صحافة أجنبية : مصطفى الكاظمي
رسالة بليغة وشديدة الدلالة في التسامح وتكريس الروح الإنسانيّة وجهتها اليابان إلى العراقيّين، عندما قرّرت افتتاح مستشفى في مدينة الفلوجة إحياء لذكرى الصحافي الياباني شينسوكي هاشيدا الذي فقد حياته في تلك المنطقة في العام 2004.
وتكمن أهميّة الخطوة اليابانيّة في دلالاتها حول مفهوم التعايش. فالتعايش في ما بين الشعوب وداخل كلّ شعب بحدّ ذاته، لن يتمّ من دون رؤية تتبنّى التسامح كطريق مضمون لقيام المجتمعات الحديثة وتمتين أواصرها وتعميق النظرة الإنسانيّة في التعامل ما بين الشعوب.
وكانت أرملة الصحافي الياباني المغدور قد تبنّت بنفسها جمع التبرّعات لتأسيس مستشفى الفلوجة، فساهمت بشكل فاعل في إخراج مشروع المستشفى إلى النور.
وقصّة هاشيدا رواها السفير الياباني في العراق ماساتو تاكاؤكا في خلال مراسم احتفاليّة بمناسبة إنشاء مستشفى الفلوجة التخصّصي للنساء والأطفال، أقيمت في السفارة اليابانيّة في بغداد في 19 آب/أغسطس الجاري. فالصحافي كان بمعرض مساعدة طفل فقد إحدى عينَيه في خلال الحرب، عندما تمّ اغتياله. والطفل الذي يدعى محمد هيثم والذي تلقّى العلاج بالفعل في اليابان، حضر بدوره الاحتفال.وقد أصدرت السفارة اليابانيّة بياناً نقلت فيه عن السفير تاكاؤكا قوله إن “اليابان تأمل أن تتعزّز المصالحة الوطنيّة العراقيّة والاستقرار، من خلال مساعدة الناس في الفلّوجة والمناطق المجاورة”.
وعبّر السفير عن أمله بأن يكون مستشفى الفلوجة التخصّصي للنساء والأطفال “مثالاً آخر على الصداقة ما بين اليابان والعراق، وأن يقدّم للأمهات والأطفال والعوائل الخدمات الطبيّة الجيّدة والسعادة في المجتمعات”.
لكن الخطوة اليابانيّة هذه مرّت للأسف في العراق من دون أن تنال اهتماماً حقيقياً، لا على المستوى الرسمي ولا الإعلامي.
ولعلّ الموضوع التي كان يجب التركيز عليه، هو مفهوم التعايش. فالسنوات العشر الماضية من تاريخ العراق وعقود قبلها، كانت مثالاً حياً على غياب المبادرات الحقيقيّة في مجال تعريف التعايش باعتباره طريقاً نحو المستقبل. واللافت أن تعريفات التعايش العراقيّة ما زالت تدور حول “الماضي”.
والماضي، سواء على المستوى الطائفي العميق أو على صعيد الالتباسات الاجتماعيّة التي حدثت في العراق في خلال العقود الماضية، شكّل جوهر الخلاف العراقي–العراقي. وقد استمرّ يدور في حدود الذكريات والمؤاخذات الاجتماعيّة المتبادلة، لكنه لم يتحوّل حتى الآن إلى صيغة واقعيّة للتعايش.
وها هي اليابان تقدّم نموذجاً لما يمكن أن تكون عليه المبادرات الاجتماعيّة التي ترصن المجتمع ولا تمعن في تمزيقه.إن العراق بأمسّ الحاجة إلى رؤية يابانيّة للمصالحة وإلى بلورة سلوكيات تعبر فوق الجراح القديمة وتتجاوز الارتيابات المتبادلة. ومثل هذه المبادرات لا يمكن أن تحصل، من دون أن تتصدّى لها نخب اجتماعيّة ودينيّة قادرة على تنفيس الغضب الجماهيري.
قبل فترة من الزمن، بادر رجال دين سنّة وشيعة إلى إقامة صلاة موحّدة في عدد من المساجد. وعلى الرغم من أن هذه الخطوة جيّدة ومثابرة، إلا أنها ليست كافية أبداً. فالبلاد تحتاج أن يكون السنّي موجوداً في جنوب العراق، مثلما تحتاج وجود الشيعي في غربه وشماله. وهذا الوجود يجب أن لا يكون مقترناً بالملابس العسكريّة، بل بالمبادرات والتحصينات الاجتماعيّة.
ربما كان على أصحاب رؤوس الأموال من السنّة والشيعة التفكير بمبادرات مماثلة يكون لها أثر مستقبلي ليس رمزياً فقط على الأرض، وعلى السياسيّين السنّة والشيعة التواجد بشكل دائم في مناطق لا تتبع طائفياً لهم. كذلك، توجد حاجة إلى أن يلقي رجال دين معتدلين خطباً في مساجد في الجنوب والشمال، وإلى أن تتبنّى منظمات ومراكز اجتماعيّة وثقافيّة مشروعات لفهم الآخر المختلف قبل تقديم خدمات إليه.
المونيتور