دليلك إلى حياة مقدسة (الفصل الثالث عشر)

عندما يصنع النحات تمثالا من الحجر
تأمل في تمثاله قليلا…
هذا التمثال بكل كيانه وتفاصيله كان داخل الصخرة، ولم يضف عليه النحات شيئا من عنده على الإطلاق…
كل ما فعله أنه أخرج التمثال من داخل الصخرة.
تلك هي مهمتك في الحياة، أن تخرج ذاتك من الصخرة التي تكلست داخلها.
هويتك الإجتماعية التي اكتسبتها من خلال عائلتك، ومن خلال الإنجازات التي حققتها، ومن خلال كل العلاقات المفروضة عليك، هويتك تلك ليست حقيقتك، فهي ليست سوى القالب الصخري الذي وجدت نفسك مقبورا داخله!
إذن، أنت لست من تظن نفسك بأنك أنت،
وذاك الإنسان الذي تتحامل عليه بسبب طائفته أو عرقه أو لونه أو موقفه السياسي أو لأي
اعتبار آخر، هو ليس من تظن بأنه هو!
عندما تعود إلى جوهرك، ويعود هو إلى جوهره، سيكتشف كل منكما أنكما مصنوعان من نفس الطينة!
ستكتشف بأنكما نفس الجزء، ونفس الكل، وبأنك هو وبأنه أنت!
ستكتشف بأنك امتداد لوجوده وهو امتداد لوجودك، وبدون أي منكما لن يكون الآخر!
هناك طبقات من الصدأ تتراكم فوق نواتك الذهبية، فتخفي لمعانها وبريقها، وتحجب عنك المنبع الكوني…
عندما تفقد التواصل مع ذلك المنبع، تجف مصادرك ويصبح القحط طريقة حياة….
………….
في نهاية العقد الأول من هذا القرن، تضخم اسمي حتى كدت أفقد ذلك التواصل،
رغم أنني حاولت بكل تواضع أن أبقى كما تعرفني حفيدتي جازي، وكما تجسدني عبارتها البرئية :
تاتا أنت مجنونة!


وذلك كلما فشلت في إلباس لعبتها على ذوقها…
كنت أتمنى أن أحتفظ بجنوني ـ كما تراه جازي ـ فالأطفال يروننا على حقيقتنا،
كنت أتمنى أن أحتفظ بعفويتي وسذاجتي كي أحتفظ بذاتي الكونية وبعلاقتي الشفافة مع ذلك الكون،
لكي تعيش ذاتك عليك أن تكون عفويّا بالمطلق،
أما الـ “أنا” التي تتحكم بالعقل ويتحكم بها، فهي سر التعقيد
والتقييد.
كنت أتمنى، ولكن؟
كادت الشهرة أن تقزّمني،
وأوشكتْ أن تفقدني كونيتي وتحط بي إلى مستوى اسمي!
لهذا السبب قتل مايكل جاكسون وغيره من مشاهير الأرض أنفسهم، ولهذا السبب تداركت الأمر قبل فوات الآوان.
في الموقع الالكتروني الذي كنت أنشر فيه مقالاتي، اصدمت “أناي” بأنا الغير، لأن ذلك الغير لم ير في ابداعاتي سوى اسمي، فهو يجهل ذاتي كما يجهل ذاته،
فاشتعل حقدا وحسدا وكراهية، وبدأت أتحسس مشاعرهم السلبية وأمتص طاقاتهم السلبية.
لذلك، في عز شهرتي قررت أن أنسحب!
قررت أن أخفف من لهيب أناهم شفقة عليهم…
قررت أن أعطي “أناي” إجازة، واستعيد روحي المفعمة بالحب للكون ولكل جزء فيه…
قررت أن أعود إلى حجمي الحقيقي الذي هو أكبر بكثير من اسمي،
فتوقفت خمس سنوات عن الكتابة، وألغيت الكثير من نشاطاتي…
….
تزامن قراري هذا مع بداية الحرب السورية….
في الكوارث يخسر الناس هوياتهم الشخصية “المزيفة” التي اكتسبوها خلال حياتهم، ويميلون للبحث عن هوية من نوع آخر،
هوية أكبر من رؤيتهم لأنفسهم، هوية كبيرة جدا جدا وقوية جدا جدا تستطيع أن ترفعهم من مستوى آلامهم إلى مستوى القدرة على التعايش مع تلك الآلام..
الهوية الكونية هي وحدها التي تستطيع أن تحلق بك فوق مستوى “أناك”، وتريك الحروب والكوارث أصغر بكثير مما يرى الصقر فريسته وهو يحلق في عنان السماء…
لذلك، كانت تلك الحرب المجنونة سببا آخر لأحيل وفاء سلطان إلى التقاعد،
وأعود إلى ذاتي الحقيقة….
…..
عندما تقرر أن تعود إلى حضن الكون، يضع الكون كل امكانياته ليسهل لك طريق العودة…
لذلك، قرر ذلك الكون أن ينقلني إلى المنتجع اللازم لاستعادة صحتي الكونية، بعد أن أسقمتني وهزلتني أناي،
وكان الإنتقال نوعا من المعجزات…

قبل أن يحدث هذا الانتقال بعشر سنوات، كنت يوما مع زوجي في طريقنا
من المدينة التي نعيش بها إلى مدينة أخرى، تبعد حوالي مائتي ميل.
في منتصف الطريق توقفنا في مدينة أخرى لنتناول طعام الغداء،
وجدنا أنفسنا وسط واحة وكأنها قطعة من الجنة،
وكان المطعم الذي دخلناه يطلّ على بحيرة غاية في الجمال.
كالفورنيا كلها جنة، لكن تلك المدينة بالذات بدت لي ولزوجي وكأنها لوحة فنية مذهلة.
عبّرنا للكرسون عن دهشتنا واعجابنا بالمكان، فراح يشرح لنا عن تاريخ المدينة وكأنه موسوعة اختصّ بها،
ثم غادرنا…
….
عام ٢٠١١ مع بداية الحرب السورية، كنت أتصارع مع شهرتي وأحاول جاهدة أن أستعيد حجمي بعد أن قزمتني،
فثمن الشهرة دوما هو خسرانك لذاتك العليا!
في الوقت نفسه، خرجت انجيلا من البيت لتلتحق بالجامعة، وكانت آخر عصفور يغادر عشنا…
شعرنا بالوحشة، وراحت ذكريات الأولاد تطاردنا في كل ركن من أركان المنزل.
اتخذت وزوجي قرارا بأن ننتقل إلى بيت آخر، بيت أصغر حجما،
في محاولة لتجديد حياتنا وتخفيف أعباء الحياة.
اشترينا شقة صغيرة على الشاطئ، وتخلصنا من معظم مفروشاتنا وانتقلنا.
في نفس الشهر الذي دخلت به بيتي الجديد، وبعد أن أحلته إلى جنة،
وبالصدفة المطلقة كنت أتحدث مع شخص مختص بشراء وبيع البيوت،
يجلس إلى جانبي في المقهى الذي اتناول به قهوتي الصباحية.
جرنا الحديث إلى موضوع المدن والبيوت وأسعارها ومشاكلها…
قلت له: لا أحب البحار، علما بأن أمي قذفتني من رحمها لأقع في رحم البحر، فبيتنا في سوريا يلامس الماء،
ولا أعرف ما الذي دفعني لأشتري شقة على الشاطئ!
وتابعت أقول: كنت دوما أحلم بأن أعود إلى الأرض، ربّما وفاءا لجدّي، الذي كان هو ومحراثه جزءا منها.
فردّ: سأبيع شقتك اليوم، وسأجد لك عوضا عنها مزرعة، وتابع يقول مازحا: وسأبحث لك عن محراث!
تبادلنا أرقام الهواتف، وانصرف كل منا إلى جهته…
بعد حوالي اسبوع، رن جرس الهاتف،
مايك على الطرف الآخر: صباح الخير صديقتي، لك عندي خبر حلو!
تذكرت بائع حيّنا (رحّوم) رحمه الله، وهو يصيح: مهلبية….مهلبية بتاكل منا الختياره بتقلب صبيه،
وتساءلت: لعلّ خبر مايك “الحلو” يكون بحلاوة مهلبية رحّوم!
فمايك ورحّوم بائعان، وللباعة اساليبهم!
ـ أهلا بك، ماهو؟
يرد مايك: لديّ شخص يبحث عن شقة على الشاطئ، وعندما أخبرته بمواصفات شقتك أبدى رغبة قوية بأن يراها.
وافقت تحت اصرار مايك، وأبرمنا موعدا.
لم يدخلا سوى غرفة الجلوس حتى صاح المشتري: إنها شقتي!
وطالب مايك بأن يبدأ بتحضير الوثائق والأوراق المطلوبة.
غضب زوجي واتهمني بالجنون،
لكن الرجال لا يعشقون المرأة إلا في لحظات جنونها..
لذلك، وقّع على أوراق البيع قبل أن أوقّع عليها!
بعد شهر، وريثما تأخذ عملية البيع أبعادها، سنصبح مشردين لا مأوى لنا…
عرضت أنجيلا مشكورة أن تستضيفنا في غرفتها في شقة للطالبات ريثما نجد مأوا آخر…

خلال ذلك الشهر، راح مايك ـ وكل يوم ـ يرسل لي رابطا يضم المزارع المعلنة للبيع،
مئات بل آلاف منها…
ذات صباح فقت مزعورة من حلم رأيت فيه جدي (أبو علي) يناولني ورقة بيضاء مكتوب عليها عنوانه كي أزوره،
بدا وكأنه مسرور ومترقب لتلك الزيارة!
أزور جدي أبو علي؟؟؟ مازلت صغيرة نسبيا، ولم أحضر بعد حفلة تخرج أنجيلا!!!
توجهت قلقة إلى غرفة مكتبي لأقرأ ايميلات ذلك اليوم، وكان أولها رابط من مايك.
البيت الأول في ذلك الرابط سحرني،
على الفور اتصلت بمايك وأبرمت معه موعدا لنذهب معا كي أرى البيت..

كم كانت دهشتي كبيرة، عندما اكتشفت أن البيت يقع وسط تلك المدينة الساحرة التي أذهلتني بجمالها يوما، وقبل عشر سنوات.
وكم كانت أكبر عندما اكتشفت أن البيت على مقربة من تلك البحيرة التي غرقتُ في سكينتها يوما، وأنا أشرب نخب الحياة مع زوجي…
ابتسمت وأدركت أن الرسالة التي نقلتها مشاعري في ذلك اليوم للكون قد وصلت.
وبعد عشر سنوات، قرر الكون أن يرد على رسالتي في محاولة لتعزيز مشاعري،
فنشلني من نقطة ظننت أنها مستقري، ليرميني في تلك المدينة،
بل على مرمى حجر من هذه البحيرة!

استلمنا البيت قبل أن نسلّم شقتنا، وبدا كل شيء على خير مايرام…
وقفت على قمة أعلى جبل في تلك المدينة،
ومن إحدى شرفات المنزل سرحت بنظري في ذلك الجمال الساحر الذي يحيط بي من كل حدب وصوب…
تعالى صوت اصطكاك محراث جدي بصخور الأرض،
وجاءني صوته من عمق الوادي: أهلا بك يا حبيبة جدك!
اختلط عليّ الأمر، صارت قرية جدي مدينة بكالفورنيا، وأوغل الزمن في ماضيه…
ما أجمل اللحظة التي تضيع عندها حدود الزمان والمكان، وتضيع أبعادك معها، فتعيش
خلالها كونيتك وسرمدية تلك الكونية…..
صفق صقر بجناحيه فوق رأسي، ثمّ تلاشت غيمة في الأفق البعيد،
وتلاشت معها وفاء سلطان، لأصبحَ منذ تلك اللحظة بحجم الكون!

About وفاء سلطان

طبيبة نفس وكاتبة سورية
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.