع تاريخها قبل أن تندد بالإرهاب المزعوم .
افهم أن هذا لا يعجب النابلسي المستظل بالحماية الأمريكية، ولكنها رؤية لا يستطيع أحد أن يقول أنها زائفة أو مختلقة أو لم تقم على أسس .
لقد تقبلنا أن تتدخل أمريكا في العــراق التي كان يحكمها طاغية شرير أرعن، ولم يكن هذا ممكنًا بعد أن فشلت كل الجهود العربية، فجاء بوش ــ وهو أكثر رعونة من صدام ــ وخلص العراق منه .
كانت أمريكا يمكن أن تدخل كمحررة، ويمكن أن يلقاها الشعب العراقي بالورود، ولكنها طبقت سياسة “الكاوبوي” الفجة، الفظة، فخسرت تأيد الشعب العراقي وقبلت أن تكون “محتلة” ومزقت الشعب ونهبت موارده، فأين هذه السياسة من سياسة بريطانيا في عشرينات القرن الماضي عندما أرسلت “جرترود بل ” للعراق لإعداده ليكون الملك فيصل ملكًا تحت الانتداب البريطاني، فقامت بهذه المهمة خير قيام ووحدت العشائر، وحمت التراث والآثار العراقية التي كانت راعية له، وهي الآثار التي نهبت “عيني عينك” في الأيام الأولى للاحتلال .
* * *
نحن لم نتغير يا سيد نابلسي إن روح جمال البنا واحدة في كل كتاباته ضد السياسات الاستعمارية قديمًا وحديثًا، ضد الغطرسة، وضد سياسة تريد أن تفرض سيادتها وهيمنتها على العالم بقوة الســـلاح، وأنها تستطيع أن تدمر وتقتل .
نحن لم نتغير يا سيد نابلسي وإنما الذي تغير هو أنت وبنسبة 180 درجة من مؤيد لجمال البنا إلى شانئ له لمجرد كتابه مقال ندد فيه بسياسة مستر بوش وصقوره .
وندع للقراء أن يفهموا دلالة هذا الانقلاب .جمال البنا – مفكر حر