توفيق شومان: السفير
في فيلم «إحنا بتوع الأتوبيس»، الذي أدى بطولته الفنان عادل إمام، والمأخوذ عن كتاب «حوار وراء الأسوار» للكاتب الصحافي المصري جلال الدين الحمامصي، يأمر السجان مسجونيه، مرة، بأن يعووا مثل كلب، ويمشوا مثل امرأة حامل في مرة ثانية، ويرقصوا مثل قرد في مرة ثالثة.
هذا الفيلم، الذي يعيد المشاهد العربي إلى حقبة الستينيات المصرية، يُظهر كيفية انهيار الرابط الإنساني بين الجلاد والضحية، وتمحور الذات الأولى حول شغفها ووحدانيتها إلى حدود إخراج الآخر/ الضحية من شبهها البشري، فالضحية لا تماثلها ولا تشبهها، ولذلك يتفنن الجلاد بتعذيبها لإرضاء أناه العليا والمتفردة.
بطبيعة الحال، من قداسة المحظورات، نقد تلك المرحلة من مراحل وحقبات السياسة العربية، وهي قداسة تصل إلى إسباغ نفسها على تاريخ كامل عمره عشرات القرون، مقرون مرة بالإسلام، ومقرون مرة بالعروبة.
في كتاب «من تاريخ التعذيب في الإسلام»، وهو كتاب لم يأخذ حقه في الشيوع، يقول المفكر العراقي، هادي العلوي، إن الحجاج بن يوسف (660 ـ 714 م)، كان يستمني كلما قتل أو أعدم أو سحل، في حين أن المعتمد بن عباد (1040 ـ 1095 م)، أقام مزرعة من الرؤوس البشرية المقطوعة في إحدى حدائق قصره في إشبيليا.
ويروي المؤرخ البلاذري (توفي 892 م) في كتابه (أنساب الأشراف) أن مسلم بن عقبة، القائد العسكري المعروف خلال ولاية يزيد بن معاوية، استباح المدينة المنورة لثلاثة أيام، نهباً واغتصاباً وقطعاً للرؤوس، وأن آلافاً من الولادات حصلت جراء «جهاد الاغتصاب»، ومع ذلك، حين قارب مسلم بن عقبة الموت، أشهد الله على إيمانه قائلاً: أللهم إنك تعلم أني لم أشاق خليفة، ولم أفارق جماعة، ولم أعص إماما».
وفي المأثور التاريخي الإسلامي، أن الحجاج بن يوسف، قتل وأحرق وصلب وذبح ما يتجاوز مئة ألف شخص، لكن سابقه، زياد بن أبيه (ت ـ 673 م) تعداه في الإثم والعدوان، عددا وأمثولات جهادية، ومن مشهورات أفعاله، كما يرويها المؤرخ الطبري (ت ـ 924 م) أنه كان يدفن معارضيه أحياء، ويفقأ عيونهم، ويحرقهم على نار هادئة ثم يجز رؤوسهم، وكانت تأخذ منه نشوات القهقهة مأخذا، حين يُطلق كلابه الجائعة على مسجونيه. ويعزى إليه، أولية إنزال عقوبة قطع اللسان في الدولة الأموية المتغلبة. فقد قطع لسان رشيد الهجري، ثم صلبه، لخلاف في العقيدة، وبحسب المرويات التاريخية أن زياد بن أبيه، أول من أباح قطع الرأس وحمله على السيف، وكان ذلك الرأس لعمرو بن الحمق، فجرت بعده العادة، كأنها ذهبت مثلا.
وإذا كان الحرق، غير مألوف ومعروف في الجاهلية الأولى ولا في الإسلام الأول، فالخليـفة الأمـوي هشام بن عبد الملك (690 ـ 744 م)، أباحه واستكثر منه، مضيفا إليه قطع الأطراف، مثلما فعل مع غيلان الدمشقي، أو كما فعل عامله على العراق خالد القسري، مع الجعد بن درهم، حيث تم ذبحه وحرقه، وهو المصير نفسه الذي حل بالمغيرة بن سعيد وأتباعه، والحارث بن سريج وأنصاره، على ما يقول الطبري ويروي.
وحين استحكم العباسيون وأصبحوا من ذوي الشوكة والغلبة، قتل أبو مسلم الخراساني (ت ـ 755 م) مئات الآلاف، وقيل إن آلاف المذبوحين غطوا بقاع الشام والعراق، ويروي أبو فرج الأصفـهاني أن أبا جعفر المنصور (ت ـ 776م) أوغل في الشناعة، فكان يدفن معارضيه أحياء حتى الموت، وبعـدما كـان تقـطيع الأوصال يجري دفعة واحدة، غدا في عهد الخليفة هارون الرشيد (ت ـ 810 م) أربع عشرة دفعة، وهذا بالضبط ما فعله الخليفة الرشيد ببشير بن الليث وفقا لرواية الطبري، وتشعبت أسباب الذبح والقتل من ولاية متغلبة إلى أخرى، وتراوحت بين سبب سياسي أو عقيدي، أو هروب من الجيوش، أو انعدام القدرة على دفع الخراج، أو لوشايات يصعب حصرها. وأبدع العباسيون والسلاجقة والمماليك والعثمانيون في فن التلذذ بضحاياهم، ومن أمثلة ذلك:
ـ التشميس: ويعني ترك الضحية لمصيره تحت شمس حارقة.
ـ المسمرة: ويعني دق المسامير في أيدي الضحية على جذوع الأشجار حتى يلقى حتفه.
ـ الحشو: حشو أنف الضحية وعينيه وفمه بالتبن، حتى تخرج روحه من خلفه، إذ كان الاعتقاد سائدا، أن الروح تخرج من الفم، وبهذه الطريقة يسدون منافذ الروح التقليدية على ما يزعمون.
ـ السلخ: ويعني سلخ جلود البشر، وقد أورد ابن الأثير، أن الخليفة العباسي المعتضد بالله، (ت ـ 904 م) سلخ جلد معارضه محمد بن عبادة، وكذلك فعل السلاجقة بقيادة محمد بن ملكشاه، مع أحمد بن العطاش وأصحابه ممن وقعوا في الأسر.
في العصر العباسي، شاعت طريقة سمل عيون الخلفاء لإسقاط خلافتهم شرعا، فالأعمى لا يحوز الولاية، وعلى ذلك، تم تعطيل أهلية القاهر بالله، بسمل عينيه من قبل ابن أخيه الراضي بن المقتدر، ومثل ذلك جرى مع المتقي لله، حيث سمل عينيه ابن عمه المستكفي، ولا يخرج عن السياق، الخليفة العباسي المتوكل (ت ـ 861 م) فقد ذبحه إبنه المنتصر، وكان ولي عهده، وقال فيه البحتري شعرا:
أكان ولي العهد أضمر غدرة؟ / فمن عجب أن ولي العهد غادره
السلطان العثماني مراد الأول (1326 م)، سمل عيني ابنه، صاروجي، بعدما نازعه الملك، على ما يقول محمد فريد بك المحامي، صاحب الكتاب المعروف «تاريخ الدولة العلية العثمانية»، فيما فاتح مدينة القسطنطينية (1453 م)، محمد الثاني، قتل أخاه الرضيع أحمد، في حين أن السلطان سليم الأول دس السم لوالده بايزيد الثاني واستولى على الحكم في العام 1512م، ثم قتل خمسة من أولاد إخوته، ولاحق أخويه أحمد وكركود فقتلهما في العام 1513. وفي معركة «غالديران» العام 1514 مع الشاه الصفوي إسماعيل، سُبيت زوجة الأخير، فأهداها السلطان سليم الأول لكاتبه، تبعا لما يقول محمد فريد بك المحامي.
لم يخرج السلاطين العثمانيون، كما يقول المؤرخ خليل إينالجيك، في كتابه «تاريخ السلطنة العثمانية» (ترجمة محمد الأرناؤوط)، عما هو معروف بـ«قانون ناما» الذي وضعه محمد الفاتح، بعدما استحصل على «فتاوى شرعية» أجازت قتل الإخوة والأشقاء والأقارب حفاظاً على مصلحة السلطنة العليا، ويرد في القانون: «يمكن لأي من أبنائي، الذي سيهبه الله السلطنة، أن يتخلـص من إخـوته، وهو ما تقره غالبية العلماء»، ووفقاً لهـذا القانون، حيث يقرر الله مصير الممالك والملوك، فسليمان الأول قتل ولديه، مصطفى (1553) وبايزيد (1561)، وخنق مراد الثالث خمسة من إخوته، ومحمد الثالث (1595 ـ 1603) أعدم تسعة عشر من إخوتـه، وعثمان الثاني (ت ـ 1622) حـاز «فتـوى» مباشرة بقـتل شقيـقه الأكـبر محمد، واعتمد السلاطين العثمانيون حبس أشقائهم في غرف خاصة في القصور، وقد غدت تُعرف لا حقاً بـ«الأقفاص» وتمتد لسنوات. ولما دُعي سليمان الثاني للحكم، كان قضى أربعين سنة في «القفص»، إلى جوار الخصيان والجواري والعبيد، وبطبيعة الحال، بعد أن تؤول السلطة لسلطان السلطنة الجديد، يزور ضريح الصحابي أبي ايوب الأنصاري، ويؤم المصلين جماعة في أول يوم جمعة، يلي إعلان سلطانه.
من نافل القول، إنه من الصعب حصر السير الشخصية للولاة المتغلبين أو إيجاز تاريخ تداولهم السياسة وإدارة الأمر، ولكن السؤال الذي يبهظ الحاضر، يكمن في الحيز المسموح والمطلوب لفصل القداسـة عن التاريـخ، ذاك التاريـخ الذي أعيـد إحياؤه ممـثلا بـ«داعـش» وخلافتها وشرائعـها القائمة على السبي والذبح والقتل باسم الشريعة وأحكامها.
-
بحث موقع مفكر حر
أحدث المقالات
المجزرة الأخيرة
Published by:آدم دانيال هومه** بالدليل والبرهان … المعارف سر نجاح ونجاة وتقدم الشعوب وليس الاديان **
Published by:سرسبيندار السنديكيف تفكك مجتمعا ما وتدمر حاضره ومستقبله؟
Published by:علي الكاشمباحث في اللغة والادب/ 78 وسامة الرجل في التراث
Published by:مفكر حردراسة موجزة عن ديوان (فصائد في قصيدة واحدة) للشاعر والأديب ميخائيل ممو.
Published by:آدم دانيال هومه** لماذا الصعاليك الجدد يثيرون الشفقة … قبل الاشمزاز والسخرية وبالدليل **
Published by:سرسبيندار السندي** لماذا الإطاحة بالنظام الايراني ... غدت ضرورية غربية ودولية **
Published by:سرسبيندار السنديالحزب الشيوعي لايختلف عن الاحزاب الدينية الفاشية .. الداخل مفقود والخارج مولود
Published by:مفكر حر** كيف بلع نظام الملالي ... الطعم ألإسرائيلي **
Published by:سرسبيندار السندي** كيف يسخر ويضحك صبيان محمد الجدد ... على عقول ألمسلمين **
Published by:سرسبيندار السنديالمسيح في فكر الإسلام والعقيدة المسيحية
Published by:صباح ابراهيممن يوميات إمرأة حلبجية
Published by:مفكر حراسطورة الإسراء والمعراج
Published by:صباح ابراهيمالفيلم الألماني " حمى الأسرة"
Published by:طلال عبدالله الخوري** جدلية وجود ألله … في ضوء علم الرياضيات **
Published by:سرسبيندار السنديفيلم ايطالي عام 1959 عن تدمر والملكة العربية زنوبيا … علامة المصارع
Published by:مفكر حر** أمة الكُورد بين ألإسلام … والتخلف والتعصب والاوهام **
Published by:سرسبيندار السنديالنظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/10
Published by:علي الكاشأفكار شاردة من هنا وهناك/51
Published by:مفكر حرقراءة متأنية في ديوان (قصائد منزوعة السلاح) للشاعر نينوس نيراري
Published by:آدم دانيال هومه** كيف رتبت أل سي اي ايه … لقاء الصحفي تايكر ببوتين ولماذا ألان **
Published by:سرسبيندار السندي** هل سينجو ملالي إيران بفروة رؤوس … بعد مجزرة طوفان الاقصى وغزة والمنطقة**
Published by:سرسبيندار السنديالنظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/8
Published by:علي الكاشأفاعي السوء وباعة الكذب في مهب الريح( 18-19 )
Published by:حسن محموديأفكار شاردة من هنا وهناك/49
Published by:مفكر حرالانتخاب
Published by:مفكر حر" الاشياء البائسة" Poor Things
Published by:طلال عبدالله الخوريالأدب النسوي ما بين الإبداع والاستغلال
Published by:اسعد عبد الله عبد عليأفكار شاردة من هنا وهناك/48
Published by:مفكر حرالرب يفضح الأنبياء الكذبة
Published by:صباح ابراهيمأخطار تهدد الحياة على الأرض
Published by:صباح ابراهيمكأس عسل
Published by:عصمت شاهين دو سكيسليلة الآلهة
Published by:آدم دانيال هومهأفاعي السوء وباعة الكذب في مهب الريح ( 16, 17)
Published by:حسن محمودي** محنة العقل في الاديان ومعضلة كتبها … بالدليل والبرهان **
Published by:سرسبيندار السندي** لماذا قصف نظام الملالي الارعن … مدينة أربيل ألان **
Published by:سرسبيندار السندياوبنهايمر
Published by:طلال عبدالله الخوري** مَن سيُحاسب قادة حماس … على جرائمهم بحق غزة وأهلها **
Published by:سرسبيندار السندياسرار #الموساد عن #العراق - ج 1
Published by:صباح ابراهيمالمرأة بين الماضي والحاضر مسيرة كفاح وتنمية ونماذج معاصرة
Published by:مفكر حرالنظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/4
Published by:علي الكاشالقاسم الأيمانيّ المشترك :
Published by:مفكر حرعام جديد..
Published by:مفكر حر** قصة مِيلادِ السيّد المَسِيحْ … العجيبة والفريدة **
Published by:سرسبيندار السندي#محمد_الماغوط من الغباء ان ادافع عن وطن لا املك فية بيتنا
Published by:محمد الماغوطأفكار شاردة من هنا وهناك/43
Published by:مفكر حرمن هو يسوع المسيح ؟ - يسوع المسيح يكشف لنا حقيقة الله-
Published by:مفكر حرالنظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/3
Published by:علي الكاشفاطمة الزهراء و غموض تاريخها
Published by:صباح ابراهيم#نزار_قباني: أيها المسيح العظيم هل تقبل دعوتي إلى العشاء .
Published by:نزار قباني** أيا عُبَّاد الهلال … لنا لكم سؤال **
Published by:سرسبيندار السنديهل روح الله هو الله ام جبريل ؟
Published by:صباح ابراهيمأُمة فيها العجب
Published by:عصمت شاهين دو سكيتجاعيد وايجار واتهام
Published by:اسعد عبد الله عبد عليتقاسيم على أوتار الريح
Published by:آدم دانيال هومهالنظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/1
Published by:علي الكاشالدعاء على المسيحيّين
Published by:مفكر حرأحدث التعليقات
- س . السندي on رواية #هكذا_صرخ_المجنون #إيهاب_عدلان كتبت بأقبية #المخابرات_الروسية
- صباح ابراهيم on ** جدلية وجود ألله … في ضوء علم الرياضيات **
- س . السندي on الفيلم الألماني ” حمى الأسرة”
- Sene on اختلاف القرآن مع التوراة والإنجيل
- شراحبيل الكرتوس on اسطورة الإسراء والمعراج
- Ali on قرارات سياسية تاريخية خاطئة اتخذها #المسلمون اثرت على ما يجري اليوم في #سوريا و #العالم_العربي
- ابو ازهر الشامي on الرد على مقال شامل عبد العزيز هل هناك دين مسالم ؟
- س . السندي on ** هل سينجو ملالي إيران بفروة رؤوس … بعد مجزرة طوفان الاقصى وغزة والمنطقة**
- مسلم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- الحكيم العليم الفهيم on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- المهدي القادم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- Joseph Sopholaus (Bou Charaa) on تقاسيم على أوتار الريح
- س . السندي on النظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/3
- س . السندي on اوبنهايمر
- محمد on مطالعة الرجل لمؤخرة النساء الجميلات
- ألعارف الحكيم : عزيز الخزرجي on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- س . السندي on علماء النصارى كانوا يتسمون اسماء اسلامية
- س . السندي on فاطمة الزهراء و غموض تاريخها
- س . السندي on ** أيا عُبَّاد الهلال … لنا لكم سؤال **
- س . السندي on سورة مريم اقتبست من شعر امية بن ابي الصلت
- لينا on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- لينا on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- س . السندي on #محمد_الماغوط من الغباء ان ادافع عن وطن لا املك فية بيتنا
- Mohammad Al Kassab on ضحايا صدام حسين 7
- ابن الرافدين on ** أيا عُبَّاد الهلال … لنا لكم سؤال **
- قثيم بن سنحريب الفيروزي on ** أيا عُبَّاد الهلال … لنا لكم سؤال **
- مسلم on القرآن زور التوراة والإنجيل
- ألعارف الحكيم : عزيز الخزرجي on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- قثم بن عبد الات القرشي on هدف حماس من (طوفان الأقصى) وهدف إسرائيل من اعلان حالة الحرب
- طوفان البدروسي on ** لماذا ورطت إيران قادة حماس … بطوفان الاقصى ألان **