كان منح الصلح حقبة يصعب تحديدها تحت عنوان واحد، وكان جملة من الثنائيات لا من الازدواجيات. استقلالي وعروبي، صلحي وخوارج، محافظ ومنفتح بلا تحفظات، محبّ للحياة وبعيد عن مجتمعها. عاشق للتاريخ وساخر منه. بكْ حتى العظم وليبرالي حتى الثمالة.
كان يفضّل لقب البك على لقب المفكّر، الذي أعطاه إياه العرب، لأن النزعة الثورية التي فيه لم تُخمِد النزعة السلطانية. ولطالما أصغى إلى نصائح الأم التركية، فيما هو يبشّر بالعروبة الكبرى، مرة في صفوف البعث ومرة في صفوف القوميين العرب، ولكن دائماً على مسافة من الجميع، لم يلتزم شيئاً ولا أحداً.
نشأ منح الصلح في زمن كانت فيه للصلحية مرتبة سياسية واجتماعية تلقائية. رياض يناضل ضد الأتراك وسجونهم، ثم ضد فرنسا، ثم يعقد الميثاق الوطني مع المسيحيين، متجاهلاً نقمة المسلمين والسوريين. وكاظم وتقي الدين يمضيان قُدُماً في البكوية والميثاقية. منح كان يمثل الجيل الثاني ولكن مع احترام التسلسل والأقدميات. وأمضى شبابه في كنَف “عمي تقي الدين”، يعمل له ويتعلّم منه، ويُعدّ نفسه لخلافته، نائباً أو وزيراً أو خصوصاً في المركز السني الأكثر بهاء.
لكن متغيّرات لبنان بدأت من فوق، أدبيات آل الصلح والحرص الميثاقي أطاحها الشارع الناصري وتصاعُد حركات اليسار. وعاماً بعد عام لم يعُد صوت الوفق مسموعاً. وبدا طربوش تقي الدين الصلح شيئاً من ماضٍ متخلّف مع أن الرأس الذي يغطّيه كان عقل رجل مستقبلي تنويري مثقّف وبالغ الفطنة، وأستاذ سابق في “الليسيه فرانسيه”.
أقام منح الصلح عالمه منذ البداية في جوار الجامعة الأميركية. ففي حرمها وفي جوارها كان مطلّه على المثقفين العرب الذين أحبهم وأحبّوه. أحبّ فيهم انبهارهم به، وأحبّوا فيه ذلك المزيج من الفكر القومي العالي وروح الدعابة المُبهجة. فلم يكن يعتقد أن الفكر التقدمي مضاد للفرح وله شاربان ستالينيان. ولا خشيَ على وقاره واحترامه من سخرية جامحة هنا أو حبكة ساخرة هناك. ولم يأمَن تلك اللذَعات أحد، فلا حصانة لحصين وكل من غاب استُغيب.
لكن أكثر الناس وجميع الأصدقاء تقبّلوا منح بك على ما هو: ألمعية في الفكر الجدّي ولوذعية في البداهات التهكمية، وقد كانت النكتة جزءاً من السياسة والسخرية جزءاً من الكتابة. ذلك عالم لمع في فضائه جامعو الحِرفتين في مهارة فائقة: “الصحافي التائه” اسكندر الرياشي و”غريب الديار” سعيد فريحة والرجل الذي حجب توقيعه، منح بك الصلح. فالبك الذي كان مفتوناً بالصحافة والكتابة، كان أيضاً “مهووساً” بالموقع، ولم يشأ أن تعطّل هذه على تلك، فترك باب الرجعة مفتوحاً دائماً، علّمته تجارب العائلة، فمن يعرف متى يهبط المنصب من السماء وكيف؟
أشبع منح بك الصحافة فكراً وألَقاً وظلّ ضميرها المُستتِر، يوم كانت “الحوادث” في عزّ وجودها كان سليم اللوزي يستكتبه الافتتاحية ويطلب مشْوَرته ويحوّل لذعاته إلى رسوم كاريكاتورية. وكم من أقلام كُتبت بأفكار البك، الذي كان يمرّ على كبار الكتّاب في الصحف، مرسلاً آراءه وأفكاره، وهو يتلذّذ بأنه سوف يقرأها غداً في زاوية أو عمود أو صدر الصفحة الأولى.
حتى الرئيس فؤاد شهاب “استأنس” فترة بأفكار البك في خُطبه، إلى أن خطَر للبك “الذي لمثله لا يُحفَظ له سر” أن يُلمح إلى ذلك في غداوات مطعم فيصل الظُهرية وفناجين المساء في “الدولتشي فيتا”. كأن يقول على طريقته: أعتقد أن الرئيس شهاب سوف يُلمح في خطاب الاستقلال هذه المرة إلى أولوية الرقابة المالية. وبما أن عدداً غير قليل من الزملاء والرفاق كان يسهر في “الدولتشي فيتا” ويتناول قهوة الصباح في “المكتب الثاني”، فقد بلَغ الأمر الرئيس شهاب وتوقف “الاستئناس”. على أن علاقة البك بالشهابية نفسها لم تتوقف، كانت، بالنسبة إليه، هو المسلم الحريص على الشركة مع المسيحيين، ضمانة التوازن وتأمين الاستقرار. وذات مرة التقيته في الكويت، خلال رحلة خليجية مع “عمي تقي الدين”، وقال لي الصلحي العمّ بكل صراحة إن هدف الجولة هو العمل لفكرة وصول فؤاد نفّاع إلى الرئاسة. وفي اليوم التالي قال لي منح: “أنا وعمي تقي الدين ليس لنا مرشح واحد، أنا مرشحي غابي لحود. لن أخرج من الشهابية”.
اختار الصلحيون النزاهة في الحياة العامة. ظلّوا بكوات للسترة و”ربّي يسّر ولا تُعسّر”، أما البك منح، فاختار التقشف وكان في منزله “بارافان” مرسومة عليه لوحات بريشة السلطان عبد الحميد مُهدى إلى عائلة الأم.
وذات مرة طلب البك من أصدقائه أن يدبّروا له بيع ذلك الأثر بما قد يساعده في أزمته. ولست أدري ماذا حدث بعد ذلك. أدري أن في السياسة وفي الصحافة وفي الأحزاب، البك كان متقشّفاً، يعيش في احدى نزلات رأس بيروت، في شقة يتمادى التواضع في أرجائها الضيقة.
اكتفى البك من لبنان براس بيروت ومن راس بيروت اكتفى بمجلسيه، ما بين “فيصل” ثم “السيتي كافيه” التي بقيت آخر مقاهي الفكر والفن وآخر معاقل “المُنحين” صاحبها مُنح الدبغي والبك مُنح الصلح. عندما أُقفل “السيتي كافيه”، فكأنما كان يُعلن إقفال أي ظهور عام لسقراط المقاهي الذي أمضى عمره بلا مكتب أو مؤسسة أو ملتقى، فقط في المقهى، يأتي و”يبشّر” ويحلّل ويسامِر ويضاحك ويتّكئ على عصاه، التي تشبه عصيّ الرعاة في الصور التاريخية، كابَر على عرَجِه إلى ما بعد الكهولة، لكن الشيخوخة أمَرتْه بالعكّاز. الشيخوخة ديكتاتور لم يقرأ في حياته كتاباً ولم يجلس على الشرفة ولم يتحسّس المطَرَة الأولى في تشرين. كانت قاسية عليه، بعكس شبابه. ففي شبابه تجمّع حوله المقلّدون حتى أنهم قلّدوا عَرْجته وارتخاء ساعده، كما فعل الشبان في عصر اللورد بيرون، الذي غبَطه العاشقون في البندقية على عَرْجته. وقلّده مقلِّدوه في طريقة الكلام ومحطات الكلام. وذاب بعضهم في شخصيته وصاروا حزبه الصغير المرافق، كأنهم يشاطرونه هذا الألم الدائم الهصور ما بين روح متّقدة في آفاق الشرق وجسد مقموع.
بقي أعلى من مرارته. ولكن في هذا الشعور بالاعتلاء، صار البك يعتقد أنه أعلى من الجميع ومن كل الأشياء، وخاف الرؤساء سخريته فاقتربوا منه ولم يقرِّبوه منهم. وقد آلمهم أن طبعه الساخر أعاق دربه السياسي، لكنه لم يغيّر فيه، مفضلاً أصالة الخسارة على زَيْف الربح.
كان نعي منح الصلح في العالم العربي مذهلاً، نعَتْه العواصم كمِثل ما تَنعى الزعامات التاريخية في تقدير وحزن. كنا نظنّ أن عارفيه ومحبّيه قد تشرّدوا في الزمان وفي الأمكنة وفي الحسَرات الوطنية والقومية، لكنهم برزوا من جميع الجهات يودّعونه كأنما يرون فيه جنازة العروبة. كان آخر ما كَتَبه قبل أسابيع مقال في أن العراق سوف يحيا ولن يموت. كان يرفض أن يصدق أن العروبة التي آمن بها، قد بدأ موتها في العراق.
عروبة منح الصلح كمِثل لبنانيته، كانت فكرة الاحتضان وقبول التعدّد كفرضٍ لا كمنّة، وكان يرى أن للأكثرية مكانها، لكن للأقليات ترابها وسماءها وجذورها وتاريخها. رأى العروبة تنطفئ قبله، أمّة يائسة تطلب مساعدة أميركا وتسلّم قرارها إلى تركيا وإيران وأما هي فلم يبقَ لها سوى أن تتشرّد في البراري وتغرق في البحار.
عاش منح بك حياته على المشارف. على مشارف السياسة ولم يقتحمها، على مشارف الصحافة ولم يحترفها، على مشارف الزواج ولم يجرؤ على مسؤولياته، على مشارف الأدب ولم يغامر فيه، على مشارف الأحزاب ولم يدخلها. عُمقان فقط دخلهما، العروبة ولبنان، تلك كانت دروب آل الصلح. خاتمة محزنة للجميع.
* نقلا عن “النهار”
newspaper.annahar.com/article/180235-رجل-المشارف