دليلك إلى حياة مقدّسة (الفصل الثامن)

ليست الحياة معادلة حسابية نستطيع أن نتعلمها فنحقق الغاية منها، كما يصل البائع إلى السعر
الإجمالي لمبيعاته وبدقة متناهية.
ليست الحياة جدول ضرب، تضرب بها مجريات الأحداث فتخرج منها برقم نهائي مطلق في صحته.
ليست الحياة خارطة طبوغرافية ترسم لك الطرق وتشعباتها ومكامن الأهداف بدون أي خلل وبدقة صاروخ سكود عندما
يلتحم بهدفه!
الحياة أكثر تعقيدا وتشويشا من كونها كل ماسبق!
لا شيء يُضيء لك مسالكها المعقدة إلاّ النور الذي يسطع من داخلك،
ولا شيء يستطيع أن يقودك إلى برّ الأمان إلا القوى الكامنة فيك والتي تزودك بالمعرفة التي تحتاجها، أكثر بكثير
مما تقدمه لك حواسك الخمس!
لكي تستطيع أن تدير مفتاح المصباح القابع في أعماقك، ولكي تستطيع أن تستخرج القوى الكامنة في جوهرك، عليك أولا
أن تعي ماهية الحياة وتقبلها بتعقيدها وتشويشها!
الحياة لا تقبلك معارضا لسيرها، بل تريدك منسابا بعفوية مع دفقها،
فلا تحمل السلم بالعرض!
…….
عندما توصلت في حقبة ما من حياتي إلى تلك القناعة أول ما استحضر ذهني بيت من الشعر لامرؤ القيس:
مكر مفر مقبل مدبر معا….كجلمود صخر حطه السيل من عل
الشطر الأول منه يعرّف الحياة بدقة تضاهي دقة جدول الضرب، فهو يجسّد تناقضاتها وتصارع تلك التناقضات.
بينماالشطر الثاني يشرح ضرورة أن تنساب مع هذه المتناقضات بعفوية تضاهي انسياب صخرة مع تدفق السيل!
تخيّل نفسك في أعلى نقطة من شلالات نياغرا، وستجرفك إلى أخفض نقطة فيها، هل تستطيع أن تقاوم؟
هل تستطيع أن تتخيل قوة مقاومة تستطيع أن تقف في وجه ذلك الجرف فتخفف من حدّة قوته؟
هكذا يجب أن تمضي في الحياة…
عندما تنساب مع جرفها تكتسب قوة ذلك الجرف وتحافظ على قواك الكامنة دون أن تستهلكها!
اياك أن تظن أنني أقصد أن تكون سمكة ميتة،
فالسمكة الميتة لا تملك قوة كامنة!
اياك أن تظن أنني أريدك خرقة بالية يمسح بها كل عابر سبيل حذائه،
فالخرقة البالية ليست من الحياة!
أريدك أن تميّز بين الحياة وبين الموت،
كل شيء يعاكس الحياة ينطوي تحت لواء الموت!
يجب أن تكتسب القدرة على التمييز بين ماهو حيّ وبين ماهو عكس الحياة…
هذا الحاكم الذي استفحل شرّه ليس من الحياة بشيء….
والدك الذي بلغ طغيانه حد الزبى ليس من الحياة بشيء….
زميل عملك الذي تجاوز حدود الأدب والأخلاق ليس من الحياة بشيء….
ليس حيّا من لا يعرف قيمة الحياة،
وليس حيّا من لا يدافع عن تلك القيمة،
وليس حيّا من لا يسعى لتحسين نوعيتها…
هناك فرق بين أن تنساب مع تيار الحياة وبين أن تركب التيارات المعاكسة له، وعليك أن تميّز بين
الاثنين!
…..
لنفرض أنك في طريقك إلى بلد ما لتقابل أخاك الذي لم تره منذ سنين، لسبب ما اضطرت الطائرة أن تهبط
في دولة أخرى.
ولسبب ما خارج عن ارادتك اضطررت أن تعود إلى بلدك دون أن ترى أخاك!
تقبّل الأمر كي لا تُستنزف!
لا تسمح لمشاعرك السلبية التي قد تنجم عن القراءة الخاطئة لهذا الحدث أن تستهلكك.
لم يحدث ذلك عبثا، فللحياة أسبابها، وكما أشرت سابقا عليك أن تنساب مع دفقها.

لنفرض أنك كنت تقود سيارتك لحضور حفل أو للقاء في غاية الأهمية.
قبيل الوصول إلى جهتك خفست عجلة السيارة، واكتشفت أنك لا تملك العدّة اللازمة لتغييرها.
لا تغلِ ولا تسمح لنفسك أن تصل حد الفوران، فالأمر لا يحتاج إلى ذلك، وأقل من أن يثير بركانك.
استرخِ، واستمتع بمعالم الطريق..
فللحياة مجراها ولها أعذارها، وربما كان عذرها أن تتجنب موقفا في هذا اللقاء، موقفا سيجرك إلى ما يستنزف
طاقتك بعكس ماكنت تتوقع.
لا تشغل نفسك بالبحث عن أعذار الحياة، فستأتيك على طبق من ذهب في يوم ما، وستدرك عندها أن ما حدث
كان في كفة ميزانك.
لكنك لن تصل إلى هذا الإدراك لو سمحت لنفسك أن تغلي وتفور وتلعن ماحدث، فالحياة تلعن من يلعنها!
……
لو قاومت ماحدث سيستنزف الغضب مكامن القوة في داخلك، ولن يغيّر هذا الاستنزاف من مجرى الحدث، لكنه
سيغيّر مقصده!
لقد قصد أن يكون لصالحك، فالكون يعمل بطريقة لغزيّة للغاية،
لكنه سيتخلى عن قصده بعد أن أثقل الغضب كفتك!
….
هذا تماما مارأيته في بيت الشعر لامرؤ القيس “كجلمود صخر حطه السيل من عل”،
الفلسفة التي ينطوي عليها هذا الشطر تُحيجني إلى كتاب كي أسبر أغوارها، حتى
ولو كان المعنى المتفق عليه بخصوص هذا البيت يختلف!
تقبل عودتك إلى بلدك دون أن ترى أخاك، كما يتقبل الصخر مسار سيل حطه من علٍ.
لو فعلت ذلك ثق تماما سترى أخاك في مكان أكثر أمنا وفي ظروف أشد متعة.
للحياة أعذارها، وأعذار الحياة دائما لصالح الحياة!
……
انتقل موظف جديد إلى مكتبك، ومنذ اليوم الأول لدوامه راح ينفث سمومه.
لا تقاوم وجود هذا الشخص في مكتبك، تقبل الأمر كما يتقبل الصخر مسار سيل
حطّه من علٍ.
تقبل وجوده، ولكن ارفض شروره!
وجوده هو جزء من دفق الحياة، وشرّه هو عكس الحياة!
قدرتك على التمييز بين دفق الحياة وبين التيار المعاكس لهذا الدفق تجنبك الاستنزاف الطاقوي
الذي سيحدث لو ركزت اهتمامك على الشخص، لا على شرّه!
الأمر ليس سهلا، لكنه ممكن…
ليس سهلا لأنه يتطلب صبرا ومهارات، مهارات تمنحك القدرة على قبول الشخص ورفض شرّه في آن واحد،
وعلى التمييز بينهما!
كيف؟
لنفرض جدلا أن هذا الشخص قد قام بتصرف مفرط في شرّه،
كأن لفّق كذبة عنك للمدير.
لا تستشط غضبا وإلا سيلبسك شرّه وستتقمص دوره!
تذكّر: لا يسبب الألم إلا المتألم…
لذلك، كي تردعه عن تصرفاته المسببة لألمك عليك أن تخفف من حدة ألمه…
أكثر الذين يحتاجون إلى الشفقة هم الذين لا يملكون ذرة منها في قلوبهم!
واجهه بابتسامة تفيض شفقة، واربت بلطف على كتفه: هل تريد
أن نشرب فنجانا من القهوة معا؟
جرّده من أنيابه بلطف، واقنعه أنك لا تملك أنيابا!
انتظر حتى يشعر بالاطمئنان إليك، فالمتألم يخاف ويشكّ في كل من حوله!
عندها وبهدوء، تستطيع أن تقول: يبدو أن المدير قد سمع عني قصة خاطئة، وبودي
لو أستطيع أن أصحح المعلومات التي وصلته!
ستكون عبارتك تلك نهاية المشكلة، ولا داعي لي لأن اُسهب…
لا تستخدم لغة اتهامية، بل لغة تشعره أنه محل اهتمامك وتقديرك وثقتك، ورغبتك
في أن يساعدك.
لا تنتظر منه أن يُصلح ما أفسد، إذ ليس من المفروض أن يكون ذلك غايتك،
بل الغاية الأنبل أن يتحسس ما سببه لك من ألم، وأن يتحسس نبلك معه!
موقفك هذا لو حدث، سيكسر الدائرة المفرغة
التي ستدور أنت وهو فيها، والتي سيقودكما فيها الانتقام إلى تصرف أسوأ والتصرف الأسوأ إلى مزيد
من الرغبة في الانتقام وهكذا دوالييك….
تلك الدائرة ستستمر لو غضبت وقررت الإنتقام!
…..
أي موقف سلبي تجد نفسك فيه اعلم أنك عنده تعاكس الحياة،
حتى في حربك ضد الشر يجب أن تكون ايجابيا!
ليس هذا وحسب، بل كل موقف سلبي سيستنزف مكمنا للطاقة فيك، والاستنزاف الطاقوي هو سبب لكل
علّة جسديّة أو نفسيّة أو روحانيّة!
تستطيع أن تواجه أكثر الناس تفريخا للشرور وتظل محتفظا بطاقتك!
تذكّر أنه في معركتك ضد الشرّ، لا يوجد أشرار، بل يوجد بشر ابتلوا بالشرّ.
لهم “ذوات عليا” حجبتها عنهم ظروف ما، ولكي تواجه شرورهم ما عليك إلاّ
أن تساعدهم للعودة إلى جوهرهم، وبالتالي إلى ذواتهم العليا، التي هي خير بالمطلق!
لا تواجه شخصا مهما بدا لك شريرا، إلا عندما يطمئن لك ويشعر أنك لا تهدد ذاته العليا
بشكل أو بآخر.
….
يُحكى أن مراهقة بوذية ولدت طفلا خارج إطار الزواج، فاتهمت المعلم المستنير
الذي كان المرشد الروحاني الأعلى في قريتها بأنه اغتصبها دون ارادتها.
جنّ جنون والديها، فحملا الطفل وهجما على معبد الناسك!
انهالا عليه ضربا وشتيمة، وألقيا الطفل داخل المعبد…
تناوله مبتسما وهو يلملم أطراف ثوبه محاولا أن يمسح دمائه ويسترد أنفاسه، ثم لوح لهما وهما يغادران المكان.
بعد عامين اعترفت الشابة لوالديها أن عشيقها فلان الفلاني هو والد الطفل، وبأنها
اتهمت المعلم أملا في أن تخفف من حدة غضب والديها.
شعر الوالدان بالذنب فتوجها إلى المعبد ليعتذرا من المعلم.
سألاه عن سرّ ردة فعله الهادئة والمتزنة، فردّ: لم تكونا في حالة عقلية يفيد عندها الكلام،
ولم أشأ أن اُسيء إلى الطفل، وأنا أدري أنه يستحق حياة كريمة!
وتابع: لماذا تتوقعان أن أستنزف طاقتي في جدل عقيم لن يقدّم أو يؤخّر مع شخص
يحكمه الغضب؟
تصوّر لو كنتَ المعنيّ بهذا الإتهام، وتصور كيف ستكون ردّة فعلك!
……….
مدرس جامعي أمريكي مختص في اللغة الانكليزية، رافق صديقا له إلى حفلة غداء.
أثناء الحفلة، راح صديقه يتحدث مع شخص آخر يجلس إلى جانبهما، وإذ به
يدخل مع ذلك الشخص في جدل عقيم حول عبارة ما!
الصديق يقول أنها عبارة لشكسبير، والشخص يدّعي أنها آية من الانجيل.
التفت الصديق إلى الاستاذ الجامعي، قائلا: صديقي هذا مختص في اللغة الانكليزية،
ولا شك أنه يستطيع أن يضع حدا لجدلنا هذا، ثم سأله:
هل هذه العبارة لشكسبير أم هي آية من الانجيل؟
فقال الاستاذ: هي آية من الانجيل!
صُعق الصديق، وردّ: حتى أنت لا تعرف أنها عبارة لشكسبير؟
ابتسم الاستاذ ولم يعقّب!
في طريقهما، سأله صديقه: هل فعلا تؤمن بأنها آية من الانجيل؟
ضحك الاستاذ، وقال: لماذا تستنزف طاقتك في جدل عقيم مع شخص لا يميّز بين
عبارات شكسبير وآيات الانجيل!
ردّ الصديق: شكرا لك، علمتني اليوم درسا مهما!
…..
قص عليّ راهب بوذي قابلته في أمريكا، قصة معبد كان يعيش فيه بعض الرهبان.
أحد الأيام انتقل راهب من معبد آخر إلى ذلك المعبد.
أثناء فترة الصمت والتأمل التي كانوا يمارسونها في ذلك المعبد،
انزعج الرهبان من الراهب الجديد لأنه كان يصدر نوعا من الشخير الخافت من انفه أثناء تنفسه لسبب ما، فيقوّض عليهم سكينتهم وصمتهم، وتقدم أحدهم بشكوى إلى المعلم الكبير،
فرد ذلك المعلم: لا أستطيع أن أفعل شيئا، تعايشوا مع هذا الشخير على أنه “المانترا” التي ستقودكم إلى النيرفانا!
كلمة “مانترا” تعني بالهندوسية نوعا من التراتيل يعتقد أنها تتناغم مع موسيقا الكون وتساعد من يرددها على الاسترسال في التعمق، والوصول إلى حالة من السلام والسكينة!
بعد زمن طويل، مات الراهب ذو الشخير، ولاقى رفاقه صعوبة بالغة في ممارسة طقوسهم اليومية دون المانترا التي تعودوا عليها!
خلف كل عقبة تصادفنا تكمن فرصة قد تساعدنا للمشي باتجاه أهدافنا!
….
رجلا دين بوذيان كانا يعبران نهرا، فشاهدا امرأة تحاول أن تعبره ولا تستطيع.
طلبت منهما أن يساعداها في عبوره.
الأول رفض بحجة أنه لا يحق له أن يلمس امرأة، أما الثاني فأومأ لها أن تعتلي ظهره،
ثم حملها إلى الضفة الاخرى.
في اليوم الثاني تقابلا، قال الأول للثاني: لقد ارتكبت جرما عندما سمحت لتلك المرأة أن تلمسك!
فرد الثاني: لقد أنزلتها عن ظهري عندما وصلنا إلى الضفة الأخرى، أما أنت فمازلت تحملها في عقلك منذ البارحة!
….
كثير من القضايا يجب أن نرميها خارج عقولنا لحظة حدوثها، كي لا تستنزف قوانا وتنهكنا،
خصوصا عندما تكون تافهة ولا تسبب أية أذية، أو عندما ندرك بأننا لا نستطيع أن نفعل شيئا حيالها.
يجب أن نوفّر رصيدنا الطاقوي من أجل القضايا الأكبر والأهم!
لو وُجدت فتحة بحجم ثقب الابرة في قاع أكبر السفن ستغرقها لاحقا!
لذلك، البس خوذة لا تسمح بتمرير القضايا التافهة داخل ذهنك، كي لا تَغرق لاحقا فيما تظن
أنها حفنة ماء، بينما هي تسونامي تراكم دون أن تحس!
تذكر أن القشة لا تستطيع أن تقصم ظهر البعير إلا بعد أن تنهكه كثير من التوافه في خرجه!
يقول أحد أبطال قصة للكاتب الأمريكي المبدع هيمنغواي: لقد أفلسنا تدريجيا، ثم فجأة!
قد يظن الإنسان أنه اُستنزف طاقويا من جرّاء قضية ما، دون أن يدري أن الإستنزاف الطاقوي
قد بدأ منذ زمن بعيد، وتراكم إثر قضية بعد الأخرى، وأغلبها كانت أتفه من أن تحس بها وهي تتسلل
داخل ذهنك لتقض عليك مضجعك!
لا تستطيع قضية على سطح الأرض، مهما كانت كبيرة، أن تنشّف دمك،
مالم يكن البعوض قد أدمى مقلتيك حتى استفقرك!
…..
يقول الشاعر والمفكر البريطاني
Robert. W Service:
It’s not the mountain ahead that wears you out, it’s the grain of sand in your shoes!
(ليس صعود الجبل هو ما يستنزفك، بل حبة الرمل التي في حذائك)!
الدفق العفوي للحياة يرمي في أحذيتنا ملايين من حبيبات الرمل، لو سمحنا لها أن تستنزفنا
لن يبقى لدينا من الطاقة ما نحتاج إليه لنصعد الجبل، وسنبقى أبد الدهر بين الحفر!
….
ضاق معلم روحاني ذرعا بكثرة شكوى وتذمر أحد تلاميذه، فأخذ بعض الملح وأذابه في كأس ثم طلب من التلميذ أن يتذوقه،
ولما فعل، سأله المعلم: ماطعمه؟
رد التلميذ: مالح وغير مستصاغ!
أخذ نفس الكمية وألقاها في بحيرة، ثم طلب من التلميذ أن يتذوق ماء البحيرة، وعندما فعل سأله: ما طعم الماء؟
رد التلميذ: حلو وعذب!
ربت المعلم على كتف التلميذ، وقال: يابني الألم في الحياة كالملح ليس أكثر ولا أقل!
ثم تابع يقول: (مذاق الألم يتوقف على حجم الإناء، لا تقزّم نفسك لتصبح بحجم الكأس، بل كن كبيرا بحجم البحيرة، حتى يبقى طعم الحياة حلوا وعذبا رغم شدّة الألم)
….
في بلداننا المنكوبة بثقافة صحراوية قاحلة جرداء وعاقر، يشعر الناس بأنهم مستنزفون،
هذه الثقافة كرّست لدى أتباعها إحساسهم بالعيب، وقوّضت من قدرتهم على الإحساس بالذنب!
يرتكب الإنسان الملتزم بتعاليم تلك الثقافة كل موبقات الأرض ولا يشعر بعقدة الذنب، بينما يغرق في الإحساس
بالعيب إذا خرج إلى الناس مرتديا بدلة لا توافق الذوق العام!
إنها ثقافة “إذا ابتليتم بالمعاصي فاستتروا”!
إنها ثقافة الخوف من الآخرين مقابل التنازل عن الضمير!
ماالفرق بين الإحساس بالعيب، والإحساس بالذنب؟
أنت تحس بالعيب عندما تخاف من تقييم الناس لك، وتحس بعقدة الذنب عندما تخاف
من تقييم ضميرك لك!
طبعا، مهما أخفيت معاصيك عن الناس، لا تستطيع أن تخفيها عن نفسك.
لذلك، ضميرك أولى وأحق بتقييمك!
أول خطوة تستطيع أن تخطوها باتجاه تصحيح مسيرك من المعصية إلى الفعل الحميد
هو أن تمتثل لصوت الضمير،
وأن تعترف ضمنا وعلانية بمعصيتك!
الفعل الحميد هو ما يجب أن تتستر عليه، وإلاّ فهو رياء ومفاخرة،
أما الفعل القبيح فالإعتراف به سيّد المواقف وبداية الطريق إلى تصحيحه!
…..
عندما يقتنع الإنسان بأن مهمته الأولى والأساسية بعد ارتكاب المعصية، (إن لم تكن مهمته الوحيدة وفقا لتلك القاعدة الشرعية) هي أن يتستر عليها، ستمنحه تلك
القناعة إحساسا وهميّا بأن كل شيء سيكون على خير ما يرام،
وستتكرر المعاصي طالما يرقد الضمير تحت ستار!
…….
نتساءل عن السبب وراء كوارثنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وعلى كل صعيد،
وفي سياق السؤال نتجاهل الحقيقة المرّة أننا ننام على أبواب السفارات الغربيّة أملا بدخول أراضيها،
ليس هذا وحسب، بل وصل الحال بالناس أن يلقوا بأنفسهم وبأطفالهم في المحيطات أمام أحد
خيارين: الموت أو الوصول إلى الغرب!
لا يوجد سؤال على سطح الأرض إلاّ وجوابه فيه…
إنها ثقافة العيب التي ابتلينا بها، مقابل ثقافة الضمير التي كرّسها الغرب!
إنها ثقافة العيب التي فشلت في صنع انسان يحكمه ضميره، مقابل ثقافة الضمير التي
نجحت في صنع انسان لا يخاف لومة لائم في مواجهة الحق!
إنها ثقافة “اذا ابتليتم بالمعاصي فاستتروا” مقابل ثقافة “ما ينفع الإنسان لو ربح العالم وخسر
نفسه؟”
إنها ثقافة “فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة” مقابل ثقافة “من كان منكم
بلا خطيئة فليرمها بحجر”
إنها ثقافة “اصلح غيرك” مقابل ثقافة “اصلح نفسك”!
لا أحد يستطيع إصلاح غيره، ولا أحد معنيّ إلاّ بإصلاح نفسه!
الثقافة الأولى نصبت متراسا بين الإنسان وأخيه الإنسان في المجتمع الواحد، كل يحاول أن يصلح غيره!
والثقافة الثانية بنت جسرا بين الإنسان والآخر، كل يحاول أن يتغاضى عن أخطاء غيره، ويركّز على أخطائه!
الثقافة الأولى منعت من يعيش في ظلها أن يرى نفسه إلا بمرآة، وأجبرته على أن يضع الآخر دوما تحت عدسة مجهره!
بينما الثقافة الثانية شجعت من يعيش في ظلها أن يهتم باصلاح نفسه، إذ لا يستطيع أن يغيّر شيئا إلا من خلال تغييره لنفسه!
ثقافة “ما ينفع الإنسان لو ربح العالم وخسر نفسه” لم تسمح لانسانها أن يكون تحت سطوة أحد بل ضميره، بينما ثقافة “إذا
ابتليتم بالمعاصي فاستتروا” وضعت انسانها دوما وأبدا تحت سطوة الغير، من خلال زرع الخوف لديه من تقييم هذا الغير
له بدلا من أن يخاف من صوت وسوط ضميره!
…………
مؤخرا تناقلت صفحات الفيسبوك عبارة في غاية الروعة، تقول:
(ويل لأمة تخجل من امرأة تخرج بلا حجاب، ولا يهتزّ ضميرها أمام امرأة تخرج
حافية القدمين)!
الضمير يدفع الإنسان لتحسين نفسه ولضبط سلوكياته، بينما الخوف من تقييم الآخرين يدفعه ليتستر على معاصيه بأي ثمن،
لذلك تمسكت تلك الأمة بالحجاب ولم تحرك ساكنا أمام حُفاتها!
التمسك بالحجاب يحميك من لسع “القيل والقال”، بينما لو كنت صاحب ضمير سيؤلمك منظر امرأة تمشي حافية القدمين،
وستشعر بمسؤوليتك تجاهها!
لذلك، الإنسان الذي يقع ضحية تلك الثقافة البدوية القاحلة يظل طيلة عمره في حالة تأهب كي يحمي نفسه من تعييب الآخرين
له، متجاهلا صوت ضميره!
ولما كان إرضاء الناس غاية لا تدرك، تستنزف تلك الغاية مع الزمن طاقات الإنسان كلها وتنهب مكامن القوة لديه!
أمّا ارضاء الضمير فغاية سامية وسهلة لو تدرّب صاحبها على السير في طريقها،
فكل خطوة يخطوها باتجاه تلك الغاية تسهل عليه الخطوة التي تليها!
….
ثقافة “ التستر على المعاصي والخوف من الآخر” أنجبت شعوبا محطبة يائسة يتقاتل بياض عينها مع سواده،
الأمر الذي قاد إلى خراب على كل صعيد!
بينما ثقافة “ماينفع الإنسان لو ربح العالم وخسر نفسه” أنجبت شعوبا كلٌّ فيها معنيّ بإصلاح نفسه، ضارب بعرض الحائط
إرضاء الغير مقابل إرضاء الضمير!
الثقافة الأولى اعتبرت ألسنة الناس أقلام الحق (تصوروا عل هكذا حق!!)، بينما الثقافة الثانية طالبت الإنسان أن لا يأبه لما يقوله الناس عنه باعتباره ـ على
حد تعبير مفكر أمريكي ـ
What people say about you is a reflection of them, not you!
(هو انعكاس لحقيقتهم، وليس لحقيقتك)!
……..
بيل كوسبي فنان أمريكي مشهور، انصبّت معظم أدواره على إظهار صورة الأب المثالي الذي
يهتم بتربية أطفاله وبارشادهم إلى الطريق الصحيح.
مؤخرا تقدمت عدة نساء كن قد اشتغلن معه بدعاوي قضائية ضده اتهمنه خلالها بالتحرش الجنسي.
كنت استمع مرة إلى مقابلة في الراديو مع رجل دين أمريكي، خلال المقابلة طرح عليه مقدم البرنامج سؤالا:
مارأيك ببيل كوسبي؟
فرد: لم أنتهِ بعد من اصلاح نفسي كي أتفرغ لتقييم الآخرين!
رجل الدين هذا، يعرف أن هناك قانونا سيطال السيد كوسبي لو ثُبتت التهمة، ويعرف أيضا أن دوره كرجل
دين مسيحي أن يُطالب كل إنسان باصلاح نفسه وليس بتقييم غيره!
فهو ليس ملزما أن يرجم أحدا قبل أن يعيد النظر في تصرفاته،
والإنسان لا يمكن أن يصل إلى نقطة في حياته يكون عندها طاهرا نقيا، وليس بحاجة إلى إعادة تقييم نفسه،
فكل يوم تواجهنا تحديات نتمنى في اليوم التالي لو عالجناها بطريقة مختلفة!
عندما سمعت جواب هذا الرجل اندهشت وتساءلت: كم هو حاضر الذهن كي يجيب بتلك الطريقة
اللبقة؟!
لكنني لاحقا فكرت في الأمر وأدركت أنها ليست مجرد حضور ذهن وسرعة بديهة، وإنما بالنسبة له طريقة حياة!
لقد تربى وتبرمج وقُولب عقليا وفكريا وأخلاقيا ليكون مسؤولا عن إصلاح نفسه، وليسأل أتباعه ـ كرجل دين ـ
أن يصلحوا أنفسهم ويكفّوا عن اصدار الأحكام بحق غيرهم!
تخيلوا معي لو سؤل رجل دين مسلم عن رأيه بهيفاء وهبي، علما بأنها أشرف من أشرف رجل دين مسلم،
فهي قد قدمت فنا أمتع الآخرين، أم هم فلم يزرعوا إلا الفساد والخراب!
تخيّلوا معي جوابه…..
……..
أنت مستنزف لأنك تهتم بامرأة تخرج بلا حجاب أكثر من اهتمامك بامرأة حافية القدمين،
ولأنك تجادل أحمقا لا يميز بين عبارات شكسبير وآيات الانجيل،
ولأنك مزعوج من شخير رجل يجلس بقربك،
ولأنك تعيب رجلا يحمل امرأة على ظهره ليعبر بها النهر،
أنت مستنزف لأنك تستخدم كل طاقاتك في إخفاء معاصيك، ولا تدرك أهمية أن تربح نفسك ولو
خسرت العالم،
أنت مستنزف لأنك تريد أن (تجلدها مائة جلدة لا تأخذك بها رأفة)، قبل أن تراجع نفسك لترى إن
كنت بلا خطيئة!
باختصار: أنت مستنزف لأنك تحمل السلّم بالعرض، وتعارض الدفق الطبيعي للحياة،
ذلك الدفق الذي يرمي الملايين من حبيبات الرمل في أحذيتنا، والتي لو سمحنا
لها أن تبقى هناك ستقف حائلا في طريقنا نحو القمة!
لذلك، نظف حذائك من رمله، والبس خوذتك كي لا تسمح لتوافه الأمور أن تتسلل خلسة
إلى ذهنك، فتقض مضجعك وتلهيك عن الغاية الأسمى وهي مواجهة القضايا الأكبر!
…….
أكبر القضايا وأهمها أن تُصلح نفسك كي تربحها حتى ولو خسرت العالم!

About وفاء سلطان

طبيبة نفس وكاتبة سورية
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.