أيمن جزيني
ما من شيء إلا ويقول إن وضع المسيحيين في الدول العربية عموماً وفي لبنان خصوصاً، بالغ السوء. الرثاثة التي آلت إليها أحوال المسيحيين جوهرها الشكلي كان في “الهلع” جراء وحشية “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، قبل أن تصبح “الدولة الإسلامية” بعد إزالة السواتر الترابية بين كل من العراق وسوريا، ثم إعلان خلافة أبي بكر البغدادي.
المسيحيون استنكفوا عن النهوض بدورهم النوعي الذي كان في الشرق عموماً بوصفهم بُناته وصُنّاع حضارته وتطوره، فضلاً عن فتحه على الحداثة في مختلف ميادين السياسة والاقتصاد والثقافة والترجمة.
عن دراية أو جهل، قبل المسيحيون (أو أُجبروا) مديداً. أول الغيث كان بعد نهوض الدول العربية متأثرة شكلاً بالحركات والدول الأوروبية، إذ سُمّي النصارى في دوائر القيد بـ”غير المسلمين” أو “غير المحمديين”. وسكتوا أيضاً عن تهشيمهم أحياناً في مواطنهم المتعددة في الشرق تحت عنوان “عروبة” لا تعدو كونها “عسكريتاريا” هدفها تأبيد أنظمة “أوليغارشية” أو عائلية بغلاف “جمهوري”، كما حال آل الأسد، أو ملكيات لا تتصدع، بخلاف الجبال التي لو أُنزل عليها القرآن لرأيتها “خاشعة متصدعة”.
“العروبة” فضلاً عن كونها وعياً عنصرياً، وانتماءً ثقافياً لإستيعاب الإسلام الذي خلّفته السلطنة العثمانية السيئة الذكر، طرحت نفسها كوعي تحرري، من دون أن تجري أي مراجعة لماضيها الثقيل منذ الجاهلية الأولى. ولم تقدم جديداً في حضور الفرد وحرياته السياسية والشخصية إلا من ضمن إدارات استخبارية قدّمت نفسها بعناوين، من مثل “التوجيه السياسي” و”التوعية الثقافية”.
كل مراجعة لأدبيات “الوعي القومي” المُعبّر عنه بالحركات السياسية التي تصدرت الحكم، أو زعمت معارضةً، تحسم جميعها لصالح وعي جماهيري عام وشعبي يهدر بصوت واحد من دون أدنى قبول بالتنوع، وترذل الحريات وحراك الجماعات وهذرها العصبي.
هكذا، ما انفكت العروبة والإسلام في سياق واحد في تاريخ الفكر والممارسة السياسيين بالعالم العربي. فالإسلام مختلف نوعياً عن اليهودية والمسيحية: الأولى قومية مقصورة على شعب أو “أمة” بعينها، أما الثانية فكانت منذ انطلاقها دعوة كونية مجردة، فيما الإسلام على الدوام ذو مضمون كوني ثم عروبي بالمطلق، بحكم عروبة الرسول والرافعة القومية في مكان الانطلاق، فضلاً وفي الأساس عن اللغة العربية التي نزل بها القرآن.
قومية اللغة الدينية كانت أمراً حاسماً، إذ ورد في سورة إبراهيم: “وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبيّن لهم”. كذلك في سورة الشعراء: “نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين… ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين”. هناك العديد من الآيات التي تؤكد عروبة القرآن، أبرزها ما ورد في سورة الشورى: “وكذلك أوحينا اليك قرآناً عربياً لتنذر أم القرى ومن حولها”. في الوقت الذي تعيد فيه السورة التوكيد أنه “كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون”.
البعد العربي الإسلامي ظل وارف الظلال في ربوع الجغرافيا العربية باستثناء حقبة الحكم العثماني، واستمر كذلك طوال أربعة قرون حتى كان الإصطدام – بعد ذواء السلطنة – مع عصر النهضة والتواصل مع الغرب، لنعرف بعدها ما سمّي هذراً “الوعي القومي” الذي تمخضت عنه فكرة “الوطن” التي لم تكن في يوم من الايام جغرافيا تحكمها قوانين عصرية بالقدر الذي كانت فيه تجميعاً لعصبيات وقبائل.
لا يني الحديث السياسي عن ظواهر الفكر التكفيري والأصولي، والمتعاظم شأناً، منذ 11 أيلول/سبتمبر، يراوح مكانه في تكرار ممجوج للقول بأن الإسلام ليس بالأشكال المعبّر عنها. علماً أن جديداً جوهرياً لم يطرأ. لأنه، وفقط تحت تأثير غزوة نابوليون لمصر وبث أفكار الثورة الفرنسية وعصر الأنوار، صاغ رفاعة الطهطاوي مفهوم “حب الوطن” في كتابه “تخليص الابريز الى تلخيص باريز”.
جاء في الوقت نفسه تطور النزعة القومية التركية عبر جمعية “العثمانية الفتاة” ثم “تركيا الفتاة” ليستثير نزعة قومية عربية مضادة. وقد وجدت هذه النزعة حاضنها الأول لدى المثقفين المسيحيين في “بلاد الشام”، على ما كانت التسمية آنذاك، من أمثال ابرهيم اليازجي وجرجي زيدان وفرح أنطون، ولاحقاً شبلي شميل. حتى أن هؤلاء لم يفلحوا إلى التغيير سبيلاً عبر فكرة “العلمانية” للفصل بين الإسلام والسياسة، بدليل أنه لم يوجد يوماً أيّ بناء سياسي أو ثقافي للوعي العلماني في مختلف المجتمعات العربية أو الإسلامية، ما خلا الزواج المدني الذي يتشابه ولا يتماثل مع ذاك الموجود في الغرب، وعلى اعتبار انه عقد.
أكثر من ذلك، انبرى “ثلاثي التيار السلفي” (الافغاني، عبده، والكواكبي) إلى إصلاح إسلامي يعود بالإسلام الى ما كان عليه في الصدر الأول. ودائماً كان متن “الإصلاح” الرسالة الإسلامية بقيادة عربية. تجلى الوضوح بدعوة الكواكبي الى إحياء الخلافة العربية كـ”خلافة روحية خالصة” ليس لها ان تتدخل في الشأن السياسي الذي أخضعه لنوع من تقسيم إثني: فللعرب إمرة الدين، وللمصريين قيادة شؤون الحياة المدنية، وللعثمانيين إمرة الديبلوماسية، وللأفغان والمغاربة شؤون الدفاع والحرب، في حين أن إمرة الحياة العلمية والاقتصادية ينبغي أن تعود إلى الفرس والهنود.
في ظل هذه “البروباغندا” القومية، سقطت نخب مسيحية كثيرة على مثال ادمون رباط وقسطنطين زريق وميشال عفلق. بل ان الكاتب الفلسطيني المسيحي خليل اسكندر قبرصي، بادر في العام 1931 الى “دعوة نصارى العرب الى الدخول في الاسلام”. الأسوأ أن الماروني فارس الشدياق سبقه عندما اعتنق الاسلام وتلقّب باسم أحمد، فيما الأرثوذكسي ميشال عفلق أنهى حياته باعتناق الاسلام، على ما فاخر البعثيون فرحاً.
غالباً ما كانت “القومية العربية” مشروع أزمة وليس فكرة، ذلك أنها ما استطاعت الإنفصال عن الإسلام على الرغم من أن نجاح الثورة الاسلامية الإيرانية حاول تكريس قطيعة ما بين العروبة والإسلام.
في ظل هذا الحراك الرهيب، كان المسيحيون على الدوام في انتظار قيام الدولة المدنية المتصالحة مع مختلف مكوّناتها على اختلاف منابتهم ونوازعم الثقافية. بدأوا يستنكفون شيئاً فشيئاً عن ممارسة أدوارهم، لصالح النهوض بوظائف “كهنوتية” الطابع والمضمون والمؤدى. أو قُل إنهم كانوا يُجبَرون على ذلك بذريعة المعركة مع المستعمر، ثمّ مع الكيان الصهيوني العنصري، فيما الأنظمة العربية موغلة في شعوبية جلية.
لم تُجدِ المفاخرة العربية “الناصرية” أو “البعثية” في سد الثغر والحؤول دون تهجير المسيحيين عن أرضهم، وفي أرضهم أحياناً. هكذا كانت الحال في مصر والعراق وسوريا. حتى أن استمرار هذه الأنظمة في بلدانها، غالباً ما كان يستدعي من القائمين فيها استخدام الدين، والحرص على أداء الصلوات في المساجد كان أسخفها وأكثرها مدعاةً للسخرية، ولم تسعفها في البقاء على قيد الحياة في ظل تصاعد متنامٍ لوعي إسلامي جذره الأصلي في الصدر الأول من الإسلام.
كما أن سقوط هذه الأنظمة وانكشاف عوراتها الفكرية والسياسية والثقافية منذ سقوط فلسطين ثمّ هزيمة مشروع الرئيس المصري جمال عبد الناصر، فصدّام حسين في العراق، وآل الأسد الكرام في سوريا، ذلك كلّه غالباً ما أفضى إلى إضعاف المسيحيين الذين كانوا يتصرفون ليس كمواطنين، بل كأنهم نزلاء فنادق يغادرونها كلما تدنّت نوعية الخدمات. غالباً ما بدت المسيحية – أهلاً وقيمةً حضاريةً – كأنها محمولة على إنكار حضورها ودورها في حقول السياسة والثقافة والاقتصاد. وغابت عن الفاعلية في ميادين التنوع والتعدد والبحث عن الحقوق في الدولة وعليها.
الأكثر تجلياً في هذا السياق، كان في لبنان، حيث الكنيسة المارونية “أمّ الكنائس”. فقد سكت المسيحيون عن كلّ ما حلّ بهم من جرّاء مغامرات بعض قيادييهم، وإن لم يسكتوا من جرّاء العنف والقمع اللذين نهض بهما الجيش السوري واستخباراته مدة 29 عاماً برضاء سنّي – شيعي، وخفر يساري يشبه ذاته. لكن هذا السكوت صار مرضاً مستعصياً بعد “ثورة الأرز” في العام 2005 جرّاء استئثار الإسلام السياسي وهيمنته، بشقّيه السنّي والشيعي. حتى أن الطائفتين الإسلاميتين أصبحتا تتنافسان على مَن ترسله إلى بعبدا، حيث مقرّ رأس الدولة “ورمز وحدتها”.
الأسوأ، أن الفراغ الرئاسي هو بحقّ، فراغ مسيحي متأتٍّ من عاملين: الأول يكمن في التجاذب المسيحي – المسيحي وانخراطه راضياً مرضياً في دائرة المقايضة الإقليمية والدولية. أما الآخر فسببه التنافس السني – الشيعي، الخاضع بدوره لأجندات مذهبية منبتها ونازعها الأوحد ما وراء الحدود، الأمر الذي يمنّ على الجميع بأدوار وازنة، فيما المسيحيون ينتظرون أمر الله “وما بدّلوا تبديلا”.
ليس افتئاتاً على الراهن القول بأن الإرادة المسيحية العامة رهن الأقوياء الأربعة: ميشال عون، سمير جعجع، سليمان فرنجية، أمين الجميل. كلهم كانوا قادة حروب، ليتوازوا بذلك مع من يتصدر الحالين الشيعية والدرزية في آن واحد. في الأحوال كلها، فإن الجميع حواصل سياسية لما سيفضي إليه الاشتباك السني – الشيعي في المنطقة، والمعبّر عنه عندنا على الجبهة الشرقية للحدود اللبنانية وفي الخلايا “الداعشية” النائمة التي تستيقظ من سباتها بين الفينة والأخرى.
قبل هذا كلّه، هناك “حزب الله” وفائض قوته الذي لم ينضب بعد، ولم يبدر منه أيّ خوف عقلاني على الواقع الشيعي في حسم انتمائه نهائياً إلى لبنان الكيان النهائي أو لبنان الرسالة، على ما خلص إليه الإرشاد الرسولي. بل على النقيض من ذلك، تنحو هذه المنظمة الأمنية والعسكرية في إتجاه ربط البلد مع إيران الفارسية سياسياً، إنما بلبوس ديني ديدنه “ولاية الفقيه” وفقا لما جاهر به السيد حسن نصر الله “الأمين على الدماء”، على ما يحب محازبوه ومناصروه مناداته.
لا يكذب “حزب الله” حين يقول إنه حزب ديني لا طائفي. ذلك أنه في نشأته نهض على رفض “المارونية السياسية” التي كانت في حاصلها تحالفاً مع الإقطاعية الشيعية والبورجوازية التجارية السنّية. كما نهض على شعارات “حجابك أختي أفضل من دمي” و”نعم للجمهورية الإسلامية لا للأقلية المارونية”.
مضى “حزب الله” أبعد من ذلك كثيراً، حين جعل من الغيتوات الشيعية كتلاً حسية لفكرة الموت، فما إن تدخل حواضنه الأهلية وقراه ودساكره حتى تلاقيك على امتداد هذه المساحات صور “الشهداء” الذين لا يُعرف في أيّ معارك قضوا، وهي كثيرة تبدأ بالقتال في إيران الى جانب الثورة الخمينية ضد نظام صدام “الكافر”، مروراً بانفجار الطائفة على ذاتها في حربَي إقليم التفاح تحت وطأة سحر الإنجذاب إلى إيران أو سوريا، وصولاً إلى “شهداء الواجب الجهادي” في القلمون، ومن دون أن ننسى المعارك المتوزعة ضد بقايا “الحركة الوطنية” ومفكريها.
الموت عند “حزب الله” غذاء تعبوي لبيئته الأهلية، إذ إن الشيعي يكاد يحيي أيام السنة بالذكرى العاشورائية لهذه المناسبة أو تلك، سواء تذكراً أو تفكراً بشخصية ما، ساهمت في صوغ التاريخ الأهلي للشيعة. لكن هذه المنظمة الأمنية والعسكرية الأقوى في لبنان سلكت مسالك الطائفية بعدما انخرطت مُباركةٌ من “الوليّ الفقيه” في مؤسسات الدولة يمنةً ويسرة، لتباشر دورها الإقليمي غير آبهة بـ”ميثاقية” البلد وأهله.
أما على ضفة الأصولية السنّية، فقد أغدق الله نعمه على اللبنانيين بـ”فتح الإسلام” و”النصرة” و”داعش” و”جماعة الشيخ أحمد الأسير” وغيرها الكثير من “الألوية” و”الكتائب” المنكهة بأسماء قادة مسلمين كان دأبهم الفتوحات بالسيف والسبي وإخضاع المهزومين. ومضت هذه الجماعات على هدى “الثورة الخمينية” في بناء ذاتها الشعبية من طريق “السمعة الرقمية” التي استخدمتها لبثّ التسجيلات الصوتية وأفلام القتل العبثي والمجنون، داعية إلى الخضوع والتسليم برشدها وخبرتها في شؤون الدين والدنيا مع وعد سرمدي بـ”الجنة”.
ما من قائد في هذه الجماعات المهجوسة بالعودة إلى “صدر الإسلام” وإحياء “دولة الخلافة”، إلاّ ودعا إلى القتل والحرق، كما الإحتجاج على الرسوم الكاريكاتورية في الأشرفية، إذ أحرق العلم الدانماركي المشفوع بـ “الصليب”، لكن أحداً لم يحرك ساكناً، بينما قامت الدنيا ولم تقعد عندما أُحرق علم “داعش” احتجاجاً على اعتداء هذه المنظمة الإرهابية على سيادة لبنان وخطف عسكريين وذبح بعضهم.
غير ذلك، رُفعت أعلام “داعش” في عرسال وطرابلس وبيروت، ولم تفلح القوى الأمنية في توقيف أحد من الفاعلين، بينما الأجهزة عينها كانت تستدعي زمن الوصاية السورية أفراد “القوات اللبنانية” و”التيار الوطني الحر” لتوقيع “تعهدات” بعدم النهوض بأيّ حراك سياسي يندرج في صلب حقوق المواطن وعليه.
هذا كله، في حين يتنافس المسيحيون على مناقشة صوابية مقاتلة “داعش” استباقياً، وفقاً لما يراه “حزب الله” مناسباً، أو على أحقية هذه الجماعات وما شابهها كـ”الأخوان المسلمين”. مفتاح النظر الصائب عند المسيحيين لا يرى خطورة لا في قدرة “حزب الله” على بزّ الخمينيين لجهة تسخير إعلامه للتدخل في البحرين واليمن وبعض المملكة السعودية، ولا في قدرة “داعش” التي تجاوزت “تنظيم القاعدة” شروراً واستئساداً على الإمساك بالجغرافيا والتحكم من خلالها بالتاريخ والسياسة.
اليوم، لا يقوم المسيحيون بدورهم، بل يغامرون بـ”مؤتمرات”، ويستدعون الغرب لحمايتهم، وهو لم يحرك ساكناً أمام مشاهد الإبادة التي نفذها “جيش آل الأسد”، ولا أمام مشاهد السبي والاغتصاب والتشريد والإبعاد التي قام بها “داعش” في العراق وسوريا. يتناسون أن الولايات المتحدة وأوروبا، أو ما صار يعرف اصطلاحاً بـ”التحالف الدولي”، لم يتحرك الا بعد مقتل صحافيين أميركيين وبريطانيين واستشعار الخطر على أبوابه وفي عواصمه.
يُغفل المسيحيون أن اتفاق اللبنانيين في العام 1943 على صيغة الميثاق الوطني واعتماد التوزيع الطائفي للسلطات والصلاحيات في البلاد، على أن يشغل الرئاسة الأولى مسيحي، وتحديداً من الطائفة المارونية كان عرفاناً وتقديراً لدورهم. لم يكن يخطر في بال أكثر المتشائمين آنذاك أن يتحول هذا التقدير لدور المسيحيين اللبناني والعربي، إلى وبال عليهم يهدّد اشتداده وحدة الدولة ومؤسساتها بعد نحو 100 عام. هكذا نسوا، أو غمطوا نضال البطريرك الياس الحويك في مؤتمر الصلح في باريس لإرساء لبنان الكبير، حين ضمّت الأقضية الأربعة بغالبيتها المسلمة التي رفضت أولاً الالتحاق بـ”الكيان الوليد”، قبل أن يرسي رياض الصلح وبشارة الخوري صيغة الميثاق الوطني. كذلك فعلوا بالنسبة إلى المدرسة المارونية في روما ودورها في تثقيف جيل كامل ساهم في نقلة تنويرية في لبنان والمنطقة، ما جعل الطائفة المارونية رائدة في محيطها. اضف الى ذلك دور أدباء المهجر و”الرابطة القلمية” وكذلك أمثال بطرس البستاني وغيرهم في مواجهة التتريك الذي حاولت السلطات في اسطنبول فرضه على الولايات العربية في السلطنة العثمانية.
وصل المسيحيون يتقدمهم الموارنة إلى أوج مجدهم في لبنان وعلى مختلف المستويات مستفيدين من الإنفتاح المبكر على الغرب وفرنسا تحديداً وليس باستدعائه للحماية.
لكن منذ 1943 وحتى في عز الحرب الأهلية، حرص الموارنة وباقي مكوّنات لبنان على انتخاب رئيس جمهورية جديد وفق المواعيد الدستورية. حتى في الفترات الاستثنائية مثل استقالة الرئيس بشارة الخوري، شغل قائد الجيش فؤاد شهاب المنصب كرئيس لحكومة انتقالية أمّنت انتخاب رئيس جديد هو كميل شمعون خلال أيام قليلة.
لكن هذا العرف الراسخ في تأمين انتخاب رئيس للجمهورية وفق المواعيد الدستورية، تحوّل في السنوات الأخيرة إلى عرف معاكس جعل الفراغ الرئاسي هو السائد والمعتاد.
فبعد الفراغ الذي شهدته البلاد في العام 2007 مع نهاية ولاية إميل لحود الممددة، واستمر لأشهر، تشهد البلاد حاليا منذ 25 أيار الماضي، الفراغ الرئاسي الثاني على التوالي، الذي يأتي في أكثر الأوقات حراجة.
هذا الفراغ هو الثاني بعد اتفاق الطائف، والثالث اذا ما حسبنا ذلك الذي تلا ولاية الرئيس أمين الجميل في العام 1988. ويبدو أنه في الحالات الثلاث يجب أن تفتّش عن “جنرال” ما ليطمئن المسيحيين بسيرته العسكرية في موازاة “عسكرة أهلية” لا تني تتنامى كالوحش.
فالجنرال ميشال عون ترأس حكومة انتقالية مهمتها تأمين انتخاب رئيس، الأمر الذي لم يحصل. وفي العام 2007 أدّت عوامل عدة بينها إصرار عون على الترشح للرئاسة، الى تعطيل الاستحقاق الدستوري لنحو عام. الأمر نفسه يتكرر اليوم، لكن ما يجعله اكثر خطورة أنه يأتي في وقت تجتاح “الأصولية التكفيرية” المنطقة، فارضةً تهجيراً قسرياً على مسيحيي العراق، وتهديداً لمسيحيي سوريا، ورعباً لمسيحيي لبنان. أما وأن المسيحيين قد قبلوا الخسارة، وربحنا في المقابل هيمنة “حزب الله” ورعب “داعش”، فليس لنا إلا شكر “الشيطان الأكبر” على الحرب من السماء. فبالشكر تدوم النعم.
نقلا عن النهار