كان من الطبيعي أن يسارع النظام السوري إلى نفي ما تسّرب عن أن روسيا وأميركا عرضتا عليه نسخة أولية تشّكل الخطوط العريضة٬ التي يمكن أن يوضع على أساسها الدستور الجديد الذي سيحكم البلاد٬ والتي تنص على إعطاء المجلس الانتقالي صلاحيات الرئيس٬ لكن السؤال يبقى:
ماذا يستطيع النظام أن يفعل عندما يتفق الأميركيون والروس٬ على صيغة دستور جديد٬ يبدو أنها تدغدغ أيًضا حسابات إيران الإقليمية٬ عندما تكتفي بتحديد هوية الجمهورية على أنها سورية من دون ذكر «العربية»٬ وهل في وسع بشار الأسد فعلاً «تحرير كل شبر من سوريا» وإعادة سلطته٬ كما قال يوم الثلاثاء الماضي٬ مما أثار سخرية الأميركيين وامتعاًضا روسًيا مكنوًنا؟!
ليس صحيًحا ما نشرته وكالة «سبوتنيك» التي سّربت النسخة الأولية من الدستور المقترح٬ عن أن مركز كارتر في الولايات المتحدة هو الذي وضع بنود هذه النسخة بالتعاون مع المعارضة السورية٬ لأن التقارير الدبلوماسية تجمع على أن السوريين٬ سيكونون فعلًيا أمام «دستور كيري لافروف»٬ الذي قد تدخل عليه بعض التعديلات لكنه سيشّكل الصيغة التي ينطلق منها النص النهائي٬ وخصوًصا لجهة تذويب حصرية سلطة الدولة في صيغة هي أوسع من اللامركزية٬ وتفكيك الإطار القومي مرحلًيا أمام الفيدرالية٬ التي سبق أن اقترحها فلاديمير بوتين صراحة وُسّر لها قلب باراك أوباما وبنيامين نتنياهو بالتأكيد!
وإذا كانت الفيدرالية قضت بإسقاط الصفة «العربية» عن اسم الجمهورية٬ وتجاوزت ضرورة ذكر ديانة الرئيس٬ فإن الوصول إلى هذه الفيدرالية٬ سيفرض بالضرورة إحداث تغيير في نظام التكليف العام أو القانون الانتخابي٬ ليصبح هناك ما يسّمى «جمعية المناطق» التي يقترح المشروع الروسي الأميركي٬ أن تمنح صلاحيات واسعة٬ من شأنها رفع قبضة السلطة المركزية عن القرار٬ وخصوًصا في ظل تركيز النسخة المقترحة على إعطاء خاصية موسعة لماُيسّمى «وضعية الحكم الثقافي الذاتي للأكراد»٬ وفي رأيي لم يكن هناك من ضرورة لذكر كلمة «الثقافي»٬ لأن الأمر يتجاوز الإطار الثقافي ليطاول الشأن السياسي ولو في حدود مركزية موّسعة الصلاحية والتقرير!
واضح أن «دستور كيري لافروف» الذي يدعو إلى تغيير اسم «مجلس الشعب» إلى «جمعية الشعب»٬ ينطوي ضمًنا على معبر واسع نحو الفيدرالية الرحبة٬ خصوًصا في ظل قيام ما سُيطلق عليه اسم «جمعية المناطق» التي سيكون لها حيثية شعبية تمثيلية٬ بما يجعلها مستقلة عن الإطار المركزي الذي يحكم البلاد٬ وليس مبالغة القول إن روح هذه الصيغة الفيدرالية٬ يمكن أن تفتت الأطر القومية٬ التي قامت عليها الدولة ولن يبقى من ضرورة لتوكيد هويتها «العربية»!
ليس مهًما التذكير بما يكرره الروس دائًما من أن الشعب السوري هو الذي يقرر مستقبله ومصيره في النهاية٬ ولا من المهم ما تقوله أوساط المعارضة السورية٬ من أن هذا المشروع هو مجرد صيغة هجينة لنظام الدولة٬ حيث قد يتّم الاستبدال بالنظام الحالي شبه الرئاسي الذي حدده الدستور المعّدل بعد اندلاع الثورة عام ٬2012 النظام المقترح الذي يشكل خليًطا هجيًنا من النظام البرلماني والنظام المجلسي الذي يعتمد في سويسرا٬ وهو عملًيا ما سيؤدي إلى اختصار السلطات والأطر الدستورية للدولة في يد السلطة التشريعية٬ التي تقوم على أساس الفيدرالية التي تتمثل بالمجلسين المقترحين٬ أي جمعية الشعب وجمعية المناطق.
تأخذ مسألة صيغة الدستور المقترحة جدية في ظل ما يجري الآن ميدانًيا٬ إذ يكفي أن يقرأ المراقب سلسلة البيانات الروسية والأميركية التي تصدر متزامنة ومتوازية٬ لتتحدث عن الغارات الجوية التي يشّنها الطرفان ضد «داعش»٬ وفي هذا السياق لم يكن مفاجًئا الإعلان٬ في وقت واحد٬ بداية يونيو (حزيران) الحالي٬ عن هجومين؛ واحد في اتجاه مدينة منبج الاستراتيجية شمالاً٬ يدعمه الأميركيون جًوا وبًرا عبر مستشاريهم وتنفذه قوات مختلطة كردية وعربية دربها الأميركيون٬ أما الثاني ففي اتجاه الرقة جنوًبا ويدعمه الروس أيًضا جًوا وبًرا عبر مستشاريهم وتنفذه وحدات من الجيش السوري قيل إنها من النخبة التي دربها الروس في الأشهر الماضية.
كل التحليلات التي تحدثت في الأيام الماضية عن سباق أميركي روسي للوصول إلى الرقة والحصول على رأس تنظيم داعش٬ بدت متعّجلة لأن ما يحصل جاء نتيجة تطورات حاسمة حصلت في الأسابيع التي تلت سقوط اتفاق وقف العمليات الذي أعلن في 27 فبراير (شباط) الماضي وما تلاه من انهيار المفاوضات في فيينا.
بعد ذلك حصل تفاهم سري بين باراك أوباما وفلاديمير بوتين٬ على الدفع في اتجاه الحل في سوريا على قاعدة الفيدرالية٬ وقد كلفا جون كيري وسيرغي لافروف التنسيق في هذا الإطار٬ فكان أن اتفقا على إنشاء «خط ساخن» ليتابع التفاصيل تباًعا ويشرف عليه بريت ماكغورك وميخائيل بوغدانوف٬ كما أنشأ الطرفان غرفة عمليات عسكرية مشتركة في منطقة الحسكة٬ حيث هناك قواعد عسكرية أميركية وروسية تتولى التنسيق بين الهجوم شمالاً لخنق خطوط إمداد «داعش» من تركيا٬ والهجوم جنوًبا في اتجاه الرقة!
ما يؤكد صحة هذه التقارير الكشف عن سلسلة من اللقاءات جرت بين قيادات من قوات النظام وأخرى من «قوات سوريا الديمقراطية»٬ ودرست مصير الرقة بعد «داعش»٬ وفي السياقُرصدت تصريحات بثتها إذاعة «شام إف إم» القريبة من النظام٬ أدلى بها المتحدث باسم «قوات سوريا الديمقراطية» طلال سلّو قال فيها إنه بعد التحرير سنواصل التفاوض مع النظام بخصوص الرقة٬ حيث سيقرر ذلك أبناء المدينة.
مصادر في المعارضة السورية تقول إن العمليات من منبج في الشمال٬ حيث تتقدم «قوات سوريا الديمقراطية» بمساندة جوية أميركية لإقفال آخر 80 كيلومتًرا على الحدود مع تركيا بهدف خنق إمداد «داعش»٬ إلى أثريا في ريف حماه الشرقي٬ حيث يحاول الجيش السوري التقدم على محورين يستهدفان السيطرة على مدينة الطبقة وقاعدتها العسكرية المهمة تمهيًدا للاندفاع إلى الرقة٬ هذه العمليات تبدو مشتركة ولا تشكل سباًقا أميركًيا روسًيا في اتجاه الوصول إلى الرقة٬ وقد تنتهي بأن تصبح الرقة في يد النظام بينما يبقى الريف الشمالي في يد التحالف الديمقراطي في انتظار ترتيب شكل الفيدرالية على الأرض!
الاتفاق بين أوباما وبوتين قضى بأن يمارس الطرفان ضغوطهما على حلفاء النظام والمعارضة٬ ولهذا تتولى موسكو ترتيب ردود الفعل الإيرانية٬ بينما تعّمدت واشنطن إدخال حاملة الطائرات «هاري ترومان» العمليات العسكرية الجوية٬ كرسالة إلى رجب طيب إردوغان الذي طالما وضع شروًطا للسماح باستعمال قاعدة «أنجرليك».
لكن السؤال الأهم يبقى: إلى أين ستصل الفيدرالية في سوريا٬ وإلى متى تستمر المرحلة الانتقالية وإلى متى يبقى النظام والأسد بعد سقوط الرقة٬ بعد تظهير شكل سوريا الجديدة كما يراها كيري ولافروف؟!
*نقلاً عن صحيفة “الشرق الأوسط”