هاني فحص
سرت نار الفتنة عام 1860 من لبنان الى دمشق، وابتدأت في شوارع دمشق ممارسات مثيرة من قبل الغوغاء، فاغتمّ الأمير عبد القادر الجزائري لخراب البلاد، وحاول مع الوالي أن يجنّب دمشق هذا المنزلق فلم يوفق. وتفاقمت الأمور ونادت الدهماء بالجهاد وشرعوا بالقتل والنهب والإحراق. فركب الأمير الى محلة النصارى ناصحاً ولكن عاد فاشلاً، فأخذ يرسل المغاربة الى المحلة لإخلاء الناس من الكنائس والأقبية، فحاول السفهاء الهجوم على قصره فصدهم، فتحولوا عنه الى الأعيان الذين اقتدوا به وجمعوا النصارى عندهم، لأخذهم منهم، فأرسل المغاربة لمنعهم، ولما غصت دوره بالنصارى أخذ بإرسالهم الى القلعة بالتفاهم مع الحكومة، وكان عددهم الإجمالي 15 ألفاً يقوم بنفقاتهم جميعاً، وعندما ضاقت الأمور أرسلهم جماعات جماعات الى بيروت بناء على طلبهم، الى حضرة فؤاد باشا وزير الخارجية العثماني، فأنشأ محكمة عرفية فامتلأت السجون بالمطلوبين، وردت المسلوبات وقُتِل من ثبت عليه القتل أو قامت البينة على دوره في اثارة الفتنة، ونفيت جماعة من الأعيان والعلماء لتقصيرها في كف أيدي الغوغاء، وأشخَصَ عامةُ الزعماء وأعوانُهم الى الأستانة، وحُكم على أحمد باشا والي دمشق ورؤساء الجند بالقتل ونفذ فيهم ذلك. وعندما وصلت صورة ما فعله الأمير الى السلطان، أنعم عليه بالنيشان المجيدي بفرمان صورته: «قد أحاط علمي الشريف السلطاني بحال الحمية الدينية الثابتة في أصل فطرة الأمير… قد اضطره إخلاصه لاستعمال الهمة والغيرة في تخليص عدد كثير من تبعية دولتي العلية في الشام، من بعض ذوي التوحش الجاهلين بالوظائف العلية الاسلامية والأحكام الجليلة الشرعية… وأحسنت اليه بنيشاني المجيدي الهمايوني من الرتبة الأولى (صفر الخبر سنة 1277)» .
ثم وصل الأمير مكتوب من الصدر الأعظم، عالي باشا، جاء فيه: «لما طرق المسامع السلطانية خبر الفتنة التي وقعت من أراذل الناس في الشام الشريف بهجومهم على الأهالي النصارى الطائعين الذين نفوسهم وأعراضهم وأموالهم ـ بمقتضى الشريعة الغراء الاسلامية – نفوسنا وأعراضنا وأموالنا، وتجاسرهم على حركات مخالفة للشرع كسفك الدماء وهتك الأعراض ونهب الأموال… فالتأثر العظيم… كان في الدرجة القصوى، ولذلك اقتضى الأمر ارسال دولتلو ناظر الخارجية، ابتغاء اجراء التأديبات القانونية وعمل ترضية للملة ولأهل الانسانية، وبما أنه قد تحقق أن ذاتكم قد توفقتم لتخليص الألوف المظلومين من أيدي القتلة الخاسرين فاستحقيتم لدى الحضرة الملوكية فرط المحظوظية والتحسين وقد أُرسل ـ الوسام – لطرفكم الشريف، وقد غدوت بغاية الممنونية لوجودي واسطة… واختتم مقالتي بالتهنئة الخالصة والتأمينات الاحترامية… أفندم 7 صفر 1277».
وتواترت على الأمير رسائل التهنئة والشكر من سائر الدول مع النياشين، فكتب وزير خارجية فرنسا يخبره بأن الامبراطور «يشعر بداعٍ ذاتي يدعوه الى أن يخبركم عن فرحه الشديد بإجراء ما أجريتموه، وأنا أرجوكم قبول التهاني الشخصية مني. 31 أغسطس 1860». ثم حضر كبير المترجمين في الحكومة الفرنسية مبعوثاً من الامبراطور وقدم الى الأمير نيشان «الليجون دونور» المرصع من الرتبة الأولى. وأرسل غليوم ملك بروسيا نيشان «صليب النسر الأحمر» من الطبقة الأولى مع ختمه الملوكي 12 أكتوبر 1861. وكذلك أرسل اسكندر الثاني قيصر روسيا نيشان «النسر الأبيض» أعظم نياشين القيصرية مشيداً بشهامته، مؤكداً محبته له – في كانون الثاني 1860.
وأرسل ملك ايطاليا فكتور عمانوئيل رسالة مطولة امتدح فيها محبة الحرية واعتبره في عداد المقاتلين لاستقلال الشعوب، وأرسل مع اثنين من ضباطه «نيشان موريس واليعازر» أقدم نياشين الفروسية مع تمام محبتي – تورين ايلول 1860.
وأرسل «اوتون» ملك اليونان الى الأميرِ نيشانَ المخلص من الرتبة الأولى الملوكية، والمؤرخ في تموز 1833. أثينا ـ أيلول 1860.
وأرسل قنصل انكلترا في دمشق برسالة تقدير وشهادة مستفيضة الى الأمير. وبعدها بعثت الملكةُ بندقيةً كتب على ظهر صندوقها: «من حضرة جلالة ملكة المملكة المتحدة الى صاحب السمو… تذكاراً للمساعدة الخيرية المبذولة للمسيحيين في دمشق… سنة 1860… وانه ليؤسفنا ان يعوزنا السفهاء منا لهذه الشهادات، وكأن أهل الخير والحمية والاعتدال والشهامة فينا استثناءات تستحق التنويه، في حين انهم خلاصة مركزة لمزاجنا الشعبي وقيمنا وعاداتنا وتقاليدنا وثقافتنا… والآخرين من أهل الفتنة والوقيعة والجريمة هم الاستثناء المرذول الذين لا تلبث حالة السلم الأهلي أن تكشف حجمهم وقيمتهم المتدنية… ونحن نتذكر الأمير وشهامته، نتحسر على الدم الجزائري المستباح الذي لم يتيسر له حتى الآن أمير يمنع هدره لصالح الشيطان».