معاينة الوجود الإيراني في العراق، بين فترة واخرى، حاجة متجددة، على ضوء تداخلات التطورات العراقية والإيرانية، الممتدة مساراتها، الى عصب تحولات الاقليم، وآليات تفكير مراكز صنع القرار فيه، وفهم الاطراف الدولية، للتفاعلات المؤثرة، في تفاصيل احداث المنطقة.
يكمن سر الحاجة، التي تبدو ملحة، مع تداعيات اخفاقات حرب التحالف الدولي على «داعش«، في الطبيعة والشكل، المتغيرين لهذا الوجود، الذي يبقى في جميع الاحوال مثارا للجدل، المبني معظمه على الشك والريبة، مما يملي ادخال تغييرات على مبرراته، للرد على منتقديه، والحد من الانتقادات الموجهة اليه.
ففي تصريحات ادلى بها، هادي العامري، قائد ما يعرف بقوات الحشد الشعبي في العراق، اعاد بقاء حكومة حيدر العبادي في السلطة، وممارسة مهامها على الاراضي العراقية، الى الدور الذي يقوم به قاسم سليماني، قائد قوات القدس، التابعة للحرس الثوري الإيراني، في التصدي لعناصر «داعش«.
التصريحات التي جاءت خلال مشاركة سليماني، في تشييع ضابط إيراني كبير، قتله «داعش«، ولم تخل من المبالغة والانفعال، تعبر كغيرها من ايحاءات سابقة عن رؤية بعض الطيف العراقي، للدور الإيراني الراهن في العراق، وهو الحيلولة دون حدوث الفراغ، الذي قد يتمخض عن فرار الحكومة الى خارج العراق.
ومن خلال التجربة، تجد هذه الرؤية روافع على ارض الواقع، فقد كثفت طهران تدخلاتها في العراق بعد انتفاضة ديسمبر 2012، بهدف قمعها وتعزيز سلطة المالكي، واخذ تواجد قوات القدس الإيرانية في العراق، شكلا اخر مع بدء الحرب الحكومية العراقية على الانبار، في العام التالي، حيث ألحقت عشائر المنطقة هزيمة بالجيش النظامي، مما اضطر نائب رئيس اسناد هيئة الاركان الإيرانية محمد حجازي، للاعلان عن استعداد القوات المسلحة الإيرانية، تزويد العراق بالمعدات والمشورة، وفي فبراير من العام الماضي، توجه مدربون من الحرس الثوري الإيراني الى العراق، لنقل تجاربهم في إيران وسوريا، الى قائد القوة البرية آنذاك علي غيدان وقائد الفرقة الذهبية فاضل برواري، وتمت دراسة تشكيل قوة مشابهة للحرس الإيراني وقوات الدفاع التي تم تشكيلها مؤخرا في سوريا، وتفيد التقديرات المتداولة في العراق، بان عديد القوات الإيرانية، على الاراضي العراقية، يصل حاليا الى 7000 عنصر.
وللرؤية التي يعبر عنها العامري، دلالات يصعب تجاهلها، لدى محاولة قراءة تفاصيل المشهد العراقي، وتحديد مسارات احداثه، تأثرها بالمتغيرات الاقليمية، وتأثيرها فيها، لا سيما وان الحدث العراقي، لم يكن في يوم من الايام، معزولا عن احداث محيطه الاقليمي.
ابرز هذه الدلالات، محاولة صانع السياسة الإيرانية، استعادة دور حامي رئيس الحكومة، الذي تمكن من لعبه خلال ولاية الرئيس السابق نوري المالكي، واستطاع من خلاله، توفير هامش واسع من الحركة، في الداخل العراقي، وتحويل الدولة العراقية، الى خط دفاع اول، عن السياسة الإيرانية في المنطقة، ويعني ذلك من بين ما يعنيه، غياب الرضا الإيراني، عن الطريقة التي تدار بها الاوضاع العراقية في الوقت الراهن، وعدم اكتفائه بمستوى حضوره السياسي والامني، المتحقق في العراق.
لا تبدو هذه الدلالة غائبة، عن معاينة المشهد السياسي العراقي، وتحولات الاداء السياسي الإيراني، في بؤر التوتر الاقليمية، الاكثر سخونة، ففي الشهرين الماضيين، وسعت طهران تحركاتها، لتعزيز قدرتها على التأثير في القرار السياسي العراقي، وتحركات حل الازمة السورية.
والواضح ان حيدر العبادي، الذي يلتقط المؤشرات الإيرانية بحذر، يحاول استغلال هامش الحركة المتاح، في التعامل بأكبر قدر ممكن من المرونة، مع التطورات التي من شأنها إرباك مشروعه ـ القائم على استرضاء العواصم الاقليمية وتطمين مكونات الطيف العراقي ـ وتحويله الى نسخة اخرى من المالكي، في حال اخلاله بالتوازنات الاقليمية والمحلية الراهنة.
غير ان معركة العبادي تبدو صعبة، خلال المرحلة المقبلة، حيث تتزايد المؤشرات، التي تدفع مراكز صنع القرار الإيراني، نحو تعزيز حضورها السياسي والعسكري في العراق، بالشكل الذي يستعيد مرحلة المالكي، او يتجاوز الاستعادة، الى ما هو ابعد، ان كان ذلك ممكنا.
ففي المرحلة الراهنة، وعلى المدى القريب، وربما المتوسط، تبدو طهران في امس الحاجة، الى توسيع دورها في البؤرتين، العراقية والسورية، بالشكل الذي يتيح لها فرصا افضل، في مساومة المجتمع الدولي، على مشروعها النووي، لا سيما وان موقفها يزداد ضعفا، في ظل انعكاس اثر العقوبات الاقتصادية وانخفاض اسعار النفط، على الاقتصاد الإيراني.
كما تلعب التناقضات الداخلية الإيرانية، سواء المتعلقة بالوضع الاقتصادي او صراعات اجنحة الحكم، دورا في توجيه بوصلة صانع السياسة الإيرانية، الى قطع اشواط اوسع، في البحث عن متنفسات خارجية، للازمات الاقتصادية، تحت عنوان خوض المعارك في الخارج لضمان امن الداخل الإيراني، كما المح علي شمخاني امين عام المجلس الاعلى للامن القومي مؤخرا.
بقدر شعورها بضعف موقفها في الداخل، وتفاقم مآزقها الخارجية، تتجه القيادة الإيرانية للتصعيد في العراق، بعد ان حولته الى ساحة خلفية لتصدير الازمات، مما يعني بشكل او بآخر، ابقاء الجهود العراقية المبذولة، للتهدئة الداخلية، في دائرة الوهم.
*كاتب من الأردن