دمشق هي عاصمة لمملكة تقف على قدم المساواة مع غيرها من الممالك ولقد كانت هذه المملكة من أول الامر ” آرامية ” فملوكها كانوا آراميين . وهي قد عرفت منذ البداية كمركز للآراميين ولعلنا نلتقي المرة الأولى بحكام من الآراميين يتخذون من اقليم من الاقاليم مركزا لاشعاع حضارتهم يستطيعون منه أن يسهموا في توجيه السياسة الدولية المعاصرة .
ولعل دمشق تدين لموقعها بهذه الميزة ذلك لأن وضعها الجغرافي استطاع أن يذود عنها بعض الوقت اطماع آشور من ناحية كما يسرّ لها الاتصال المباشر بالحضارات القريبة منها عن طريق الوديان والسهول ، وهي في الوقت نفسه مركز هام لطرق القوافل إلى الصحراء السورية وهي بذلك وسيط مباشر بين التجارة العربية والبابلية من ناحية وتجارة سورية وفلسطين من ناحية اخرى .
ومن اجل ذلك كانت اكثر من غيرها تعرضاً لهجرات وغارات الآراميين من ناحية السهول ، بل انها بسبب ذلك ايضا كانت أول ما وقع في ايديهم من سورية وأول ما استوطنوه هناك من اقاليم ، وتشير كتب العمارنة إلى سفارة من دمشق إلى البلاط المصري تشير إلى تهديد حشود الآراميين وان كان لا يشار إلى المواطن التي يتقدمون منها ، وكان تقدم الآراميين إلى هذه النواحي يعني وجود اقليم آرامي إلى جنوب دمشق في عهد شاؤل يشتمل ” صوبا الآرامية ” ويمتد حتى اقليم ” جشور ” الذي لجأ اليه ” ابشالوم ” حين كان يعيش طريداً ، وعلى ذلك فاننا نستطيع ان تنتهي إلى ان اقليم دمشق يمثل مركز الآراميين المباشر اكثر مما تمثله المدائن الاخرى . وانها اقدم المواطن التي استقر بها الآراميون وجعلوا منها مركزا لتحركاتهم القبلية حتى جعلوا من دمشق دولة استطاعت ان تفرض نفسها منذ القرن العاشر قبل الميلاد على ما كان يجري من أحداث ، وان تقف على قدم المساواة مع غيرها من الدول بحيث كانت تستطيع أن تؤثر في ميزان القوى عندما تميل إلى احد الجانبين المتنازعين ، واكتسبت احترام جيرانها بفضل ما أظهرته من منعة وقوة وما وصلت اليه من مركز حضاري مرموق .
ونلتقي أول ما نتلقى بذكر مملكة دمشق في التوراة حين استطاع ” رصين” خلال حكم سليمان أن يرفع عن كاهله نير ” حدد عزر ” ملك صوبا ويستولي على دمشق . . . وعلى ذلك فلا بد أن ” صوبا ” كانت مركزاً من قبل الآراميين الذين كانوا لهم تاثيرا قويا على سورية ، وكان امتلاك دمشق الخطوة التالية لتوسعهم ، وكان ” رصين ” في صراع دائم مع اسرائيل وكانت الجليل وشرق الاردن موطن الصراع بين الفريقين .
وبعد هذه المرحلة تبدأ معلوماتنا تزداد عن دمشق وحكامها فهناك ” بريدري ” ( وهو ” بنهدد ” الذي تشير اليه نصوص التوراة ) واستطاعت دمشق في عهده أن تصبح على رأس الدويلات السورية ) 815 – 844 ق . م . وقد هاجمها شلمنصر الثالث عام 854 ق .م وهو يشير في حولياته إلى الاقاليم والولايات التابعة لدمشق ومن بينها ” حماة ” و ” اسرائيل ” ( تحت حكم أخاب ثم موءاب ويهوذا ) كتابعتين لاسرائيل ثم ( ادوم ) كتابعة ليهوذا . . . . والولايات الفينيقية الشمالية إلى الشمال من ” جبيل ” و ” عمون” و “قوى ” ( اوكيليكيا ). . . وهي مجموعة تستطيع أن تتضمنها مملكة لا دويلة . . .. ولكن موقعة قرقار ( رغم أهميتها ) لم يستطع شلمنصر أن يجني من ورائها انتصارا ، وقد أصابته الخيبة كذلك في حملته التالية لاخضاع سورية ، واستطاعت آشور أن تدرك انها بغير إخضاع دمشق لا تستطيع أن تثبت أقدامها في سورية ، ولم يكن من اليسير بالنسبة لواحدة من هذه الولايات أن تظهر ميلا لآشور لأن هذا كان يعني بالضرورة تعرضها لقسوة دمشق وحزمها ، وقد ظلت الامور كذلك حتى استطاع تقلات بلاسر في نهاية الامر أن يخضع دمشق لسيطرته .
كان ” بريدري ” يمثل في الواقع عنفوان سلطان دمشق ومجدها وانا لنرى ذكره يتردد في التوراة كما يتردد ذكره ” حزائيل ” حين يشار إلى قصورهما وما سوف ينالها من تدمير ونحن في الواقع لانجد اشارة أو تنويها لدمشق قبل عصر شلمنصر، بل اننا نكاد نستنتج من وراء صمت النصوص الآشورية في عهد آشور ناصربال وهو يشق طريقه نحو ” باتيني ” .
أن دولة ” بريدري ” كان لها كيانها وأن الملك الآشوري يحرص على عدم الاحتكاك بها ولهذا لم يتقدم إلى ما وراء ” باتيني” بل هو لا يشير إلى أنه سار جنوبا إلى فينيقيا ولم يتعرض لذكر مدينة غير ” أرواد ” وهو لا يشير إلى اسرائيل ولا يتعرض لها .
أما صور فانها كانت تدفع الجزية لآشور . ولعلنا لاحظنا من قبل أثر تغيير الملكية هنا في سقوط وانهيار أسرة ” عمري ” وانتقال العرش إلى إسرة ” ياهو” ولما كان ” ياهو ” قد اعلن للتو خضوعه لآشور فأننا نكاد ندرك أن آشور كان لها إصبع في الثورة وىالفتنة التي ساعدت على إيقاظها لتحأول اضعاف عدو لم يسعها أن تغلبه في ساحة الوغى وربما لجأ ” حزائيل ” كذلك إلى آشور لتسنده في اعتلاء العرش ولكنه حالما أصبح ملكاً على دمشق ظل على مقاومة آشور بأمل تثبيت مركزه واظهار قوته .. ولذا نراه في عام 842 ق .م . يحارب شلمنصر . ونستطيع هنا ان نعقد المقارنة بينه وبين سلفه ” بريدي ” ففي عهد “بريدي” كنا نطالع اسماء حلفائه ومواليه وأما هنا فاننا نشهد “حزائيل” يقف وحيدا كما نرى الآشوريين يشقون طريقهم نحو دمشق مباشرة ويضطر حزائيل إلى الدفاع عن نفسه في عاصمته, ولم يقدر لشلمنصر ان يأخذ كل البقاع القوية التحصين فأكتفى بأن يجتاح الاقاليم على الطريقة الآشورية المتبربرة . ولقيت حملة 839 ق . م. النصر كذلك . ولكن آشور اضطرت بعد ذلك ان تعدل عن محاولة تحقيق اهدافها وسعت دمشق إلى استرداد اسرائيل ، ووقعت بين نارين : مواليها الجدد من الآشوريين ومولاها القديم الذي يسعى لاستردادها .
وخلف حزائيل ” ماري ” الذي نتعرف عليه في نصوص ” أدد نيراري الثالث “والذي تشير اليه التوراة كذلك تحت اسم ” بنهدد ” وقد تعرضت دمشق تحت حكمه لهجمة آشورية جديدة واضطر للتسليم بعد حصار دمشق . ولكن ضعف آشور بعد عصر ” أدد نيراري الثالث ” شجع دمشق على استرجاع استقلالها الذي لم تستمتع به طويلا فسرعان ماتقدم نحوها شلمنصر الرابع في عام 773 ق. م. ولكن الامور تظل غامضة حتى عهد تقلات بلاسر الثالث الذي يعاود الهجوم عليها كذلك.
وخلف ” ماري ” على الارجح ابنه ” تب ايل ” الذي تشير اليه نصوص التوراة كأنما هو أب ” رصين ” وتقدمه تحت اسم ” طبئيل ” . واحداث عهده ليست بقيمة . فليس فيها مايشير إلى الوان واضحة من الصراع ولقد خلفه ” رصين” الذى نلتقى به في عام 738 ق . م .
عند ظهور تجلات بلاسر الثالث واحدا من الموالي الذين يدفعون الجزية لآشور، ولكنه سرعان مايقوم في ثورة ويستثير السامرة مما أدى إلى سقوط ” فقحيا بن منيحم ” الموالي لآشور واجلاس شريكه ” فقح بن رمليا” على العرش . وعقب ذلك نراهم معا في عام 735 ق . م . امام بوابات اورشليم يحأولان خلع ” احاز ” الذي انحاز إلى آشور وكان يؤمل في عونها وسندها ضد اسرائيل . وفي العام التالي ظهر تجلات بلاسر في فلسطين واخضع “فلسطيا” وهزم “فقح” في السامرة عام 733 ق . م. ثم حاصر دمشق واستولى عليها عام 732 ق. م. وفقد ” رصين ” عرشه بل دفع حياته ثمنا للدفاع عن مدينته . . وهكذا سقطت دمشق في يد الآشوريين وأصبحت ولاية آشورية وخضعت سوريا بالتالي لسلطان آشور مادامت اقوى اقاليمها قد غدت خاضعة لها . وسرعان ماقضى ” سرجون ” بعد ذلك على ثورة ” ياعوبيدي ” في حماة . وبدأ الآشوريون ينصبون ولاة آشوريين على الاقاليم السورية يخضعون خضوعاً مباشراً لآشور وكان ذلك في المرحلة التي انهارت فيها مملكة السامرة وأخذ اهلوها إلى السبي فيما وراء الفرات .
وبعد قرن من الزمان كانت آشور تحتضر وبدأت مصر تعاود استرجاع سلطانها على الشرق فخرج ” نيكاو الثاني ” في العام الأول من اعتلائه العرش على رأس جيش مستهدفاً تخليص سوريا وفلسطين من سلطان الآشوريين فاستولى على غزة وعسقلون ثم زحف شمالاً حتى مقاطعة يهوذا والتحم بالاسرائيليين في سهل مجدو وانزل بهم الهزيمة واضطرت اورشليم لدفع الجزية ثم انتقل نيكاو إلى الفرات ليقضي على دولة آشور ولكنه خاف ( بعد ان بعدت الشقة بينه وبين مصر ) ان تتحول دفة الامور إلى غير مايحب فآثر العودة دون ان يهاجم نينوى مكتفياً باخضاع سورية لسلطان مصر ….